أصحاب وصاحبات الفكر الجديد لا يموتون، وإن ماتوا ودفنوا.. لا يمكن لصاحبة أو صاحب فكر جديد أن ينال فى حياته سلطة أو مالا أو منصبا، الإبداع والتمرد طريق شاق صعب، أتذكر مقولة كان أبى يرددها فى طفولتى: «احترمت نفسى حين خيّرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب»، للإبداع والتمرد ثمن باهظ هو ثمن الحرية والعدالة والكرامة، لا يوجد فكر جديد دون التمرد والثورة على القديم، أصحاب السلطة والمال يخافون الفكر الجديد، لهذا يسعون دائما للقضاء على أصحاب الفكر الجديد، بالتجاهل أو تشويه السمعة والتشريد، بالنفى أو السجن أو الموت، لكن يعيش الفكر الجديد، رغم أنف أى جبروت.
قد يشعر المبدع المتمرد بالتعب أو اليأس، لكنها لحظة عابرة تمر سريعاً، لأن الإنسان يكتسب بالإبداع قوة نفسية وعقلية كبيرة، مع قوة الأمل فى المستقبل، وإن كان وحيدا داخل زنزانة السجن أو العزلة فى البيت، بعد أن يتخلى عنه الأهل والأصدقاء خوفا من بطش السلطة، أنا أعيش طالما أكتب أفكارى، إن لم تُنشر اليوم فسوف تُنشر فى المستقبل القريب أو البعيد، لا أفقد الأمل فى المستقبل إلا نادرا، حين تشتد الظلمة ويعم الفساد فى الدولة والعائلة، كما هو الواقع فى بلادنا اليوم، حين أعيش بالمنفى داخل الوطن، حين تهرب النخبة إلى السلطة والمال والمناصب.
كنت جالسة فى بيتى بالقاهرة أتابع الأخبار فى الإذاعات، مرت بى لحظة حزن عميق، تشبه اليأس، أخبار الوطن كلها سيئة، من سيئ إلى أسوأ، مزيد من استبداد السلطة الحاكمة، مزيد من نفاق النخبة، مزيد من القهر الطبقى الأبوى للفقراء والنساء، لا شىء يبعث على البهجة فى أى بلد من العالم شرقا وغربا، لا إبداع جديداً، لا تمرد، لا ثورة.. بعض احتجاجات معارضة لا تؤثر، نخب مثقفة تدعم الحكم القائم، هل ماتت الشعوب من القهر والفقر والمرض؟.. فجأة دوت أصوات الملايين ترج الكون: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر..انتفضت واقفة منتصبة القامة أردد معهم كلمات الشاعر أبى القاسم الشابى، الذى مات ودفن منذ ٧٧ عاما، لكنه عاد حيا يقود الملايين من وطنه فى تونس، خرجت الملايين يهتفون بأبياته، أصبح الشاعر قائدا للثورة الشعبية رغم موته، خرجت كلماته إلى النور، دوى صوته مع الملايين.. نساء ورجال وأولاد وبنات وأطفال، وأنا أيضا فى بيتى بالقاهرة أصبحت أهتف معهم بكلماته.. صوتى يختنق بدموعى وقلبى ينتفض: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر.. عاد الأمل يرج كيانى بقوة كبيرة، عاد الدم الحار يجرى فى عروقى، كسر الشعب قيده وانطلق تلقائيا، ثورة شعبية تجاوزت الحكومة والأحزاب الشرعية والنخب السائدة المسيطرة، أحيا الشعب شاعره المبدع المتمرد، بعد أن دفنته السلطات الحاكمة فى القبر ثمانية عقود، استلهم الشعب ثورته من إبداعه الشعرى المتمرد، أسقط الشعب رأس الدولة والحكومة الفاسدة والأحزاب الشكلية والنخبة المنافقة ولصوص الأموال والأراضى، فتح الشعب أبواب السجون للمناضلين، وأعاد المبدعين المتمردين من المنفى خارج تونس.. تتوالى الأخبار من الإذاعات وقلبى لا يكف عن الخفقان تحت ضلوعى، دموعى لا تكف عن التدفق، تغسل أحزانى المتراكمة، منذ ولدت طفلة فى عالم طبقى أبوى تحكمه القوة المستبدة فى الدولة والعائلة والمدرسة ودور العبادة، تصفعنى كلمة «بنت» فى كل مكان كأنها عاهة ولدت بها، أما موهبتى الإبداعية المتمردة فقد أصبحت عاهة أخرى دفعت بى إلى المنفى خارج الوطن وداخله.
الفرحة تغسل الأحزان القديمة والجديدة، ثم تتبدد الفرحة لحظة، حين تنطلق عصابات الشرطة التابعة للحكم لإجهاض الثورة الشعبية فى تونس، تنهب وتقتل فى ظلام الليل، بعد أن رفضت قيادات الجيش ضرب الثورة الشعبية، رفض الجيش التونسى أوامر الرئيس قبل هربه، هدد الرئيس بإقالة رئيس هيئة أركان الجيش، رشيد عمار، لكن القائد العسكرى الوطنى فضّل الإقالة عن أن يضرب الشعب.. نموذج نادر من قائد جيش، موقف إبداعى متمرد على السلطة لا يقل قوة عن كلمات الشاعر أبى القاسم الشابى، فالإبداع هو الإبداع وإن كان كلمات شعرية أو مواقف حاسمة ضد السلطة المستبدة، الكلمة المبدعة المتمردة موقف، كما أن الموقف المتمرد إبداع، لا يقل عن أى إبداع آخر، ثم نزل الجيش إلى الشوارع ليحمى الثورة الشعبية، قبض الجيش على قيادات الشرطة التى امتنعت عن حماية الشعب أو التى شاركت فى النهب وتحويل الثورة المنظمة إلى فوضى، هذا الجيش التونسى نادر الوجود فى عالمنا العربى.
كم يشبه الحكم الساقط فى تونس الكثير من الحكومات العربية التى تحكم شعوبها بالحديد والنار والديكتاتورية!.. كيف تزور الانتخابات بالطريقة نفسها تحت اسم الديمقراطية، كيف تشكل الأحزاب المعارضة التى تعمل سرا مع الحكومة، كيف تولد المعارضة بعملية قيصرية من بطن الحزب الحاكم نفسه، فيصبح زعيم المعارضة فى البرلمان رجلا من أقرب الرجال لرأس الحكم؟!
تستخدم الكلمات الثورية المزيفة ذاتها مثل كلمة «ثورة التصحيح»، وتعنى تصحيح مسار الأموال لتصب فى جيوب الحكام وعائلاتهم، عرفنا تاريخ الرئيس التونسى المخلوع وزوجته السيدة الأولى المخلوعة مع زوجها، وهى زوجته الثانية، تزوجها بعد أن تخلى عن زوجته الأولى أم أولاده التى أخلصت له طوال السنين التى عاشتها معه، خيانة الوطن لا تنفصل عن خيانة شريكة العمر، ضرب الشعب مثلما ضرب زوجته الأولى، صوب فى ظهرها خنجرا فطلقها فى كهولتها بإرادته المنفردة، ليتزوج من امرأة شابة كانت تشتغل بالحلاقة ثم بالتجارة وقبض عليها البوليس فى عملية غير قانونية، كان هو مديرا للأمن فأنقذها ثم تزوجها، قبلت الزواج من رجل له زوجة وأولاد، هل مات ضميرهما؟
كان يحتل مناصب كبيرة قبل أن يقفز على الحكم بعد خلع الحبيب بورقيبة، تحت اسم حركة التصحيح، أصبح الرئيس التونسى المخلوع وزوجته السيدة الأولى (الزوجة الثانية) وعائلتهما بعد حركة التصحيح يملكون كبرى الشركات فى تونس، من الطيران إلى الهاتف المحمول، إلى كل ما يربح البلايين، سيطروا على قطاعات الاقتصاد واختلسوا الأموال والأراضى، حتى شركة «ماكدونالد» رفضوا التصريح لها، حين أراد غيرهم امتلاكها.. جشع بلا حدود هو سمة الحكم المستبد، وبرلمان مزور لا يقوم بدور الرقابة على الحكومة، لا ينفذ قانون: «من أين لك هذا؟»، بل يشترك أعضاء البرلمان فى نهب الشعب، مثل نواب القروض ونواب أراضى الدولة ونواب المخدرات والنساء والفساد بشتى أنواعه.
بعض الرجال فى بلادنا يقولون إن رأس الفساد فى تونس كان السيدة الأولى زوجة الرئيس المخلوع، وهذا اتجاه يلصق الخطيئة بالأنثى، بحواء الآثمة، زوجها آدم برىء.. إنه انفصال السلطة عن المسؤولية، يصبح الأكثر سلطة أقل مسؤولية، إنه قانون الحصانة الطبقى الأبوى، رئيس الدولة كان يقبض على السلطة وبالتالى هو المسؤول الأول عن فساد الحكم وليس زوجته
نوال السعداوى
Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment