من رأى ليس كمن سمع، ومن ينزل إلى الناس فى المدن والبلدات والقرى الخلفية غير من يقرأ عنهم فى تقارير صامتة داخل مكتبه البارد. هكذا آمنت من جديد وأنا جالس فى سرادق كبير حافل بالبشر أقيم بالساحة فى مدينة بنى مزار من أعمال محافظة المنيا، تلبية لدعوة من «رابطة محبى بنى مزار». كانت الوجوه تعلوها مخاوف وهواجس وقلق على «ثورة ٢٥ يناير» لكن الجميع كان يبدى عزما لا يلين، وإصرارا لا يتزعزع على الكفاح المتواصل من أجل أن يصل المصريون إلى تحقيق كل الآمال التى علقوها على ثورتهم العظيمة.
دعتنى الرابطة فدعوت بدورى الخبير الاقتصادى البارز والمناضل المحترم الأستاذ عبدالخالق فاروق، وكذلك الأستاذين عبدالرحمن سمير من ائتلاف شباب الثورة وأحمد البان من شباب جماعة الإخوان المسلمين. فوجئنا جميعا بمستوى وعى الحاضرين، من خلال مطالعة أكثر من مائة سؤال جاءتنا على المنصة بعد أن فرغنا من إلقاء كلماتنا التى دارت حول «مستقبل مصر بعد الثورة». ولو أخذت الحاضرين كعينة من المصريين فإن ما أنتهى إليه باطمئنان هو أن هناك قلقاً يتصاعد حيال ما يجرى الآن من محاولات لتفريغ الثورة من مضمونها، أو الإجهاز عليها تدريجيا، وبأعصاب باردة.
قلنا لهم: أنجزنا ثورة أبهرت العالم، وعلينا أن نواصل الجهد لنحميها من اللصوص والانتهازيين وكهنة الدولة الذين يزينون الباطل، ويغرون من بيدهم الأمر ليبقوا فيه، ويوغرون صدورهم على كل وطنى شريف غيور على بلده طامح إلى أن تصبو الثورة إلى إنجاز كل أهدافها، ويختارون لهم ويقدمون إليهم أنصاف الرجال وأنصاف الموهوبين والواقفين فى منتصف المسافات. قلنا هذا فردّوا علينا فى أسئلتهم: من الذى اختار وزارة عصام شرف؟ وكيف نطمئن إلى أن فريقها الموزع بين رجال النظام السابق وكبار السن الذين ليس لديهم كثير يقدمونه إلى بلادهم لأن أيامهم وراءهم وليست أمامهم؟ وما السبيل إلى استرداد الأموال المنهوبة؟ ولماذا يتأخر المجلس العسكرى الأعلى فى اتخاذ إجراءات لمحاكمة الذين أفسدوا الحياة السياسية لعقود من الزمن مثل صفوت الشريف وفتحى سرور وزكريا عزمى؟ ولماذا يترك أذناب وفلول الحزب الوطنى يعيثون فسادا فى البلاد، وهم من احتكروا الدولة لصالحهم وخربوا الذمم وزوّروا الانتخابات؟ وهل محاكمة سارقى الأموال تقدم على محاسبة من أفسدوا السياسة بعد ثورة شعبية؟
ولما جاء الحديث عن المستقبل، تلقينا أسئلة من قبيل: من نختار فى انتخابات الرئاسة المقبلة من بين المتنافسين المطروحين الآن على الساحة؟ وما الشروط الواجب توافرها فيمن نختاره؟ وتطوع أحدهم وأرسل تعليقا وليس سؤالا حدد هو فيه هذه الشروط وأجملها فى ضرورة أن يكون رئيسنا المقبل نزيها، شريف اليد، كفئا، أمينا على البلاد والعباد، لائقا لقيادة المرحلة المقبلة التى تحتاج إلى بناء نظام سياسى ديمقراطى، وألا تكون له صلة بالنظام البائد، وأن يكون قد قال لمبارك: لا، أو قدم تصورا معارضا له، فى وقت كان فيه الرئيس السابق فى عز جبروته وسلطته، وليس الذى يظهر بعد سقوط النظام ليسعى إلى القفز على منصب الرئيس.
وبالطبع تطرق الحوار إلى الانتخابات البرلمانية المقبلة، وجاءت أسئلة عن مواصفات من يختارونه نائبا عن دائرتهم؟ وأيضا أرسل البعض إلينا تعليقات حول هذه النقطة تتحدث عن ضرورة أن يكون النائب القادم مؤمنا بأن دوره هو مراقبة أداء الحكومة، والمشاركة فى سن التشريعات التى تصب فى مصلحة الوطن، وليس مجرد «رجل تشهيلات» ينحنى أمام الوزراء بحثا عن فرصة عمل أو خدمة بسيطة لأهل الدائرة، هى حق لهم يجب أن يحصلوا عليه بكرامة وعزة، وليس استجداء أو تسولاً.
عدنا إلى القاهرة فجر السبت ونحن موقنون بأن وراء الثورة المصرية رأياً عاماً مدركاً لما يجرى، يراقب عن كثب، ويهتم بالتفاصيل بعد طول إهمال، ويؤمن بأن لصوته وموقفه معنى بعد طول شعور باللامبالاة. عدنا ونحن متأكدون من أن هناك رغبة جارفة فى محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك، فحين أذعت للحاضرين خبرا جاء على هاتف عبدالرحمن سمير أثناء المؤتمر يقول: «جهاز الكسب غير المشروع يؤكد أن إحالة مبارك لمحكمة الجنايات واردة، ويسعى لتشكيل لجنة لاستعادة الأموال المنهوبة» صفق الجمهور بحرارة.
أثناء العودة اشتبكنا فى حوار عميق حول ما سمعناه ورأيناه، وأثنينا جميعا على فكرة إنشاء «رابطة محبى بنى مزار» والحماس الذى يلهب إرادة مؤسسيها الأستاذ صفوت العقاد والدكاترة عبدالعزيز على السيد وحمادة خلف الشيمى وأشرف عثمان عبدالرحمن ومحمود جنيدى، وكذلك مجموعة الشباب التى تعمل معهم وهم: على أحمد حسن، المنسق العام للرابطة، ومحمود محمد البكرى وهبة على حسن وعمر جمعة وأحمد عبدالعزيز وسمر صفوت ومحمد عبدالعزيز وعبير على عبداللطيف وأسامة طارق على وأحمد راسخ.
إن مثل هذه الروابط هى ثمرة الحرية التى ربحناها بسواعدنا بعد أن أزحنا النظام الفاسد المستبد، وهى الكفيلة بأن تعيد إلى المجتمع استقلاليته التى فقدها عقودا من الزمن، وهذه هى الضمانة الأساسية للحفاظ على الحرية وتغذيتها وتحويلها إلى طاقة خلاقة تشرك الناس فى صناعة المستقبل. ولهذا أتمنى أن تنمو هذه الروابط فى بلادنا من الإسكندرية إلى حلايب ومن رفح إلى سيدى برانى، وأن تلقى من يرعاها ويحولها مع الأيام إلى «جماعة ضغط» محلية يكون لها دور كبير فى تعزيز المشاركة السياسية والاجتماعية وتصويبها.
لقد تعلمت كثيرا فى جولاتى بالعديد من المدن المصرية ضمن وفد «الجمعية الوطنية للتغيير» قبل الثورة، وها هى تجربة بورسعيد وبنى مزار بعد الثورة تؤكد لى ضرورة التواصل مع الناس، ولذا سأذهب بصحبة هؤلاء الأصدقاء إلى شبين الكوم بعد غد، فهذا حق أهلنا علينا، ولن نخذلهم أبدا
د. عمار على حسن - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment