ارتبط ذكر العالم العربى طوال العقود الأربعة الأخيرة بالفشل والاستبداد ، ولم نشهد حدثاً واحداً منذ حرب أكتوبر مثّل انتصاراً لقيمة ما، حتى لو كانت المهنية فى العمل، أو الإنجاز السياسى والاقتصادى، فلم نر إلا بلاداً محتلة (فلسطين والعراق)، أو منقسمة (السودان والصومال)، أو تعانى من حروب أهلية (لبنان)، أو فشلاً للدولة (اليمن)، أو غياباً للديمقراطية واستبداداً سياسياً وهنا اتحدوا جميعاً.
والمُحزن أن كل تجارب النجاح التى شهدتها دول العالم الثالث كانت كلها خارج العالم العربى، فنتحدث عن المعجزة الاقتصادية فى ماليزيا بافتخار كبير، وعن كوريا التى كانت أسوأ منا فى الستينيات وأصبحت واحداً من أهم اقتصادات العالم، وعن ثورة الطلاب فى إندونيسيا ضد حكم الرئيس سوهارتو كنموذج مبكر لاحتجاج، ونتحدث عن رئيس البرازيل العظيم لولا دا سيلفا الذى حقق إنجازات اقتصادية وسياسية هائلة وترك الحكم بعد مدتين احتراما للدستور الذى ننتهكه فى العالم العربى، رغم أن شعبيته وصلت بين أبناء الشعب إلى ٩٠%، وحتى البلدان التى لم تصنف تماما بين دول العالم الثالث ولكنها كانت مأزومة سياسيا واقتصاديا، مثل تركيا، حققت إنجازات هائلة فى السنوات الأخيرة وأصبحت واحدة من أهم القوى المؤثرة إقليمياً وعالمياً.
كل ذلك جرى حولنا والعالم العربى بمفرده ساكن خامل لا يتحرك، بصورة دفعت الكثيرين فى الغرب والشرق للحديث عن «الاستثناء العربى» بعد أن سقط عملياً كثير من نظريات الاستثناء أو الفشل الإسلامى، وجاءت ثورة تونس وقلبت الموازين وعطلت خطاب الاستثناء العربى، وألهمت الكثيرين بإمكانية التغيير فى العالم العربى.
لقد دخلت تونس التاريخ من حيث لم يحتسب الكثيرون، وقدمت واحدة من أروع الثورات الشعبية التى فيها من سمات الشعب التونسى المسالم والمتعلم والمعتز بعروبته والمنفتح على العالم الكثير.
والحقيقة أن تونس نجحت فيما فشل فيه الكثيرون، وحوّلت أحلام كثير من الشعوب إلى حقيقة، وشعر أبى القاسم الشابى إلى واقع.
إن ثورة تونس لم تصنعها التنظيمات ولا الأحزاب السياسية التى همشها النظام، إنما جماهير الشعب التونسى، فشهيدها الأول «بوعزيزى» لم يكن عضوا فى حزب العمال الشيوعى ولا حركة النهضة الإسلامية، إنما كانت فيه براءة جيله العشرينى وإحباطاته من نظام مارس كل أنواع القهر على شعبه فكان بامتياز مفجّر الثورة.
ولعل ما سبق أن كررناه مراراً من أزمة القوى السياسية العربية، خاصة الاحتجاجية و«الثورية»، أنها ليست لها علاقة بالواقع ولا بالجماهير التى تدعى تمثيلها، وأن الدرس التونسى كان فى خروج جماهيرى عفوى وشعارات مدنية وإنسانية عظيمة، تختلف عن الطريقة المصرية التى مازال يخرج فيها الإخوان المسلمون حاملين المصاحف، والناصريون لصور عبدالناصر، حتى أصبح كل تيار يعبر عن أجندته الخاصة لا الجماهير.
وقد شارك فى الثورة شباب من كل الفئات ونشطاء من مختلف الألوان، ورفعت شعارات مدنية ملهمة «حرية، عدالة، كرامة، وطنية»، وغنوا النشيد الرائع لأبى القاسم الشابى «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر، ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر»، وغيرها من الشعارات التى كانت محل ترحيب من كل أحرار العالم فى الشرق والغرب.
والحقيقة أن ما جرى فى تونس جاء نتيجة مجموعة من الأسباب، أغلبها سلبى وبعضها إيجابى، وأكدت أن الثورة معادلة وليست مجرد نزول عشوائى للناس فى الشارع، فهى تأتى نتيجة أسباب معظمها موضوعى، وتكون هناك قشة - مثل الشاب بوعزيزى - تفجر كل شىء.
ولذا سنجد أن تجارب التغيير فى العالم لم تحمل صورة واحدة، فهناك التغيير من داخل النظام (انقلاب موريتانيا الديمقراطى، وانقلاب سوار الذهب فى السودان، وغيرهما)، وهناك نظم أخرى تغيرت بتوافقات بين القوى الإصلاحية الواقعة داخل النظام والأخرى التى تناضل من خارجه، مثل كثير من دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، وقبلها إسبانيا والبرتغال، وبعدهما تركيا وماليزيا وإندونيسيا.
والحقيقة أن تونس نجحت فى تقديم نموذج للتغيير الثورى نتيجة وجود نظام سلطوى هو الأسوأ فى العالم العربى، أغلق بشكل كامل المجال العام، واستبعد بالعصا (دون الجزرة) النقابات ومنظمات المجتمع المدنى، ولم يعتمد سياسة التنفيس المصرية التى سمحت بوجود هامش من حرية الرأى والتعبير ووقفات احتجاجية، على طريقة «المنحة يا ريس»، جعلت أكبر احتجاج سياسى لا يتجاوز الألف شخص، وسمحت بدعوات إسقاط النظام يقوم بها ١٠٠ شخص يكررون موعدهم كل مرة أمام الفضائيات.
إن ثورة تونس صنعها المواطن العادى، وفجرها مواطن عادى، وأصر على نجاحها المواطنون العاديون، وستصبح معضلتها (كما سنناقش فى مقال الغد) حين تنتقل من إلهام المواطن العادى إلى الحكم عبر حسابات «المواطن غير العادى» من النخب وقادة الأحزاب.
إن ثورة تونس هى ثورة الناس دون وصاية من حزب أو تنظيم، وهى بالتأكيد نتاج جوانب أخرى إيجابية أتاحها النظام التونسى بعد الاستقلال وتقع جميعها خارج المجال السياسى الذى قمعه بشدة، وتتعلق بنظام تعليم عام بالمعنى النسبى هو الأفضل فى كل البلاد العربية، ونسبة أمية محدودة (أقل من ١٠ % ) مقارنة بباقى البلاد العربية، ومجال عام مدنى لم يترك التيارات الدينية غير السياسية تعبث فيه وتغيّب وعى الناس وتقضى حتى على قيمة العقل لصالح خطاب الخرافة والجهل، كما نشاهد فى مصر.
وظلت أمراض المجتمع التونسى الثقافية والاجتماعية محدودة، بفضل نظام سياسى علمانى، قهر مواطنيه سياسيا، كما حدث فى أوروبا الشرقية، ولكنه لم يقض على القيم الأساسية التى يقوم عليها أى مجتمع إنسانى فى العالم، فى التعليم والصحة والمساواة بين الرجل والمرأة ومدنية المجال العام ودور الثقافة والعقل فى تشكيل وعى المجتمع.
وعلى عكس مجتمعات عربية أخرى أصبح الفشل فيها ليس فقط أو أساسا فى المجال السياسى، إنما فى التعليم والصحة والثقافة والخدمات العامة، وحين يصبح أداء مؤسسات الدولة نموذجا للعشوائية وغياب المهنية وعدم الكفاءة، فإن الأمر يدفع الناس إلى مصارعة مآسى الحياة اليومية لا الثورة عليها.
وقد قضت الثورة التونسية أيضا على أوهام أخرى لخطاب الثورة فى طبعته الشيوعية التى راجت فى القرن ١٩ ومازال البعض يرددها حتى الآن، وهى أن الثورات تتطلب مئات الآلاف من الضحايا ولابد أن يدفع الناس ثمناً باهظاً من الدماء لنيل حريتهم، والحقيقة أن هناك مجتمعات كثيرة تحولت نحو الديمقراطية بترتيبات سياسية لم يسقط فيها قتيل واحد، وأخرى مثل تونس نالت حريتها بعد أن قدمت ٩٠ شهيدا، وهو رقم يظل محدودا مقارنة بهذه الصورة التى روّجها البعض عن ضريبة الثورات فى العالم، خاصة أن بلداً مثل مصر قدم فى نفس شهر الثورة التونسية ١٠٠ قتيل ضحايا لحوادث الطرق.
إن فى تونس مجتمعاً صحياً (ولا نقول شعباً، لأن الأول صنيعة النظام القائم، والثانى نتاج ميراث تاريخى) ونظاماً مستبداً، والأخطر حين يكون هناك الاثنان معا.. أى نظام مستبد ومجتمع غير صحى ومصاب بالعطب، فهذا يتطلب معادلة أخرى للتغيير والإصلاح سيكون بينها الضغوط الشعبية ولكن ليس الثورة.
بالتأكيد ثورة الياسمين التونسية هبّت على العالم العربى، وإن رياح التغيير قادمة لا محالة حتى لو اختلفت الوسائل والأساليب، وإن المعادلات التى ترتب وراء الكواليس فى بلد مثل مصر لن تنجح «من حيث لا يحتسبون»، كما جاءت الثورة فى تونس من حيث لا يحتسب الكثيرون
د. عمرو الشوبكى - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment