Thursday, January 20, 2011

طيور الظلام العميق

مهلا يا سادة..

فالجسد المتمدّد فى الشارعِ تحت عناوينِ جرائدكم.. حىّ!

هى نوبة صَرَع صغرى

مما يعتاد الوعى المصرى..

حين يخاف جفاف النهر

هى نوبة..

فابتعدوا عنه قليلا حتى لا يُحجب عنه النورُ

وإلاّ..

ستكونون القتلَة

قال العارف بالإنسان

للجسد العائد من نوبة موت:

لا تلتزم الصمت!

تكلم حتى يُعرف أنك..

وحتى نَعرف من..

غص فى قلبك ثم تكلّم

اعبر منطقة النبضِ الخادعِ

واللحم المخدوع

إلى تيهِ القاع المظلم

ماذا يضنيه؟

ماذا يتشكل فيه؟

ماذا ينمو فى صحراء التّيه

زهرُ أم شوك أم خِدْر أم طلسم؟

لا تلتزم الصمت

ولا تتصنّع أنك أبكم

فالعسسُ الساهر فى الشارع..

يرصد خطواتك معتقلا ظلّك

يعلمُ ما لا تعلم

حرفان اثنانِ

كثيرا ما ينفلتان برغمك فى نوبات الصرعِ الكبرى..

حين تعضّ الأسنانَ الأسنانُ

فيخرجُ من بينهما مع فوران الزّبد لسانٌ

تلدغه ألسنةٌ أخرى

تُدميه فيخرج منه الحرفان:

«هم»!

حرفان اثنان كأنهما كلّ المعجم

تنفجر الهاءُ هواء محبوسا فى الصدرِ

وتنفجر الميم ظلاما مسجونا فى الدمّ

وينغلق الفم

مَن سجنك؟ مَن سجنك داخل بدنك؟

مَن ختم الشمع على عينيكَ..

وختم القار على أذنيكَ..

وصاح بك: اسكت تسلم!

مَن أوصلك إلى هذا الحد من الموت

حتى إنك لا تصرخ

أو تغضب.. أو تشكو

أو تهتمّ؟

من أعطاك المصل القاتل

وبأى الأمصال حقنت لكى تبرأَ فسقِمت

أبالمصل المصرىّ أم العربىّ

أم الشرقىّ أم الغربىّ

أم المصل التجريبىّ الحائرِ بين المعلن والسرىّ

أما ختلطت فيك الأمصال جميعا

حتى إنك ما عدت تفرقُ..

بين الأزمنةِ وبين الأمكنةِ

فتهت وتاه الوعى الفارقُ بين الدنيا والآخرةِ

فكانت سقطتك الكبرى فى الشارعِ

مفتوح العينين على لا..

مفتوح الأذنين على لا..

تتفاداك العربات المارّة

والنظرات الفارّة

ظنا أنك..

بينا أنت - عميقا -..

تنظر وترى.. فى عتمات المشهدِ

لكنك لا تعرف إن كنت ترى..

أم أنك تتقلب فى طيات الوهم

مقتول أنت. فمَن قتلك؟

مَن قتلك داخل أحزانك

ثم استأجرك لتخفر جثتك وتغسل عنها الدم؟

- «هم»

من يعطون الأيام اللون الكالح

والأحلام الطعم المالح

والأقدام علاماتِ السير الواضح

فى طرقات التيه

والوقفة تحت مظلاتّ التمويه

منتظرا ما لا يأتى أبدَا

ما لا تدركه إلا حين يضيع العمر

وتذهب أيامك بددَا

«هم»

من أخذوا منى الوجه الشهم

وأعطونى الوجه الجهم

أقاموا فى قلبى المهزوم

«سنينًا عددا»

حتى اختل النبض.. بطول الخوفِ

وطول الزيفِ

وطول الذلة فى الوقفة بين اللا ونعم

«هم»

من قتلونى عمدا

أخذوا منى طير الفرحة أفراخا

صادوها غصًبا وفخاخا

وأقاموا للحزن الدائم ملكوتا فى قلبى..

استهوى كل خفافيش الأرض

فحطت..

تأكل من دمه ما يشفيها أو يشفيه

حتى غاض الدمّ

وغامت فى العينين الرؤيةُ..

وانسحب الزمن الحالم

خلف الزمن الجاثم

فانغلق الفم

«هم» ظنوا أنى..

لكنى - فى العتمة -..

روحى فى الأسر

جسدى فى النهر

أترقب وعدا.. سوف..

يلملم أشلائى

يأخذنى

فى دورة سفر أخرى

بحثا عن حلمٍ..

غير الحلم

وعن أزمنةٍ أخرى

غير الأزمنة الصغرى.

الحراس!

لو لم تكن عيون الناس تزحم الميدان

كتيبة من الجنود

تراقب الزمان والمكان

تهم كل لحظة بالانقضاض

بسحب شارة الأمان

بالبحث عن ضحايا الصمت والشرود

وباعتراض صاحب الخطى البطيئة

والنظرة المذعورة الزوايا

لو لم تكن قانونها الوحيد

«لابد من ضحايا»

لكنت يا جميلتى التى أفسحت لى الطريق

- بنظرتى حنان -

أعطيتك الاسم الذى قد كان..

فى سالف الزمان

وكنت قد ألقيت رأسى فوق صدرك الحنون

بكل ما فيه من الحرمان والجنون

وكنت قد صرخت إننى مهان

لتحملينى من ممالك الأحزان

إلى بلاد لا تُخبأُ الأفراحُ فيها..

أو تخبأُ الحسان!

لكننى جبنت

خشيت أن تكونى واحدا من الجنود

يعيدنى للسجن من جديد

بتهمة الحاجة للحنان

لو لم أكن ضحية الظلام والجدران

والسجن والعزلة والسجان

لو لم أكن ضحية الأحزانِ..

والأحلامِ..

والمرايا العاكسة

والفكرة المشاكسة

لكنت قد ركعت للعيون ركعتين

نطقت بالشهادتين

وقال مزمارى القديم كل ما اختزن

من الدعاء والصلاة

وكنت قد صرخت للجمال: أيها الوثن

كن لى..

وليغفر الله الكبير رعشة الوهن

أو تمنحينى أنت قوة الإيمان

لكننى جبنت

خشيت أن تكونى واحدا من الجنود

يعيدنى للسجن من جديد

بتهمة الحاجة للأمان

لو لم أكن فى الشارع العريان

وفى النهار الفاضح المزيف الألوان

لكنت قد بكيت عمرى كله أمامك

ماءً.. وملحاً قائم الزوايا

فرشتُ أرض الشارع العريان بالمرايا

أصبت كل العابرين بالخبل

وكنت قد صرخت دونما خجل:

يا أيها المشاة

الله فى السماء وحده

وليس فوق الأرض غيره إله!

لكننى جبنت

خشيت أن يكون الناس كلهم جنود

فيقتلونى بتهمة الحديث فى الأديان!

حبيبتى التى راحت كأنها..

حبيبتى التى جاءت كأنها تروح

أراك.. أهذى : إننى..

وحينما أهمّ بالكلامِ..

لا أبوح.

شعر

بهيج إسماعيل

No comments: