لم تكن الثورة التى أشعلها شباب مصر فى اليوم الخامس والعشرين من شهر يناير عام ٢٠١١م كغيرها من الثورات التى ألفناها عبر التاريخ. لم تكن تمرداً، أو انقلاباً عسكرياً، أو ثورة فئوية، أو اغتصاباً للسلطة فى غياب الأب، ومثلما أصبحت حرب أكتوبر ١٩٧٣م نموذجاً فريداً للتكتيك العسكرى والقدرة القتالية والمفاجأة يدرس فى المعاهد والمراكز العسكرية الغربية، سوف تدرس ثورة شباب مصر أيضاً كنموذج للثورات البيضاء، ذات المفاجآت غير المتوقعة، ومغزى المفاجأة ليس فقط عدم توقع القيادة السالفة لها، وهى المعروف عنها قبضتها الأمنية، التى كنا نظنها حديدية لا تخترق، بل تفاجأ القوى الدولية بها أيضا لدرجة جعلت مدير الـCIA يتعرض للمساءلة الحادة من مجلس الشيوخ الأمريكى لقصور جهازه فى رصد قدرة مصر على الثورة التى أطاحت بشريك أساسى لأمريكا فى تنفيذ سياستها فى الشرق الأوسط.
لم تكن مفاجأة شباب مصر للعالم فى أن شبابا من كل الأطياف والأعمار، ذكورا وإناثا، مسلمين ومسيحيين، هم الذين فجروا هذه الثورة على مستوى صعيد مصر فحسب، بل بقدرتهم المطلقة على الاحتشاد والتنظيم وقتما يشاءون، كما كشفوا عن ملامح ثائر جديد لا يحمل مسدسا ولا بندقية ولا مطواة أو سكينا، ثائر يمقت العنف والدماء، يكشر عن أنيابه، تطلق عيونه شرار الغضب دون أن يطلق رصاصة أو يشعل ناراً، يطلق صوتا يخترق الآذان التى امتلأت وقرا عبر ثلاثين عاما، فاستطاع بعزيمته أن يسقط النظام بكل آلياته الحديدية وعناصره الإجرامية.
ومن المفاجآت المثيرة أن العالم اكتشف أن المصريين يحبون بعضهم بعضاً، يعانق المسلم أخاه المسيحى، يصلون جنبا إلى جنب، يحرسون دور عباداتهم معاً دون أوامر من السلطان يقتسمون الخبز فى ميدان التحرير فى أشد لحظات الضنك، يطببون بعضهم بعضاً، دون أن يسأل المصاب عن ديانة المطبب. اكتشف المصريون أن بذور الفتنة التى كانت تجتاح مصر هنا أو هناك هى صناعة أمنية حقيرة فى إحدى ورش السلطان، ووسيلة رخيصة يستخدمها وزير الدرك ذريعة ليبقى بها على عرشه.
ومن المفاجآت التى أذهلت المتابعين للثورة أن ثوار مصر محترفون فى التكنولوجيا الرقمية وفك الشفرات الأمنية، وأكاد أزعم أن أركان النظام السابق مازالوا يتساءلون حتى الآن ما الذى حدث؟ وكيف؟ لقد اندهش العالم لإصرار ثوار مصر الشديد على تحقيق جميع مطالبهم المشروعة، وهو ما تم لهم، فتهاوت أعمدة المعبد على رأس شمشون العجوز.
لقد فاجأ المصريون العالم بحبهم الجارف لمصر، وبأن مفهوم المواطنة متغلغل فى أعماقهم، لم يكن بحاجة إلى لغط أو قانون يفرضه عليهم، فكانت أرواحهم الطاهرة أكبر دليل على ذلك، وأثبتوا أنهم رمز فريد للتحضر والرقى، فقالت عنهم قناة CNN «إنها أول مرة نرى فيها شعبا يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعدها»!! ما أروع شباب مصر الذى استحق أن يقول عنه الرئيس الأمريكى باراك أوباما: «يجب أن نربى شبابنا ليصبحوا كشباب مصر» وتستحق الثورة المصرية أن تدرس فى المدارس كما قال رئيس وزراء بريطانيا.
د. طارق منصور
أستاذ التاريخ بآداب عين شمس
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment