فى الأسبوع الماضى، غادرت البلاد للمرة الأولى منذ اندلاع ثورة ٢٥ يناير، للمشاركة فى فعاليات مؤتمر «التطورات الاستراتيجية العالمية: رؤية استشرافية»، الذى عُقد فى أبوظبى، لذا فقد كنت حريصاً على رصد كل التغيرات التى طرأت على صورة مصر فى الخارج، وعلى تصورات الآخرين عما يجرى بها، وما يتوقعونه لها، أو يأملونه منها.
جاءت الإشارات على الفور بمجرد أن التقطت صحيفة «الشرق الأوسط» فى المطار، لأجد مقالاً للكاتب العراقى خالد القشطينى تحت عنوان «مصر ترفع رأسنا»، يقول فيه إن «مواطناً مصرياً وصل بريطانيا قبل أيام، فقدم جواز سفره فى المطار لضابط السفر. نظر الضابط فى الجواز وسأل: أنت مصرى؟ فقال صاحبنا: نعم مصرى أباً عن جد. رفع الضابط جوازه عالياً لزملائه، وصاح: هنا واحد مصرى. دوت من كل الموظفين والمسافرين عاصفة من التصفيق، وهم ينظرون إليه، وهتفوا: فلتعش مصر».
بداية مشجعة على أى حال، لم تلبث أن تعززت بمقال آخر وجدته منشوراً فى صحيفة «الاتحاد» الظبيانية التى تم توزيعها فى الطائرة، تحت عنوان «السياسة الأمريكية إزاء مصر»، لـ «جيم روسابيب»، يحض فيه الولايات المتحدة على دعم مصر فى عملية الانتقال الديمقراطى، مؤكداً أن «مصر بإمكانها أن تكون مثل إيطاليا فى سنوات قليلة».
كان المؤتمر، الذى نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، مخصصاً لبحث التطورات الاستراتيجية العالمية بمفهومها الواسع، وقد حرص على دعوة نخبة من أفضل الباحثين والسياسيين فى العالم، للخروج برؤية استشرافية متكاملة عما يمكن أن تسفر عنه التحولات الراهنة على صعد الأمن والسياسة والاقتصاد.
لكن الثورة المصرية، ضمن التغيرات الواسعة التى تجتاح العالم العربى حالياً، هيمنت على معظم المداولات الرسمية وغير الرسمية، وظلت سؤالاً يتكرر فى مختلف الأوقات، وبرهنت على أنها محل اهتمام طيف عريض من السياسيين والباحثين من مختلف دول العالم.
كانت الجلسة الختامية تتويجاً رائعاً واحتفاء إيجابياً بالثورة المصرية ومستقبلها، خصوصاً عندما تحدث وزير الإعلام الكويتى الأسبق د. سعد بن طفلة العجمى عن ضرورة إطلاق «مشروع مارشال» خليجى، يوفر لمصر ١٠٠ مليار دولار على مدى خمس سنوات، لمساعدتها فى تجاوز الأزمة الراهنة، وإعادة بناء نفسها، «لأن العرب بلا مصر لا شىء» ـ على حد قوله.
أحد المشاركين فى الجلسة الأخيرة كان إماراتياً قام للتعليق على كلمة الوزير الكويتى السابق، مؤكداً أنه تعلم فى مصر، وأنه يدين لها ولشعبها بالفضل لكونه أصبح طبيباً ناجحاً قادراً على خدمة بلاده، ومعتبراً أن أى مساعدة تقدمها دول الخليج الغنية لمصر الآن لدعم تحولها الديمقراطى إنما هى «مساعدة لأنفسنا».
فى السيارة التى تقلنا من الفندق إلى مقر المؤتمر، يخبرنى د.على فخرو، وزير الصحة والتعليم الأسبق فى البحرين أن «كل التحديات التى يمكن أن يواجهها المصريون الآن، وكل ما يقدمونه من تضحيات، يتضاءل كثيراً أمام الإنجاز الكبير الذى تحقق، والتغير الذى لاشك سيسرى فى المنطقة العربية نحو الديمقراطية والحداثة».
المعنى ذاته يؤكده لى د. فرانك أندرسون، رئيس مجلس سياسات الشرق الأوسط بالولايات المتحدة، بعدما سألنى: «هل قمت بالتصويت فى الاستفتاء؟»، و«هل كنت متأكداً أن صوتك لن يتم تزويره؟».
أجواء من الإحساس بالفخر والثقة يمكن أن تظلل أيامك، والكثير من التفاؤل والبهجة يهيمن على الأسئلة والإجابات معظم الوقت، لكن شيئاً ما يلح ويعكر الصفو أحياناً.
بعد تهنئة عميقة، يحرص صديقى الباحث السودانى عبدالله عمر على تذكيرى بانتفاضة ١٩٨٥ فى بلاده. يقول عبدالله: «كان عمرى ٢٤ سنة، حين عدت إلى المنزل من التظاهرة مبتهجاً، لأخبر أخى الأكبر المنتمى لـ(الإخوان المسلمين) بأننا أسقطنا النميرى، لكنه لم يصدق، وسألنى مستنكراً: (كيف ستسقطون نميرى ونحن نائمون فى البيوت؟)».
يضيف عبدالله أن «تحالفاً خبيثاً نشأ على الفور بين العسكر والإسلاميين، فأطاح بالحكومة المنتخبة انتخاباً ديمقراطياً، وحكم السودان لأكثر من ٢٠ عاماً، وقاده إلى الضعف والفقر والتمزق والانفصال».
عند عودتى كانت الأخبار مختلفة؛ فالأقباط معتصمون أمام ماسبيرو للإفراج عن معتقليهم، ووزير الداخلية يطلب تشكيل لجنة حكماء لـ «التصدى للفتنة الطائفية»، والحديث عن عبارة «غزوة الصناديق» لا ينقطع، بل يحظى صاحبها باستقبال الأبطال من قبل آلافٍ صلوا الجمعة وراءه.
تنقل الصحف عن د. محمد البلتاجى قوله إن «الجماعة لن تبقى طول الدهر لا تسعى إلى الحكم والرئاسة»، وعن سعد الحسينى قوله إنه «لا يوجد مانع من استخدام شعار الإسلام هو الحل فى الانتخابات»، وعن عبدالمنعم أبوالفتوح تفكيره فى الترشح للرئاسة، وعن الشيخ محمد حسان تأكيده أن «المسلمين هم الذين سيحمون أهل الذمة من الأقباط وسيحمون دور عبادتهم وأموالهم ونساءهم وبناتهم».
كنا حلمنا، وحلم معنا العالم، بثورة تأخذنا إلى حيث وصلت إيطاليا، لا إلى حيث وصل السودان
ياسر عبدالعزيز - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment