الأسبوع الماضى حمل مفارقات جديرة بالتأمل. فبينما كانت صفحات الاقتصاد خصوصا فى الصحف الرسمية تزف لنا أخبارا عن «نمو الصادرات»، وإشادة البنك الدولى بتحسن النمو فى مصر، كانت صفحات الحوادث هى التى تعبر بصدق عن الأحوال الاقتصادية فى مصر الحقيقية. ففى يومين متتاليين، قرأنا عن الشاب الجامعى خريج كلية التجارة، الذى انتحر بعد أن فشل فى الحصول على فرصة عمل منذ تخرجه قبل سبع سنوات، وقرأنا أيضا عن أطفال الشرقية، الذين تركوا مدارسهم، وذهبوا للعمل فى جمع البرتقال، من أجل سبعة جنيهات يساعدون بها أسرهم، فقتلهم الإهمال على الطرق. كما قرأنا عن الشاب الذى فضل الانتحار على الحبس، الذى كان سيحرمه من العمل لتسديد أقساط التوك توك، الذى اشتراه ليعول أسرته.
كل تلك المآسى ليست جديدة إلا من حيث ضحاياها. فنحن لم ننس بعد خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية المتفوق، الذى أقدم على الانتحار حين حُرِم من الالتحاق بالسلك الدبلوماسى، بسبب أصوله البسيطة، ولم تجف بعد دماء شباب قرية الكحك البحرية الفقيرة، الذين ماتوا فى الدرب الأحمر حين انهار عليهم سقف الغرفة، التى كان يعيش فيها أربعون شخصا جاءوا بحثا عن عمل ليدخروا نفقات تعليمهم.
لكن لأن تلك الوقائع ليست جديدة، بل هى متواترة بشكل مفزع، فقد انزعجت حين تزامنت مع تصريحات «خبراء» فى دوائر الحكم استبعدوا فيها أن يتكرر فى مصر الانفجار الذى حدث فى تونس، بدعوى أن هناك فارقا بين الحال هنا وهناك، فقالوا إن نسبة البطالة هناك أعلى منها هنا، وأن الحكومة عندنا قد خلقت ملايين من فرص العمل وإن.. وإن..! وانزعاجى مصدره أن مثل تلك التصريحات معناها فى الحقيقة أن أوجه الشبه بين مصر وتونس أكثر مما كنا نتصور! فهذه التصريحات نفسها هى أهم أوجه ذلك الشبه على الإطلاق. فتصريحات النخبة الحاكمة فى مصر التى تتباهى بما تعتبره إنجازات وتقلل من شأن كل المؤشرات التى تناقضها، تبدو نسخة من التصريحات الرسمية التى اعتاد عليها إخواننا فى تونس.
ففى مصر تأكيد رسمى مستمر على تحسن مستويات المعيشة مرة بدليل شراء المصريين أجهزة التكييف ومرة بدليل شرائهم أجهزة المحمول، ومرة بدليل زيادة استهلاك الكوكاكولا. أما الموت الجماعى لأطفال وصبية فى عمر الزهور يكدحون فى ظروف غير آدمية، فهو لا ينظر إليه باعتباره مؤشرا اقتصاديا على الإطلاق. وانتحار الشباب الذى لا يجد فرصة عمل هو أيضا بلا دلالة، حتى حينما يحدث بعد أن كان انتحار البوعزيزى فى تونس هو الشرارة الأولى للانفجار. بل تأمل معى، عزيزى القارئ، ما قاله النائب التونسى المعارض عادل الشاوس حين وصف ما جرى فى بلاده قائلا «إنه كانت هناك مؤشرات منذ فترة ترجح حدوثه، لأن الحكومة فى وادٍ والشعب فى وادٍ آخر، الحكومة تتباهى بأن الأمور على مايرام لكن الواقع غير ذلك».
ومن المفارقات الجديرة بالتأمل أيضا، أن الانفجار الذى حذر الكثيرون- ومنهم كاتبة السطور- من حدوثه، بسبب موت السياسة فى مصر هو بالضبط ما حدث فى تونس! فالنظام السياسى فى تونس استخدم على مدى أكثر من عقدين أساليب مختلفة أدت إلى الإضعاف المنهجى المنظم للمعارضة، وإلى موت السياسة هناك. لكن موت السياسة لم يحقق استقرارا. صحيح أن ضمور المعارضة السياسية جعلها عاجزة عن امتلاك زمام المبادرة إلا أن الاحتجاجات خرجت للشارع تلقائيا، ودون حاجة لقوى منظمة تحركها. فهى احتجاجات المواطنين العاديين، الذين كان من المفترض، وفق معادلة النظام التونسى، أن يتخلوا عن السياسة مقابل رخاء اقتصادى موعود، فوجدوا أنفسهم محرومين من الاثنين.
وهى لذلك ليست مفاجأة بالمناسبة إن الاحتجاجات التونسية بدأت بالبطالة ثم تحولت إلى مطالب بالتغيير الشامل. وهى بمثابة الدليل العملى على فساد مقولات يروج لها البعض فى مصر تزعم أن الناس لا يهمها سوى لقمة العيش وأن لا طلب على الديمقراطية. والطريف هو أن من يقولون ذلك هم أنفسهم الذين يتجاهلون أن الكثيرين لا يجدون لقمة العيش. ولا مفاجأة أيضا إن أدى الانفجار فى تونس إلى أعمال نهب غير محسوبة. فتلك من التداعيات المعروفة لموت السياسة.
أكثر من ذلك، فإن ما سماه الغرب «المعجزة التونسية» ذاب مع انفجار البسطاء، واتضح أن التنمية المبنية على الاستثمار الأجنبى ودعم المؤسسات المالية الدولية لا تصمد أمام اختبارات حقيقية، بل اتضح أيضا أن الدعم الغربى برمته يذوب مع أول انفجار شعبى. بعبارة أخرى، فإن القضية ليست أن البطالة هناك ١٤%، وهنا عشرة بالمائة ولا أن وسائل ودرجات قتل السياسة تختلف فى البلدين. فالقضية الرئيسية هى إدراك نخبة الحكم حقيقة ما يجرى على أرض الواقع.
ومن هنا فلعل المفارقة الأهم على الإطلاق فى كل ما جرى هى ما قاله الرئيس التونسى فى خطابه قبل أن يرحل بساعات. فهو تحدث عن «تضليل» تعرض له من مستشاريه بشأن الأوضاع فى البلاد، ثم قال لمواطنيه الثائرين فهمتكم
د. منار الشوربجى- Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment