بالتأكيد كان شكلى مُضحكا جدا وقتها، طولى نصف شبر، وأتقمّص أدوار الكبار. ابتعدت غاضبا من بابا الذى لم يقدر موهبتى، نادانى كى يصالحنى لكننى رفضتُ أن أردّ عليه.
إلا بصحيح يا شابى: هو يعنى إيه كلمة «لعوب»؟!
فتح الشعب التونسى فضاء وأفقاً جديداً للحرية وللدولة المدنية، فى المنطقة بأكملها، فمنذ ثورة الخمينى سنة ١٩٧٩، وهناك تصور أن البديل للديكتاتورية وللفساد هو الدولة الدينية، وأخذ أنصار الدولة الدينية يصعرون خدهم ويتيهون فخرا على الجميع أنهم البديل الأوحد، وتطور الأمر لديهم ليصبح أنهم أصحاب الحق فى الحكم.. وكانت التجارب فى بلاد المنطقة تعزز ذلك لديهم ولدى آخرين، وبدا الأمر وكأننا بين الخيار السيىء والأسوأ.. السافاك أو الحرس الثورى فى إيران، دحلان أو خالد مشعل فى فلسطين، الترابى أو البشير فى السودان، وحتى حين جاء التغيير فى العراق بالتدخل الأمريكى فإنه أفرز طائفية ومذهبية مقيتة، وخلق حالة من الثأرية والانتقام دمرت العراق وتسيد المشهد فى النهاية الطائفيون ودعاة الدولة الدينية، وهكذا إلى أن جاءت التجربة التونسية لتكسر بكبرياء وعزة هذه الدائرة الجهنمية، بدأ الأمر احتجاجا على البطالة وسوء المعيشة، فرد الأمن عليهم بالنار، وكانت النهاية المعروفة، رحيل الرئيس متخفياً أو هارباً.
المعنى هنا أن غياب فرص العمل وسوء الأحوال المعيشية مرتبطان بكرامة الإنسان، والانتقاص من حق العمل وحق العيش الكريم يعنى بالضرورة انتقاماً من حريته وكرامته، وكل الأمور تقود إلى بعضها، غياب الحرية يولد الاستبداد، وذلك يجر معه الفساد، ومن ثم يتربح أفراد على حساب فئات بأكملها، وفى النهاية يدفع الشعب كله الثمن، والدخول فى واحدة يقود إلى الثانية.. ذلك أن بعض المنظرين يسخرون من الاحتجاجات التى تقوم حول رغيف الخبز والطعام ويرون فيها شيئاً متدنياً، إنهم يتمنون مظاهرات من أجل الدستور أو تعديل مادة فيه، وهذا سوء تقدير وضحالة تفكير، فالذى أضعف الاتحاد السوفيتى وأسقطه هو التأزم الاقتصادى وسوء الأحوال المعيشية للمواطنين.
الحالة التونسية هى حالة نموذجية، لكنها فريدة فى عالمنا العربى، وتكشف تحضر الشعب التونسى، كان يمكن أن يحدث هناك مع زين العابدين ما حدث فى رومانيا مع شاوشيسكو، وحتى حينما قبض على مسؤول الأمن الرئاسى ووزير الداخلية تم توجيه اتهامات محددة لهما، مما يعنى أن هناك محاكمة وقانون وقضاء أى أركان الدولة الدينية ولسنا بإزاء انقلاب يتم فيه تصفية الخصوم فوراً وتحويل الشوارع والميادين إلى حمامات دم..
وقام الجيش التونسى بدور وطنى عظيم، كان يمكن أن تحدث مغامرة ويتم القفز العسكرى على السلطة وعلى مؤسسات الدولة، لكننا وجدنا جيشاً مسؤولاً ووطنياً، يحمى المواطنين وممتلكات الدولة، فضلا عن دوره الأساسى فى حماية التراب الوطنى، من البداية رفض الجيش التكليف الذى وجه إليه بقمع المتظاهرين وإطلاق الرصاص عليهم فاستحق الاحترام والتقدير، والأهم حب المواطنين.
وكان باديا فى المظاهرات غلبة العنصر الشبابى، فضلا عن الحضور المتميز للفتيات والسيدات، وكان هناك التقدميون الديمقراطيون والاشتراكيون والشيوعيون، لم يشغل المجتمع التونسى ولا مثقفوه بقضايا وأسئلة عفا عليها الزمن مثل المفاضلة بين الدولة المدنية والدولة الدينية، أو هل النقاب فريضة أم فضيلة، وهل يتم الاحتكام إلى القانون المدنى أم إلى الشريعة الإسلامية. برىء المجتمع التونسى من الاجتياح السلفى والوهابى الذى يأخذ الناس إلى مناقشات وقضايا بيزنطية، تبعدهم فى النهاية عن قضاياهم وهمومهم الحقيقية، وفى المحصلة النهائية فإن ذلك المناخ السلفى يقتضى كى يمر وينتشر بيئة استبدادية متسلطة تقيد الفكر والرأى وتحجر على التعبير وتقسم المواطنين فى الدولة إلى مؤمنين وكفار، وتصنيف المسلمين أنفسهم إلى فئات ودرجات.
رغم أن الإسلام علمنا أن نعمل للدنيا كأننا نعيش أبدا، ومن حقنا أن نتساءل: ترى لو أن المجتمع التونسى أصيب بالانشقاق السلفى وتوطنت فيه الوهابية هل كان قادرا على أن يقوم بما قام به؟!
ولأن المناخ الإعلامى السائد يقع فى الثنائية البغيضة التى تعيشها المنطقة منذ ثورة الخمينى، وجدنا عددا من الفضائيات العربية والأوروبية الناطقة بالعربية، تبارت جميعها فى إقحام الشيخ راشد الغنوشى على مشهد الأحداث فى تونس، رغم أن الرجل بعيد وبلا تأثير، وأصرت تلك الفضائيات على تقديم الرجل وكأنه الخمينى الذى سوف يعود إلى تونس ليغير كل شىء، وقد حاول الرجل أن ينفى ذلك، وأن ينسب ما تحقق إلى من قاموا به، لكنهم يلحون ويصرون، ويبدو الأمر كما لو كان هناك سعى لأن يقفز الغنوشى لجنى ثمار لم يبذل جهدا فى غرسها.. وثمة من يتحدثون عن أن زين العابدين بن على سقط بسبب علمانيته، هو سقط بسبب الاستبداد والفساد، والذين أسقطوه هم من المحسوبين على العلمانية أو التيار المدنى، فى المظاهرات الحاشدة يوم الجمعة بتونس العاصمة، كانت هناك صور مرفوعة لـ«تشى جيفارا» وشعارات وطنية وديمقراطية.
هناك حالة من النشوة الآن فى تونس وفى الشارع العربى لسقوط زين العابدين، وجاءت المفاجأة فى سقوطه السريع، ويبدو أن هناك خفايا وأسراراً فى الموضوع لم تعلن بعد، لكن هذه الحالة من النشوة مرت من قبل، حين سقط جعفر النميرى فى السودان وحين تنازل الفريق عبدالرحمن سوار الذهب عن الحكم، وحدث شىء مشابه حين أطيح بالرئيس صدام حسين، وإن كان السياق مختلفا، كما حدث فى تونس نفسها يوم ٧ نوفمبر ١٩٨٧ عندما انقلب زين العابدين نفسه على الزعيم والرئيس بورقيبة، لكن الجديد الذى تقدمه تونس هذه المرة هو أنها فتحت الأمل لتجاوز القاعدة التى أرستها ثورة خمينى وتجعل المعارضة المدنية قادرة على التحرك والإنجاز وتبقى أمام التجربة التونسية مخاطر عديدة عليها أن تواجهها، وتمثل هى مخاطر عديدة على المجتمعات المحيطة بدت مظاهرها فى اندفاع الشبان لإحراق أنفسهم مثل بوعزيزى، لكن الثورات والتجارب لا تستنسخ هكذا، وذلك حديث آخر
حلمى النمنم - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment