الثورة ليست مجرد خروج عشوائى للجماهير للقضاء على النظام القديم، إنما هى أيضاً تأسيس لنظام جديد يعبر عن الشعب. صحيح أن الثورة لم تكن هى الأسلوب الوحيد فى معظم تجارب التحول الديمقراطى فى العالم، إنما كانت أحدها، خاصة إذا كانت تواجهه نظم استبدادية من نوعية النظام التونسى.
وقد شاهد العالم تجارب بلدان أوروبا الشرقية التى لم تعرف فى معظمها ثورات، إنما «احتجاجات ثورية» رتب فيها العالم الغربى عملية الانتقال نحو نظم ديمقراطية جديدة حلت مكان النظم الشيوعية القديمة، وأسست نظماً ساعد فى بناء مؤسساتها بشكل فاعل الولايات المتحدة وأوروبا، فى حين تفرج الاثنان بشكل مخجل ومنافق على ثورة تونس دون أن يقدما حتى نصحاً يساعد فى تأسيس النظام الجديد الذى يحتاج إلى استعادة تجارب التحول المتأخر نحو الديمقراطية، والتى جرت فى عدد من بلدان أوروبا الشرقية وكانت بولندا ونقابتها العمالية «تضامن» أحد أهم نماذجها.
والواقع أن الشعب التونسى أنجز بلا شك حدثاً استثنائياً قضى ولو جزئياً على ما عرف بـ«الاستثناء العربى» من الديمقراطية والثورة بعد أن سقطت دعاوى الاستثناء الإسلامى عملياً بنجاح تركيا وماليزيا وإندونيسيا، وبقى العرب هم المتعثرين اقتصادياً والفاشلين ديمقراطياً والمستكينين تجاه الاستبداد، إلى أن جاءت ثورة تونس لتفكك هذا الخطاب وتعيد الاعتبار لهذا العالم العربى حتى للكسالى منهم.
والمؤكد أن تونس نجحت فى الإطاحة بالحاكم المستبد وهذا يمثل نصف الطريق، ووقفت قواها السياسية حائرة تجاه التعامل مع الوزير الأول محمد الغنوشى الذى كان عضواً حتى أمس الأول فى حزب التجمع الدستورى الحاكم، واستقال فى محاولة لإرضاء الشارع المحتج ضد مشاركة ٦ وزراء من حزب بن على فى الحكومة الانتقالية الجديدة. وهنا يطرح السؤال التاريخى فى مثل هذه الأحوال: ماذا ستفعل الثورة مع النظام القديم؟
بالتأكيد أن الإجابة بالإحالة لثورات القرن ١٨ (الفرنسية) والقرن ١٩ (الروسية) أو حتى الثورة الإيرانية فى ١٩٧٩ لا تنطبق على الحالة التونسية، إنما الأقرب هو فهم تجارب التحول الديمقراطى فى بعض بلدان أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وإسبانيا والبرتغال والتى كان للاحتجاجات الشعبية دور رئيسى فى نجاحها، بالإضافة لصيغة عطلت قدرة القديم على الحكم دون أن تستأصله تماماً.
إن بلدان أوروبا الشرقية التى تواءمت العضوية المليونية فى الأحزاب الحاكمة مع النظم الجديدة فيها، وغيرت الأحزاب الشيوعية من أسمائها وتحولت إلى أحزاب اشتراكية وأعلنت «التوبة» عن تاريخها القديم، قاد بعض أعضائها عملية التحول نحو الليبرالية السياسية واقتصاد السوق وكانوا زعماء النظم الجديدة.
والحقيقة أن التحدى نفسه مطروح على ثوار تونس وعلى النخبة الجديدة العائدة من المنفى أو الصاعدة من قلب الأحداث، وهو كيف ستتعامل مع حزب التجمع الدستورى الذى حكم تونس منذ ٦٠ عاماً وحتى ثورة الياسمين.
إن هذا الحزب ليس مجرد مجموعة حاكمة يجب إحالة العشرات أو المئات منهم إلى المحاكمة بتهم الفساد والتورط فى تعذيب الشعب التونسى، إنما هو «حزب دولة» ارتبط جهازاها الإدارى والقضائى ومؤسساتها التشريعية بالحزب الحاكم.
وهنا إذا استدعت تونس تجربة «اجتثاث البعث» العراقية، فستكون كارثة حقيقية ستحول البلد إلى ساحة للفوضى، وستفتح الباب أمام الجيش لحكم البلاد مباشرة، أما إذا حرصت بشكل ديمقراطى على استبعاد حزب التجمع الدستورى ودفعه لتغيير اسمه والعودة للحياة السياسية باسم ومضمون جديدين، كما جرى مع تجارب الأحزاب الشيوعية فى أوروبا الشرقية، فإن هذا سيفتح الباب أمام تطور سلمى وديمقراطى حقيقى، وهزيمة الحزب الحاكم فى الانتخابات المقبلة عن طريق تقديم بديل مقنع للجماهير التونسية، وقد يكون «الاتحاد التونسى للشغل» مرشحاً للقيام بهذا الدور أكثر من أحزاب المعارضة، ليعلن عن ميلاد حركة تضامن تونسية جديدة شبيهة بتلك التى حررت بولندا من الحكم الشيوعى وحكمتها بعد ذلك.
إن محاولة الجماهير التونسية استكمال نضالها المشروع من أجل استبعاد وزراء «الدستورى» من حكومة الإنقاذ الوطنى أمر مشروع، ولا علاقة له بفكرة استئصال القديم التى تؤدى إلى تفكيك الدولة وفشلها، كما جرى فى العراق، إنما هى محاولة مشروعة لوضع ضمانات سياسية وقانونية بألا تكون الحكومة الجديدة امتداداً للقديمة، وألا يصبح التغيير الذى حدث هو مجرد تغيير فى الوجوه وليس فى المضمون.
أما التحدى الثانى، الذى يواجهه «الجديد» فى تونس، فهو التعامل مع الإسلاميين، وتحديداً مع حركة النهضة التى حظرها الرئيس السابق، والحقيقة أن أحد أسباب نجاح الثورة التونسية يكمن فى أن الحركة الإسلامية لم تشعلها ولم تركبها، إنما صنعها المواطن العادى وفجرها مواطن عادى، وأصر على نجاحها المواطنون العاديون، وأصبحت معضلتها أنها انتقلت الآن من إلهام المواطن العادى إلى تحديات الحكم عبر حسابات النخب وقادة الأحزاب.
وقد رفعت هذه الثورة شعارات مدنية ملهمة «حرية، عدالة، كرامة، وطنية»، وغنت النشيد الرائع لأبى القاسم الشابى «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر»، ولم ترفع شعاراً دينياً أو طائفياً واحداً على طريقة «الإسلام هو الحل»، كما نشاهد فى مصر وغزة والأردن والعراق، ولو قُدّر لثوار تونس أن يرفع بعضهم المصاحف، كما يفعل الإخوان فى مصر، لكان قضى على هذه الثورة فورا بفعل التدخل الخارجى.
وقد قابلت زعيم حركة النهضة راشد الغنوشى ٣ مرات فى بريطانيا، الأولى كانت فى مؤتمر بجامعة «ويست منيستر» البريطانية عام ٢٠٠٧، والثانية كانت فى صيف العام الماضى بجامعة أكسفورد، حين شارك الرجل فى مؤتمر حول أزمة الأحزاب العربية، وتزاملنا فى الجلسة نفسها، وعقبها بعدة أيام كان لقاؤنا الثالث فى ندوة فلسطينية عقدت للتضامن مع نواب عرب فى الكنيست الإسرائيلى جاءوا إلى لندن فى أعقاب إحالتهم للتحقيق من قِبَل السلطات الإسرائيلية بسبب تضامنهم مع ضحايا حادثة سفينة الحرية التركية.
ولم أشارك الرجل بعض آرائه، واعتبرت أن نظرته لحركة «حماس» و«حزب الله» فيها قدر كبير من المثالية وربما الانحياز الأيديولوجى، وبدا محافظا فى بعض آرائه (وليس متطرفاً) عما كان عليه فى بداية تجربته السياسية حين كتب كتابات رائدة ومستنيرة فى بداية الثمانينيات حول قضايا المرأة والأقليات والعروبة والمواطنة وكان فيها متقدما وبكثير عن أطروحات الإخوان المسلمين.
والرجل فى الحقيقة يتسم بدماثة خلق ووعى سياسى حقيقى، بالإضافة لثقافة عامة عميقة لا تكتفى فقط بالعلوم الشرعية، وكان متابعاً جيداً لما يجرى فى مصر وفوجئت بأن كتابنا الذى صدر عام ٢٠٠٤ وحمل عنوان «إسلاميون وديمقراطيون..
إشكاليات بناء تيار إسلامى ديمقراطى» كان محل اهتمام ومتابعة من الرجل ومن شباب حركة النهضة، بالإضافة أيضاً لكتابات كثير من المفكرين والكتاب المصريين والعرب، وأذكر أنه قال لى ونحن فى غداء فى بهو جامعة أكسفورد العريقة إنهم ينتظرون التغيير من مصر، وأضاف كلاماً آخر انتهى زمنه عن دورها المحورى، وتحدث بحسرة عن أنه لا يستطيع الذهاب إلى مصر التى تزوجت ابنته أحد أبنائها، ولا العودة إلى تونس، بسبب نظام بن على، ولم يتوقع الرجل ولا باقى المشاركين أن تكون تونس هى التى ستبدأ التغيير فى العالم العربى.
والحقيقة أن خطاب راشد الغنوشى (بعد خروجه من التنظيم الدولى للإخوان) فى منطقة وسط بين تجارب الفشل، كما يمثلها حكم الإنقاذ فى السودان وحكم طالبان فى أفغانستان وخطاب الإخوان المسلمين، وبين تجارب النجاح، كما يمثلها حزبا العدالة والتنمية فى تركيا والمغرب، وأن النظام الديمقراطى الجديد بقواعده المدنية (التى يحسب لنظام بورقيبة إرساؤها) قادر على دمج إسلاميى النهضة فى المعادلة السياسية والديمقراطية.
إن تونس، بتقاليدها المؤسسية وثقافة شعبها ومدنية وعيه، قادرة فى ظل نظام ديمقراطى جديد على دمج تيار النهضة الإسلامى فى العملية السياسية، وبناء أول تجربة ديمقراطية مكتملة فى العالم العربى.
د. عمرو الشوبكى- المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment