حتى مساء الجمعة، وقبل اشتعال الثورة الشعبية التونسية كان حديث المنتديات الثقافية هو «رواية التكوين»، التى احتلت المركز الأول فى كل استفتاءات المواقع الإلكترونية والصفحات المتخصصة، والتى حصد «الخروج»، وهو الجزء الأول من خماسية عنوانها «ملحمة السراسوة»، جائزة ساويرس بإجماع النقاد كأفضل عمل روائى «فئة كبار الكتاب»، الذى جعل كثيرين من النقاد يقارنون بين مسيرة وإبداع كاتبها «أحمد صبرى أبوالفتوح السرسى»، كوكيل نيابة سابق، ومحام وكاتب.. وبين مسيرة وأعمال توفيق الحكيم، ويحيى حقى!!
أعترف بأننى أثناء قراءتى الجزء الأول «الخروج».. ضبطت نفسى متلبساً بعقد مقارنة بين أحداث هذه الملحمة السرساوية، التى حدثت فى الواقع لأسرة صديقى وزميل دراستى بحقوق القاهرة وكاتب هذه الرواية وبين ما جرى فى تونس الخضراء، وخروج أو بالأدق «هروب» الرئيس «بن على»، انتصاراً لإرادة الشعوب!!
فى «الخروج» يقص «أحمد صبرى» بطريقة الحكاء الرائع مسيرة عائلته، التى كانت من أعيان قرية سرس الليان، ولاية المنوفية من مائتى عام، حيث كانت تمتلك «وسايا» من الأراضى الزراعية، ومطاحن غلال، ومعاصر للزيت، ومناحل للعسل.. بجانب أنها كانت المكلفة من الوالى العثمانى بجمع الضرائب من الفلاحين، لتوصيلها إلى الباب العالى.. ومنها خرج الشيخ «موسى السرس»، الذى تحدث عنه «الجبرتى» كصديق له، وكأحد رموز مشايخ الأزهر الفاعلين.. هذه الأسرة العريقة، ولظروف اجتماعية ولأسباب سياسية، وقعت تحت يدى أحد المماليك، الذى هبط بالباراشوت على قريتهم سرس الليان.. وليفرض سيطرته وسطوته على الأهالى.. كان لابد من كسر شوكة هذه الأسرة، عملاً بمبدأ «اضرب المربوط».. فاستولى على «وساياهم» وحاول إجبارهم على بيع مطاحنهم ومعاصرهم بمدينة منوف، وبدأ بلطجيته فى الإغارة على ممتلكاتهم لتطفيش عملائهم، وترهيب عمالهم.. وهم يقاومون ببسالة.. إلى أن وصل به غروره إلى محاولة التحرش الفاضح لإحدى نسائهم الجميلات.. فاجتمعت الأسرة وقررت الانتقام لكرامتهم وشرفهم، فرسموا له خطة لاستدراجه، وقتلوه مع حارسه وجواده، ودفنوه فى منزلهم قبل منتصف الليل.. وركبوا حميرهم ولاذوا بالفرار وخلفهم قطيع من الماشية والأغنام سالكين حواف الترع والقنوات بعيداً عن قريتهم حتى وصلوا إلى ولاية الغربية، ثم استقر بهم الحال بأحد نجوع الدقهلية، وسط مجموعة من الأعراب والغجر، والهائمين على وجوههم هرباً من بطش المماليك وأعوانهم!!
يحكى «الابن» بأسلوب يفتن كل قارئ ويُطيّر النوم من العين، بمجرد أن تندمج مع الشخوص والأحداث التى صورها لنا الكاتب وكأنه ممسك بكاميرا للتعايش مع معاناة اقتلاع أسرة مصرية من جذورها.. وتندهش من قدرات هؤلاء الرجال والنساء على ضبط النفس وهم يعانون البعد عن محيطهم وأمنهم.. والثمن الذى دفعوه بسبب هذا المملوك الظالم والفاسد.. وتنبهر لأساليبهم فى التخفى والاختفاء عن عيون البصاصين والعسّاسين والمخبرين، الذين استأجرهمه «الوالى» للكشف عن هذا السر الدفين فى اختفائهم «كفص ملح وداب».. وفى النهاية يرد إلينا الروح وهو يحكى عن «توليفة» نجاحهم فى مرحلة إعادة البناء من الصفر.. فالتطور، والتكوين من جديد.. ليؤكد لنا أن من أعظم تجليات الإنسان هو محاولاته الدؤوبة نحو الصعود!!
٩ ساعات متصلة مندمجاً مع الشخوص، والأحداث الدرامية المتلاحقة، التى عاشتها هذه الأسرة.. منبهراً بأسلوب صديقى، الذى تفوق بدرجة الامتياز فى أن يغزل، ويضفر ما جرى لأسرته مع تاريخ هذا الوطن.
وأختم بما بدأ به صاحب الرواية فى افتتاحيتها، على لسان الجبرتى وهو يقول:
«يا مصر: انظرى إلى أولادك وهم حولك مشتتين.. متباعدين.. مشردين، واستطونك أجلاف، وأراذل.. صاروا يقبضون خراجك، ويهدمون دورك، ويسكنون قصورك، ويطمسون بهجتك ونورك»!!
وإذا كانت أسرة السرسى قد ضحت بكل ما تملك، وفقدت بعض أبنائها ثمناً لكرامتها وحريتها.. فإن الشعب التونسى الحر قد فاجأنا وأدهشنا بانتفاضته، ليس من أجل رغيف الخبز، ولكن لاستعادة كرامته أيضاً وللحصول على حريته.
٨٢٪ من التوانسة يملكون بيوتهم.. ولديهم أعلى نسبة تنمية، وتعليم حقيقى وبحث علمى غربى.. ومتوسط دخل الفرد أربعة أضعاف المصرى.. و... و... ولكن الاستبداد وقمع الحريات والفساد كانت وقود الثورة الشعبية، التى بدأت بحادثة صغيرة، واستمرت بإصرار وعناد لتثبت أن النظم الديكتاتورية هلامية، وهشة، وترتعد من إرادة الشعوب إذا تحركت وانتفضت.. وها هو «الرئيس المهيب، والمرعب، والمخيف فر مذعوراً فى جنح الظلام فى أول مواجهة مع غضب بضعة آلاف قرروا دفع أرواح ٩٠ شهيداً!!
شكراً لأهل تونس الحرة.. الذين انتفضوا على عصابة «السُّراق» من لصوص العائلة والحاشية، وآل كابونى من الطرابلسية، والسؤال الآن: من عليه الدور يا ترى؟!
د. محمود عمارة - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment