مازالت الغالبية العظمى من المصريين لا تجد نفسها بين الأيديولوجيات المختلفة ولا تتحمس للاندماج فى التيارات الأساسية الموجودة فى فضاء العمل العام، مازالت الملايين تبحث عن الانتماء والارتباط بما يلبى احتياجاتها ويتلاءم مع أولوياتها النفسية والعقلية.
عجزت التيارات الأساسية أن تقدم للسواد الأعظم من المصريين برامجها وأفكارها، فما بين تيار يتضاءل عدده باستمرار- حتى وصل للعشرات- من كثرة انشقاقاته الداخلية وراديكالية خطابه، إلى تيار آخر نخبوى يستعلى على الناس ويحدثهم من أبراج عاجية بخطاب لا يقدر قيمهم ويصر على الانسلاخ من الهوية، بينما تيار ثالث يعيش فى صفحات التاريخ ويتغنى بأمجاده، وتيار رابع مازال عاجزا عن التعاطى مع الواقع وقراءته بشكل صحيح، فحبس نفسه بين اجتهادات السابقين، وأهدر كثيرا من الطاقات والموارد التى لم تتح لغيره.
ينظر كثير من المصريين إلى هذه التيارات نظرات التشكك والخوف والقلق، وتمضى أحلامهم تسبح فى بحر الأمانى لتبحث عن تيار جديد يجدون فيه أنفسهم وأحلامهم وأمانيهم لهذا الوطن، يبحثون عن تيار يتصالح مع الدين ويقدسه ولكنه يربأ به عن النزول لساحة التوظيف السياسى وتغييب عقول البسطاء لتفضيل خيارات معينة، تيار يحترم قيم المجتمع ويحافظ على الهوية ولكنه يتطور باستمرار ويستجيب لفقه الحاجات والأولويات.
تيار لا يرفع شعارات فضفاضة بلا مضمون، بل يخرج من كل مضمون لديه شعارات تعبر عن وضوح رؤية وعزم حقيقى على الإنجاز، تيار يحافظ على وحدته ويقدم نموذجا للعمل الجماعى والترابط الداخلى، تيار يقوم على الأفكار والمبادئ لا الأشخاص، يعلى قيمة العمل المشترك ولا يصر على إقصاء أى طرف مخالف، يقر قيمة الاختلاف ويحترم الرأى الآخر ولا يعرف لغة التخوين والمزايدة على المخالفين فى الرؤى والتوجهات.
تيار يجعل مصلحة الوطن هى قيمته العليا ويؤخر أى مصلحة حزبية أو أيديولوجية، لأن الوطن فوق الجميع، تيار يتسق مع أفكاره ومبادئه فلا يتلون ولا يبدل جلده من أجل مصالح ومكاسب لحظية ولكنه يتحلى بالمرونة الكافية للتفاعل مع الأحداث ويقدم نموذجا مختلفا للفعل السياسى القائم على أسس أخلاقية لا تعرف الكذب أو الغش أو الافتراء.
تيار يقترب من الناس ويعرف همومهم ويتفاعل معها، تيار يؤمن بقيمة الإنسان وأنه محور النهضة، لا يزدرى البسطاء ولا يركز على النخب، فملح الأرض عنده له نفس الأهمية التى يعطيها للنخب والطبقات العليا.
تيار يتفهم المصالح المشروعة للأغنياء والمخاوف الواقعية للفقراء، فيوازن بين هذا وذاك، فلا يشطط بل يعدل فى الرؤى والاهتمام وحفظ المصالح، تيار لا يعادى أى طبقة اجتماعية، ولا يحرض الطبقات على بعضها ليكسب بالكراهية ويفكك السلم الاجتماعى.
تيار يملك الجرأة والشجاعة للاعتراف بالأخطاء، فلا يدافع عنها ولا يبررها بل يسعى لتقويمها ويرحب بالنقد البناء ويراه من أهم وسائل التطوير وتحسين الأداء.
تيار يخرج من بين الناس ويشق الطريق من أسفل إلى أعلى، تيار يفرز الرموز والقيادات ويصنعها وليس تياراً تصنعه الرموز، قوته فى جلاء أفكاره ووضوحها ونقاء مقاصده وسلامتها، تيار يعمل للوطن ويواجه كل التحديات ويمضى فى طريقه لتحقيق النهضة، ويدرك أن النهضة لا تأتى من عمل مجتزأ فى مسار واحد، بل يرى ضرورة تكامل المسارات وتلاقيها، فهو يناضل من أجل الوصول للتحول الديمقراطى الكامل ونشر الوعى السياسى، وفى الوقت نفسه تتحرك مؤسساته الاجتماعية للتنمية بالثقافة والفنون ومساعدة المجتمع فى الارتقاء الحضارى، وهو كذلك يتبنى الخطاب الدينى المجتمعى المستنير وينشر أفكاره وقيمه ولا ينسى الجانب الاقتصادى الذى صار عصب الحياة، فيتحرك المتخصصون فيه لوضع البرامج الواقعية القابلة للتنفيذ لتلبية احتياجات الناس وتفهم همومهم ومشاكلهم اليومية الحياتية.
تيار لا يستبدل دور الدولة ولكنه يهيئ هذا الوطن للنهضة ويخرج من أعماقه رجال دولة يستطيعون أن يحققوا النقلة النوعية فى أسلوب الإدارة، تيار يقدم للمجتمع رموزا من شبابه تشكل نخبا جديدة طال انتظارها، نخباً جاءت من بين الناس لتبقى بين الناس، نخباً تقدس قيمة العمل الجماعى وتصر على المنهجية وتتحلى بإنكار الذات.
سيرانا البعض حالمين ولكن جيلنا يفخر بأنه يملك القدرة على الحلم ولكنه حلم يتبعه أمل وعمل، وكما كانت ثورة ٢٥ يناير حلما حلمنا به وتحقق، فإن هذا التيار أيضا حلم بدأ فى التكون وتتضافر لبنائه الجهود والأيادى، وعهدنا لمصر أن نحقق لها حلمها ونكمل خطواتنا التى بدأناها مع أعظم ثورة شعبية فى التاريخ الإنسانى.
إن الفرق بين جيلنا وغيره من الأجيال أننا نؤمن بأنفسنا ونؤمن بقدراتنا وأننا نصدق أحلامنا ونقاتل لنجعلها حقيقة، فلينتظر الوطن منا ما هو أروع، وإن غداً لناظره قريب
د. مصطفى النجار - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment