من وحى تونس أكتب هذه المرة، وأعترف من البداية بفرحتى وتعاطفى مع الشعب التونسى، ليس فقط لأنه شعب عربى أشعر بدرجة غير قليلة من قرابتى منه، وإنما لأنه شعب.. شعب له إرادة جماعية يعبر عنها بالطريقة التى يحددها وحده، بعيداً عن حسابات الآخرين وتقييمهم لما يفعل.
لست معنياً كثيراً بأن يكون ما يجرى سليماً تماماً أو تشوبه بعض الأخطاء، لا يهم، المهم فى هذه المرحلة هو تحقق الإرادة الشعبية. أخذت أتابع الأخبار وأتأمل الأحداث محاولاً العودة - كل حين - إلى الحكمة التى أضعها فى مقدمة أولوياتى، أو هكذا أحاول، وأتصور أننى أفعل.
عدت إلى الحكمة، وتركتها تعلمنى أن إرادة الشعوب لها قوة جارفة كقوة المياه الفياضة التى نشاهد ثورتها فى نفس نشرات الأخبار التى تعرض أحداث ثورة تونس.. وأين الحكمة فى ذلك؟
الحكمة تكمن فى أهمية استيعاب الدرس، الذى يؤكده التشابه بين الفيضانات الكاسحة وثورات الشعوب، لا يستطيع أحد أن يمنع هطول الأمطار لتملأ الأنهار، وتغرق الوديان، وتقتلع المدن والجسور، كما أنه لم يُخْلَقْ بعدُ - وأظنه لن يُخْلَقَ أبدًا - من يستطيع أن يقف فى وجه ثورة شعبية حقيقية.. ثورة تقتلع الفساد من جذوره، وتطيح بأعداء الشعب، الذين نجحوا فى استغلاله أو استعباده أو خيانته بتسهيل مهمة من يتربصون به وبمصالحه.
الانقلابات العسكرية قد تفشل، وينجح أصحاب السلطة فى السيطرة عليها، تمامًا كما تنجح البلدية وشركة المياه فى السيطرة على المياه المندفعة من ماسورة مكسورة نتيجة لأعمال حفر فى مترو الأنفاق.
العدوان العسكرى الخارجى يمكن التصدى له والقضاء عليه مثلما يحدث فى حالة المياه التى تتجمع على السطح عند انسداد المزراب الذى يُصَرِّف المياه أولاً بأول... أما الثورة الشعبية التى تعبر عن إرادة جماعية متحدة، فهى تسير فى طريقها حتى تحقق أهدافها تحطم أىَّ شىء يقف أمامها، كما تفعل الفيضانات التى تحاصرنا من أقصى الشرق فى أستراليا، وأقصى الغرب فى البرازيل.
المياه والإرادة الشعبية لا يجوز لأحد أن يتحداهما ويحاول منعهما منذ بضع سنوات أخطأنا بالبناء فى مخرات أو ممرات السيول، فجاءت فى موعدها لتقتلع كل بناء أحمق غرس أساساته فى طريقها، كما تغرس الناموسة شوكتها فى ذراعى، فيسهل علىَّ اصطيادها.
يخطئ بعض الحكام بتجاهل الإرادة الشعبية والتعالى عليها.. يعميهم غرورهم الأمنى عن إدراك الخطر المتنامى حتى يفلت الزمام. لهؤلاء نقول: أَنْصِتُوا للشعب، وتعرفوا على رغباته وآماله وطموحاته لتنفذوها، فما أنتم فى مواقعكم إلا للسهر على راحة شعوبكم وتحقيق أهدافها التى يحددونها هم. توقفوا عن لعب دور الأب أو الأخ الأكبر فى تعاملكم مع الشعب، فمن غير المقبول أن يقول حاكم لشعبه: أنا أكبر منك، وأعرف مصلحتك. هذه الوصاية التى يفرضها بعض الحكام على شعوبهم هى الوقود المثالى لإشعال الثورات.
الطريف أن هذا كله يحدث على الرغم من عدم تعارض المصالح بين الشعب وحكامه، فالكل ينشد أن يعيش فى أمان وكرامة، وينعم برزق عادل يتناسب مع موارد الدولة أو المملكة، وهى موارد قابلة للزيادة دائمًا لو أحسن الحكام تجميع وتوحيد الطاقات الفكرية والإبداعية، وتحفيز أبناء الأمة على إتقان عملهم والتفانى فيه، فيعم الرخاء على الجميع حكامًا ومحكومين.
الشعوب لا تهوى الثورات، فلا يوجد من يلجأ إلى الصدام والقتال والتعرض للمخاطر المختلفة إلا عندما تُسَدّ كل الأبواب فى وجهه، وحتى عندها لا يثور إلا إذا تأكد له أنه يعيش فى وادٍ من المعاناة والألم، بينما يستمتع الحكام وحاشيتهم بحياة ألف ليلة وليلة.
لو وعى الحكام الدرس تسعد الشعوب، ويسعد الحكام، أما من يقف فى وجه الطوفان فمصيره كمصير قوم سيدنا نوح -عليه السلام- الذين سخروا منه.
هنيئًا لتونس، وكل الشعوب التى يدرك حكامها حكمة «المياه والإرادة الشعبية» قبل فوات الأوان.
ليست مصادفة أن تتزامن الفيضانات مع ثورة تونس.
محمد عبدالمنعم الصاوى-المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment