هو العنوان الذى اخترته، بعد أن شطبت عدة عناوين أخرى، فى مقدمتها «أيام سودة»، و«كلنا أنانيون»، و«لا تظلموا الفقر».. شطبتها وغيرها لما تعكسه من درجات عالية أو منحطة من التشاؤم والاستياء والقرف.
عذبت نفسى طويلاً قبل كتابة هذا المقال، كى لا أعذبكم وأنتم تقرأونه. نظرت حولى، فوجدت أن الكثير مما كنت أنوى كتابته قد صاغه كُتَّابٌ أفضل منى. تمنيت من قسوة الحالة التى عاشتها مصر أن نمنع الأطفال والشباب عن مشاهدتها كما نمنع عنهم المشاهد الجنسية الفجة!! مشاهد الانتخابات بالنسبة لى أخطر كثيرًا من إثارة الغرائز التى سرعان ما يزول أثرها، أما الانتخابات التى نعيشها وتُميتنا، فهى تجسد كل أشكال الفساد مع سبق الإصرار.
كاد عقلى ينفجر من شدة تسارع الأفكار وتلاطمها داخل شعيراته الدقيقة التى لا أظنها ستحتمل مع قلبى تجربة أخرى كهذه!
لو كان الأمر بيدى، لوضعت كل من شارك فى العملية الانتخابية الأخيرة فى قائمة سوداء- الراسبين قبل الناجحين- قائمة تضمن عدم مشاركتهم فى الحياة السياسية بعد اليوم.. وَلْيُظْلَمِ العدد الضئيل جدًّا من الشرفاء، وأحسبهم– الشرفاء- سيفرحون بهذه التضحية، التى تحمى مصر من رؤوس الخراب، فحينما نتحدث عن الفساد يجب ألا نستثنى الراسبين، فقد لجأوا إلى نفس الأساليب، وانتهجوا نفس المناهج الدنيئة رافعين جميعًا شعار: «الغاية تبرر الوسيلة».
تقديرنا للفائز والتجاوز عن سيئاته ما هو إلا دليل على استمرار عصر «الفتونة»، الذى برع نجيب محفوظ فى تصويره فى رائعته «الحرافيش».. يتصارع اثنان بكل سفالة، يسقط أحدهما، فنحمل الفائز على الأكتاف، ونهتف له حتى تُبَحَ أصواتنا! أحسد محفوظًا على رحيله قبل أن يرى ما حّذَّرَ منه منذ نصف قرن قائمًا لا يزال.
هذا عن الأيام السودة.. أما عنوان «كلنا أنانيون»، فقد قصدت به تشخيص الحالة.. نعم لقد أصبح غالبية المصريين أنانيين: يلعنون الفساد إلا حينما يستفيدون منه.. ينددون بالرشوة التى تقدم لغيرهم أو لا تعود عليهم بالمصالح.. يصرخون فى وجه الظلم والاستثناء إلا لو كان يعفيهم من شرط مهم لا يتوفر فيهم... أنانيون فى كل طابور، وفى أولويات المرور.
«لا تظلموا الفقر»، فما وصلنا إليه هو ما أدى إلى تفاقم الفقر.
سامحونى، لقد انتصف المقال قبل أن أصل إلى عنوانه المختار «الوطنية التى أعرفها». الوطنية التى أعرفها هى وطنية غير قابلة للاحتكار، وطنية لا تحتاج إلى انتماء إلا لمصر، وطنية أسمى من كل حزب أو جماعة، وطنية تُمَارَسُ ولا يُهْتَفُ بها، وطنية لا تحتاج إلى شعارات أو لافتات.
الوطنية التى أعرفها هى أن ترفض أن تكون راشيًا، أو مرتشيًا، أو وسيطًا بينهما.. الوطنية الحقة هى أن ترفض كل أشكال الاستثناء حتى لو كانت لصالحك.. الوطنية التى أعرفها هى ألا تخشى إلا الله وحده، فلا تنافق، أو تتوسل وتتذلل، بل تطالب بحقك بإصرار وكرامة.. الوطنية هى أن تربى أبناءك على حب مصر والمصريين جميعًا: مسلمين ومسيحيين ويهوداً.. عَلِّمْ أبناءك أن العقيدة مسألة شخصية، لا يجوز التدخل فيها، أو التقييم على أساسها.. علاقتك بالناس تكون على أساس معاملاتهم.
الوطنية التى أعرفها هى استعدادك الدائم لمساعدة المحتاج الحقيقى مع امتناعك التام عن تخريب الأمة بتشجيع الشحاذة التى خلقت أمة موازية من الشحاذين وأطفال الشوارع.. الوطنية التى أعرفها هى ألا تلجأ إلى الطلاق عند أول مشكلة أسرية تواجهها، فيتفكك المجتمع، وتزيد مآسيه.
الوطنية هى أن تتقن عملك، فيتحسن اقتصاد الوطن، وتزيد قدرته التنافسية.
الوطنية التى أعرفها هى أن تسير ما استطعت تخفيفًا للزحام، وأن تركب دراجة متخليًا عن عُقَدٍ غائرة.
الوطنية هى أن تقرأ كتابًا يزيد من درجة استنارتك.. أن تسهم بفكر أو فكرة أو تنضم إلى فريق من الباحثين أو المخترعين.
الوطنية تعنى الإقلاع عن تدخين السجائر والشيشة، ومحاربة الخمور والمخدرات.. الوطنية التى أعرفها تبدأ من عدم إلقاء ورقة أو البصق فى الطريق، والامتناع عن استخدام الزمارة، وأن تأكل وتلبس من إنتاج بلدك.
الوطنية التى أعرفها تعنى ترشيد الطاقة والمياه، وتعنى تنظيف لسانك من الألفاظ القذرة التى تراكمت عليه.
الوطنية التى أعرفها هى أن ننصر الله لينصرنا ويثبت أقدامنا، ونصر الله الذى أعرفه ليس، بالضرورة، قتالاً على الجبهة، ولكنه الانتصار لكل القيم والفضائل، ونشر المحبة والتسامح والرحمة؛ لعله يرحمنا، ويغفر لنا فهمنا الخاطئ للوطنية!
محمد عبدالمنعم الصاوى
No comments:
Post a Comment