Thursday, January 20, 2011

تونس.. الآن فَهِمكم العالم

يوم أن قال الجنرال «شارل ديجول» للشعب الجزائرى: «الآن فَهِمتكم».. كانت الجملة إيذانا برحيله مع الاستعمار الفرنسى، وإعلان الاستقلال فى بلد المليون ونصف المليون شهيد.. ويوم أن قال الديكتاتور «زين العابدين بن على» للشعب التونسى: «الآن فهمتكم».. كان يدرك من أعماقه أن عليه الرحيل.. شتان الفارق بين المستعمر الأجنبى، والمستعمر من أبناء الوطن!!

لكنهما يتشابهان، فالجنرال «ديجول» اعتمد على ما يعرفه التاريخ باسم «الحركيين» لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة فى الجزائر.. وكذلك اعتمد «بن على» على «حركيين»، أملا فى تقليد ما فات زمانه.. فالأقوياء يمكن التأكيد على أنهم أغبياء فى كثير من الأحيان.. أقصد هنا تلك القوة المفرطة، وهى تتجلى حين يأخذ العقل إجازة!!

علمَنا شباب «ثورة الياسمين» فى تونس أن التاريخ يجدد نفسه ولا يكرره، أو بالمعنى، الذى يقوله «جنرالات الثقافة العربية» عن التاريخ إنه يكرر نفسه.. فهؤلاء الشباب المتهمون من النخبة المتهاكلة، بأنهم سذج وسطحيون لا أمل فيهم.. خرجوا ليؤكدوا من تونس أنهم الأمل كله.. الوعى كله.. الفهم كله للحياة فى معناها المعاصر.. طرحوا من عقلهم وحساباتهم النخبة- سلطة ومعارضة- انطلقوا خلف «الثائر البسيط» محمد بوعزيزى، الذى رفض إهانة الصفع على الوجه بعد إهانة مؤهله العلمى، وقبلهما إهانة مواطنته على أرض بلاده..

ومن خارج العاصمة جاءت «الثورة»، رفضا للبطالة ومصدرها الظلم، لغياب ما تقول عنه النخبة إنه العدالة الاجتماعية.. خرج الشباب وخلفهم البسطاء يعلنون الاحتجاج والرفض- فقط- انضم إليهم أقرانهم فى الولايات والمدن المجاورة.. استهان بهم الحاكم.. وترقب «جنرالات الثقافة العربية» معارضين وموالسين نتيجة فعلهم.. مضى أبطال «ثورة الياسمين» تفوح منهم رائحة شىء جديد.. رائحة أمل غريب.. أربكوا العالم بنعومة عنفهم.. أذهلوا شعبهم بقوة وصرامة بساطتهم.. وشيئا فشيئا تحول الحلم إلى خاطر ثم احتمال..

ولحظة أن أدرك القوى- الغبى- المسألة تتحول إلى حقيقة، لا خيال.. أراد أن يكذب فى ثوب من يحاول أن يتجمل.. قرر أن يزوِّر الثائر لحظة مغادرته الحياة.. انحنى قليلا، فذهب إلى مخاطبة الشعب التونسى بما يملك من فائض قوة.. فكان الحديث الغبى فى الوقت الغبى وبالأسلوب الغبى.. وتلك نعمة من الله- سبحانه وتعالى- على الشعوب.. أشعل بكبريائه المرتعش النار فى نفوس شباب «ثورة الياسمين» فهم فقط يفهمونه بقوتهم الطاغية.. وهو يشعر بضعفه العنيف!!

الرسائل كانت متبادلة بين «ساكن الدور الستين» الذى لا يرى الشعب.. وبين الشعب، الذى تمسك بتجاهل هذا الذى يعيش لأعلى فى الفراغ.. المفارقة أن وسائل الاتصال بينهما مقطوعة تماما.. فلا تليفزيون، ولا صحافة ولا أحزاب ولا برلمان ولا مجلس دستورى..

ثم إنترنت تمارس عليه الرقابة.. لكنه لا يعرف ما يجرى فى عالم هذا الإنترنت.. هم كانوا يعرفون، فاستثمروا قوتهم وعلمهم.. نشروا الفضيحة فى العالم.. حركوا ضمائر شعبهم قبل الدنيا من خارج الوطن.. فى اللحظة ذاتها كان «ساكن الدور الستين» يتعالى على حقائق الدنيا الجديدة.. يزين له محيطوه الذين يمثلون «الأغلبية الكاسحة» أفكاره وقراراته ومواقفه النابعة من امتلاكه لفائض القوة.. بينما الأرض تطرح زهورا جديدة تتفتح.. كلهم تجاهلوها وأكدوا له أنها غير موجودة.

الخطان متوازيان.. فالذى «يسكن الدور الستين» يفعل ما يرى وما يريد وما يشاء.. وأبطال «ثورة الياسمين» ماضون فى طريق يرونه بوضوح، ويريدونه بصدق، وشاءوا أن يصلوا إلى خط النهاية بإخلاص.. ثم امتدت الثورة فأشعلت الوطن، فخرج القوى- الضعيف- معلنا إذعانه لكل ما يطلبه من لم يرهم منذ سنوات.. ليقول قولته الغبية على طريقة الجنرال «شارل ديجول»: «الآن فهمتكم».. كأنه يفضح نفسه ليعلن أنه كان مستعمرا فى زى المواطن التونسى!!

فجأة.. اختلطت كل الأوراق.. فلا الولايات المتحدة الأمريكية تفهم شيئا- تلك حقيقة-، ولا فرنسا باعتبارها المستعمر القديم تفهم شيئا.. بل حتى الكبار فى الإقليم لا يفهمون شيئا.. فقط يفهم شباب «ثورة الياسمين» أنهم ماضون فى طريق جديد تماما على الدنيا.. فتلك هى البساطة.. وتلك هى قمة الاستغراق فى المحلية.. فكانت ثورة سيؤرخ بها أنها نموذج للعالمية أو طلقة رصاص ضد ما صدّعوا به رؤوسنا.. «العولمة»!!

ثم كانت الأحداث تجرى بأسرع من قدرة الإعلام على متابعتها.. الرئيس التونسى قرر مغادرة البلاد.. شريكه فى ممارسة الإرهاب على الشعب تسلم الحكم.. الجيش يتحرك.. قادة الأحزاب خرجت تتكلم.. الفقهاء الدستوريون يختلفون.. عواصم الدنيا بين صامتة ومرحبة بحذر.. الرئيس المخلوع يبحث عن مأوى فى الهواء.. واشنطن تتعامل معه كأنه نكرة لا تعرفه.. باريس ترى أنها لا تحتمل استضافته.. الشعب ماض فى ثورته الناعمة.. كل الدنيا تستمهل الزمن أملا فى فهم ما يحدث.. ثم كان خبر أن حطت طائرته فى جدة.


شباب «ثورة الياسمين» لم يحتفلوا بالنجاح.. قرروا مواصلة مشوار الجدية البسيط.. هم كانوا صادقين، فأكدوا على رفضهم لأن يخلفه شريكه من سكان «الدور الستين» فى تسلم السلطة.. بل أكدوا أن شركاءه الشهود- الزور- على تلك الخلافة مرفوضون..

هنا تحرك الضمير الإنسانى والمهنى والقانونى والإلهى.. الجميع يؤكدون أن الخلافة على هذا النحو فضيحة.. ساعات قليلة ثم يتم تصحيح الأوضاع بقوة المستقبل.. فكان نقل السلطة إلى رئيس البرلمان، حسب دستور تفصيل من قماش قديم ومتهالك لا يصلح لارتدائه.. تراجع الذى كان يأمل فى أن يكون مؤقتا.. تقدم صاحب الحق فى الثياب المهلهلة.. ارتدى زيا لم يتخيل فى يوم من الأيام أن يلبسه.. نزل الجميع من «الدور الستين» كلهم أصبحوا على الأرض..

فوجئ من اعتقد أنه قوى بحالة الضعف الشديد التى يعيش عليها.. ووضح أن الضعيف هو العملاق الحقيقى فى تونس الخضراء بلون الزيتون، والحمراء بلون علمها.. والحمراء بلون الدم المتفجر فى عروق «شباب الياسمين» وليس الدم الذى حاول أن يريقه القوى «الغبى» لإرهاب كل من يخاف على دمه باعتباره عنوان حياته!!


صفارات الإنذار تدوى فى الدنيا.. سمعنا صوت كل من لم يجرؤ على الكلام.. وكل من عجز عن الكلام.. والبديع أن صمت الذين اعتقدوا أنهم يتكلمون كان هو المسموع.


نظرية «الدور الستين»، أتحدث عنها منذ فترة تمتد إلى نحو شهرين- بشهادة نفر من النخبة- كنت أعتقد أننى أقول كلاماً فيه خيال وإبداع.. لم أقصد ذلك لأننى كنت أحاول قراءة الحقيقة والواقع.. إذا بها حقيقة على أرض تونس البيضاء فهذا شعب انتصر على كل نظريات الهزيمة.. قدم أعظم إنجاز حين تم نزع كل مقومات النجاح من عروقه.. لذلك أعتقد أن الارتباك فى استيعاب ما فعله.. تترجمه أفاعيل الصغار، الذين يلتفون حول كل «زين العابدين بن على» فى العالم العربى ودول العالم الثالث.. اسألوهم.. ستجدون أن الكلمة التى لا يحبون أن يسمعوها الآن هى «تونس»!!

نصر القفاص-المصرى اليوم

nasrelkafas@yahoo.com

No comments: