بدأ الخوف من «العدوى التونسية» قبل أن تبلغ الانتفاضة ذروتها وتُسقط حكم الرئيس بن على، طال هذا الخوف حكومات فى بلاد عربية أخرى لا تختلف ظروفها الموضوعية كثيراً عن تونس.
تمكنت الحكومة الجزائرية من احتواء الاحتجاجات التى وقعت فى بعض المناطق عبر إجراءات فورية لتجميد الضرائب على بعض السلع الغذائية.
أما الحكومة الأردنية فقد اتخذت إجراءات سريعة للحد من ارتفاع أسعار الغذاء، ومع ذلك خرجت مظاهرات واسعة نسبيا الجمعة الماضى. وكان واضحا تأثير الأحداث فى تونس عبر الشعارات التى رُفعت فيها مثل ( هلا يا أردن هلا.. الموت ولا المذلة).
إنها، إذن، العدوى التى تخشى حكومات عربية عدة أن تنتقل من تونس التى حقق شبابها تحولاً نوعياً فى التعبير عن الغضب المتراكم من جراء سياسات أدت إلى تفاقم الفقر وتضخم ثروات الأكثر ثراء.
وبالرغم من أن أجهزة الدولة المصرية تتميز بحساسية خاصة فى مثل هذه الظروف، فقد أبدى بعض أركان الحكومة وأباطرة المال ثقة مفرطة عبر تأكيد أن ما حدث فى تونس لا يمكن أن يؤثر فى مصر، وإذا كان صحيحاً أنه لا استنساخ ولا عدوى بالمعنى الدقيق فى التطور السياسى والاجتماعى، فهذا لا يمنع التأثير والتأثر.
ولذلك يبدو أن هؤلاء ينامون على حرير ولا يشعرون بما آلت إليه الحال فى قاع المجتمع، فالمعاناة المتزايدة لا تقتصر على القاع السحيقة، حيث تستحيل الحياة الآدمية بالنسبة إلى الخُمس (٢٠%) الأفقر من السكان الذين يحصلون على نحو ٩% من الدخل الكلى، فى الوقت الذى يستحوذ الخُمس (٢٠%) الأكثر ثراء على نحو ٤٠% من هذا الدخل.
فإلى جانب أهل القاع الأشد فقرا، يعيش نحو ٢٠% آخرون فى فقر تتفاوت معدلاته ويأس تزداد مرارته، بعد أن فقدوا الثقة فى الوعود البراَّقة على مدى أكثر من ثلاثة عقود.
وبالرغم من أوجه اختلاف عدة بين الأوضاع فى تونس ومصر، فهذا وضع لا يبعث على الاطمئنان حتى بافتراض أن المطمئنين يمتلكون خططا لا سابقة لها لمعالجة التناقضات الاجتماعية الهائلة التى ترتبت على سياساتهم، فقد كان نظراؤهم فى تونس سعداء بالنمو الاقتصادى الذى تحقق لسنوات وأدى إلى شيوع اعتقاد فى أنهم حققوا معجزة.
صدق الكثيرون فى العالم قصة المعجزة التونسية التى كشف الشاب محمد بوعزيزى حقيقتها عندما أحرق نفسه، فأوقدت ناره حماس شباب صبروا طويلا وتراكم الغضب فى صدورهم.
وليست هناك مناعة إزاء مثل هذا التحول فى أى مجتمع يبلغ فيه التناقض الاجتماعى مستوى مماثلا لما وصل إليه فى تونس، حتى إذا اقترن هذا التناقض بتشظى المجتمع وتشرذمه وتفتت المصالح فيه كما هى الحال فى مصر، فهذا التفتت يحول دون نشوب انتفاضة اجتماعية يجمع المشاركين فيها هدفُ واحد ومصالح منسجمة ، ولكنه لا يمنع انفجار هبَّات متزامنة لأهداف متنوعة يمكن أن يربط بينها غضب عام ذو طابع عشوائى.
وليس صعبا الاستدلال على هذا الغضب فى أوساط عدة فى المجتمع المصرى، ويمكن أن يؤدى انتشاره إلى إضعاف «المناعة» وتقليل القدرة على مقاومة عدوى النزول إلى الشارع، حين تنتقل من مصدرها وتنتشر فى المنطقة، ففى هذه الحالة، يمكن لعدد من الاحتجاجات الاجتماعية الصغيرة التى صارت معتادة فى مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة أن تتحول إلى هبَّات تحمل هى العدوى داخلياً وتنشرها، ولكن دون أن تنتهى بالضرورة إلى النتائج التى أسفرت عنها الانتفاضة التونسية.
وتدلنا التجارب عبر التاريخ الحديث على أن الهبَّات المتزامنة التى لا يجمعها إلا الغضب المتراكم فى الصدور تكون أخطر من الانتفاضة التى يجمع المشاركين فيها هدف محدد أو أكثر، وحتى هذه الانتفاضة التى بدأت سلمية راقية فى تونس، انتهت إلى انفلات وأعمال للسلب والنهب لا يتمنى أحد حدوث مثلها فى بلاده.
وهذا هو ما ينبغى أن يعرفه النائمون على حرير والمطمئنون إلى أن تفتت المجتمع يجعله عاجزا عن الانتفاض، والمراهنون على أن تشوه وعيه يجعل الدين هو العامل الرئيسى بل الوحيد الذى يمكن أن يحركه.
وليتهم يعرفون أيضا أن إمكانات تسكين بعض الآلام الاجتماعية الناتجة عن سياستهم تتناقص، وأن الحذر من إجراءات صادمة للناس قد لا يمنع «القدر» فى حالة تقلص هذه الإمكانات، فالآثار المالية السلبية الناجمة عن العلاوات الاجتماعية التى أصبحت سنوية ودعم السلع والخدمات تتراكم وتتفاقم عجزا متزايدا فى الموازنة العامة وزيادة مخيفة فى الدين العام المحلى تقترب من تريليون جنيه (نحو ثمانمائة مليار الآن).
فإذا اضطرت الحكومة، تحت ضغط هذه الآثار المالية، إلى تقليل المسكنات الاجتماعية، قد يصبح الجسد الاجتماعى المصرى مهيأ لتلقى أى عدوى تونسية أو غيرها، إذا لم يستيقظ النائمون على حرير بعيداً عن قلب المجتمع
د. وحيد عبدالمجيد-Almasryu Alyoum
No comments:
Post a Comment