«إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب له القدر».. كلمات أبدية للتونسى أبى القاسم الشابى، تستدعيها الشعوب فى لحظات الانحطاط، وتفرض نفسها على قاموس المستبدين الملىء بشعارات الكذب والزيف، فدولة الظلم ساعة وليست ساعات، فالشعوب قد تغفو وتغفل لكنها لاتموت، والأنباء القادمة من قرطاج تبعث برسائلها للجميع، فالرئيس «الأمنى»، يخضع لهبة شعبه الرافضة للاستبداد والفساد والغلاء وسوء الأحوال الاقتصادية وكبت الحريات، فيرحل فى طائرته عسى أن تحلق طائرات رئاسية أخرى باتجاه المتوسط، موجات الجماهير هادرة مندفعة تحمل طموحات المهمشين والعاطلين والفقراء فى دنيا غاب عنها العدل وملأها شخص المستبد بالظلم والقهر، «بن على» بدأ عهده بانقلاب رفع خلاله شعار «لا ظلم بعد اليوم» لكنه سرعان ما نكث عنه، فظلم شعبه على مدار ٢٣ عاما، وبالعودة إلى الوراء ٣٠ عاما نرى نفس المشهد ونفس الوعود، فالثعالب تبرز فى ثياب الواعظين ابتداء، حتى تصل إلى التمكين، وتعيث بعدها فى الأرض فسادا.
تونس مثل أخواتها العربيات، الاختلافات ليست كثيرة، حزب واحد يهيمن على السلطة ومقادير البلاد، معارضة كرتونية وشارع محكوم بيد الأمن الحديدية، وفساد حتى الرأس، وقوانين استثنائية وسجون ومعتقلات ومؤسسات ديكورية ديمقراطية وانتخابات مزورة وإلحاح دائم على كلمات الشفافية والنزاهة وصالح الشعب.
الشعب يجلس فى مقاعد المتفرجين، يصفق فقط دون ضجيج، يساق عند المشيئة ويسكت بالترهيب، ويجوع فينسى السياسة، والعروض مستمرة «ماتينيه وسواريه» للمسرحيات الفصلية والسنوية والخمسية كالانتخابات ومؤتمرات الفقراء ومحدودى الدخل والعلاوات وغيرها من أساليب التنويم والتخدير.
مسرحيات الاستبداد واحدة، فالأصل واحد، والنص واحد، وفصول الرواية واحدة رغم اختلاف الأبطال الذين يشخصون المشاهد كل على طريقته وبنكهته الخاصة، فأحدهم يجد فى التنفيس حلا حتى لا يغضب شعبه، أما الآخر فيغلق كافة المنابع حتى يتم إخصاء وإقصاء الجميع، فى حين لا يرى آخر مكاناً للمعارضة فى دولته إلا فى رحاب سجونه، والحريات لديهم جميعا متاحة فقط على المقاهى وفى الغرف المغلقة.
مر ٣٤عاما على يناير ١٩٧٧، والدرس راسخ فى التاريخ، وإذا كانت غضبات الجماهير التى تخرج بين الحين والآخر ليست ذات بال، فإن الملمح الأخير فى مظاهرات الغضب القبطى والوراق وقبلها «المحلة»، يعطى مؤشرا خطيرا مع الوضع فى الاعتبار أن العباءة قد تكون دينية أو اقتصادية، فالغضب سيأتى من العشوائيات حيث الفقر والحاجة والجوع، فجميع المظاهرات العنيفة التى اندلعت كانت فى مناطق عشوائية وشعبية من منشية ناصر والخصوص إلى الأقاليم، إنها أجراس علها تصل إلى الأسماع، وإذا كان «بن على» قد عدل الدستور ليظل على الكرسى، فإنه هرب بليل كالسارق، ولم تسقطه الجماعات الملثمة التى قال عنها، بل هزمته حشود شعب أراد أن ينتصر مرة لنفسه ولحياته ومصيره.
الدساتير المصطنعة لا تمنح الحاكم الأبدية لأنه أمام ملمات الحياة وغضبة الجماهير وإرادة الخالق أضعف من بعوضة.
نسائم الحرية هبت من المغرب العربى، فهل ستستنشقها أنوف الجماهير العربية أم أن حاسة الشم فقدت منذ عشرات السنين؟، وإذا كان الاستبداد عدوى فنتمنى أن يصيبنا فيروس التحرر، ويتمكن منا حتى نرفع رؤوسنا، ونطلب الكثير مما انتزع منا بإلهام من كلمات «الشابى» عن القيد الذى سينكسر والليل الذى سينجلى، بعقل وبحكمة بعيدة عن الفوضى والانفلات.
نار تونس تسرى فى هشيم الشوارع العربية، والخبز والماء يسقطان العروش، فهل من عاقل يستوعب ويعود إلى حجر العدالة والمساواة ويكون التغيير بالتراضى قبل أن يذهب إلى مزبلة التاريخ فى طائرته الخاصة، فالملك الأبدى لخالق السماوات والأرض الذى يؤتى الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شىء قدير.
علاء الغطريفى - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment