Tuesday, January 18, 2011

ثلاث صور للجسد المُصَادَر فى الثورة التونسية

وحد الفرح ملايين العرب فى اللحظة التى تحولت فيها الاحتجاجات الشعبية التونسية إلى ثورة، فرّ على أثرها زين العابدين بن على مساء الجمعة، متخبطًا ليلة كاملة، بحثًا عن مكان على الأرض التى ضاقت عليه بما رحبت.

الفرح خالطته الدهشة، إذ اكتشف ملايين البشر الخائفين فوق خريطة الاستبداد العربية أن المسألة ليست صعبة. كل ما يحدث فى الثورات هو انكسار حاجز الخوف ونزول الجماهير بأعداد كبيرة تدفئ بعضها بعضًا. حدث ذلك فى الثورتين الفرنسية والتونسية وما بينهما من ثورات فى ٢٢٣سنة، لكن هذه البديهة تغيب عن وعى أنظمة التغول التى تمضى بغباء إلى حتفها.

هناك دائمًا حادث أخير، ليس شرطًا أن يكون كبيرًا، وليس شرطًا أن يكون قرارًا من رأس النظام، لكنه يأتى بعد امتلاء الكأس، فتشتعل الثورة ببساطة، لأن أحدًا لا يمكنه أن يضيف المزيد إلى كأس ممتلئة.

الحادث الأخير الذى أطاح بنظام زين العابدين تسبب فيه كف من شرطية على وجه شاب جامعى يعمل بائعًا جوالاً.

اللطم على الوجه إجراء مهين تقدم عليه شرطة الاستبداد يوميًا بسهولة وبساطة، لكنه عندما يحدث فى اللحظة الأخيرة يكون له شأن آخر.

صورة البوعزيزى المنحنى للمرة الأخيرة فى حياته وسط النيران المشتعلة فى جسده حولته إلى أيقونة، وهى واحدة من ثلاث صور استوقفتنى فى الثورة التى أتمنى ألا يسرقها السراقون وأن تكلل تضحياتها بالنجاح لتصبح أول ثورة شعبية فى تاريخ العرب تحقق أهدافها.

الصورة كررتها التليفزيونات كثيرًا فى تغطياتها، يبدو فيها البوعزيزى مشتعلاً فى وضع الركوع، لا يبدو له وجه وسط النيران، ذراعاه متدليتان إلى قدميه مثل سعف نخلة نخرها السوس فانطوت على نفسها.

صادر الفساد جسد البوعزيزى أولاً عندما حرمه من الاستمتاع به، كما يُفترض بإنسان تعلم وكان من حقه أن يجد العمل الذى يساعده على أن يحب ويتزوج ويؤسس لحياة جديدة، ومع ذلك واصل الشاب حياته، لكنه عندما فشل فى صون جسده من الإهانة أقدم على إحراقه ليحرم اللصوص من الاستمتاع بإهانته.

الصورة الثانية التى كررت الفضائيات بثها كانت لشاب من المتظاهرين ملقى على الأرض، تحت هراوات الأمن. الشرطيون شداد طوال بشكل ملحوظ جدًا، وفى طول واحد وكأنهم مستوردون من بلاد العماليق مع علفهم الذى لا تأكله بقية الشعب التونسى، أو كأنهم خرجوا من خط إنتاج واحد فى مصنع لتصنيع الحرس.

يعزز هذا التصور القوة الميكانيكية فى سواعدهم أثناء الضرب واختفاء وجوههم تحت الخوذات، لا ملامح واضحة، لا يبدون بشرًا لهم أمهات وزوجات وأخوة يعانون البطالة وأبناء ينتظرهم ذات المصير.

رجل الأمن فى الدولة العادية ضرورى لبقاء الأوطان ولأمان أفرادها، بشر عنده أسرة مثل أى بشر آخر، وعنده جسده الممشوق ويحق له أن يتباهى به كرجل مرغوب من امرأة تحبه، لكن الاستبداد الذى صادر أجسادًا عادية وأجسادًا ضعيفة وأجسادًا بين بين بسرقة فرصتها فى الحياة، يعود ليصادر الجسد الشرطى المفروز بعناية عندما يضعه فى حراسة السراقين.

الصورة الثالثة، صنعت نهاية مرحلة، عندما صار واضحًا أن بحر الجماهير الهادر لن يرتاح إلا على شاطئ تطهير تونس من الطاغية وحاشيته. نزل الجيش إلى الشارع وكررت الفضائيات صورة المصافحة بين الثوار ورجال الجيش، وفى الصورة تبدو الأجساد المتباينة فى الطول والضعف والنحافة والسمنة للمتظاهرين من جهة والأجساد الموحدة لأفراد الجيش من جهة ثانية، وابتسامة الأمل تظلل وجوه الثائرين ووجوه الجنود.

صحيح أن المصافحة كانت مع الجيش لا الشرطة، لكنها كصورة أعطت لحامل السلاح الميرى فى الشارع ملامح، وكأن الثائرين الذين استعادوا أجسادهم من بين أسنان العصابة المستبدة حرروا معهم أجسادًا كانت حتى أيام قليلة فى تضاد معهم

عزت القمحاوى

Almasry Alyoum

No comments: