قالت «منى»: أصبح واضحا أن الانتخابات لم تنجح فى تحقيق الديمقراطية، فى بلادنا، ألا يمكن للعقل أن يبدع طرقا أخرى غير هذه المسرحية التى تسمى انتخابات والتى يمكن تزييفها بسهولة بالمال والإعلام والسلاح؟
قالت نوال هذا السؤال تردد فى السنين الأخيرة بين الشباب والشابات فى جامعات أوروبية وأمريكية وفى بلادنا أيضا، إن تزييف إرادة الملايين من الناخبين هى ضرورة لاستمرار استغلالهم ومص دمائهم وعرقهم داخل البلد أو عالميا، فنحن نعيش فى عالم واحد يحكمه نظام سياسى اقتصادى تعليمى واحد، قائم على التزييف والكذب والازدواجية، لم يكن موقع ويكيليكس أول من فضح أكاذيب الرؤساء والملوك فى الغرب والشرق، بل إن التاريخ كله يكشف فضائح وأكاذيب الإمبراطوريات القديمة والحديثة، فى الانتخابات المصرية الأخيرة شارك فى عملية التزييف مع الحزب الحاكم أحزاب أخرى معارضة شرعية ومحظورة، بل شارك الناخبون أنفسهم فى عملية التزوير وخداع أنفسهم بأنفسهم.
سألت منى: كيف يشترك الناخبون فى خداع أنفسهم؟
قالت نوال: يبيعون أصواتهم بالفلوس لمرشحى الحكومة أو المعارضة؟
قالت منى: الناس فى العالم كله تعمل من أجل الفلوس؟ كيف يعيشون ويطعمون أطفالهم؟ أليست المصالح هى الأساس؟ والبراجماتية النفعية هى فلسفة العصر الحديث؟ ألم يهلك فى سجون الرأسمالية والاشتراكية الثائرون والثائرات من أجل الصدق والعدل؟
قالت نوال: لكن نحن مدينون لهذه القلة النزيهة بما نتمتع به من حرية وإن كانت ضئيلة، نعم ليس هناك انتخابات نزيهة فى أى بلد رأسمالى أو اشتراكى إن كان هناك شىء اسمه بلد اشتراكى، زرت بلاد الغرب والشرق ولم أشهد هذه الانتخابات الديمقراطية إن كان هناك شىء اسمه ديمقراطية.
قالت منى: نجح أوباما وأصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية رغم أنه أسود من أفريقيا وأبوه مسلم اسمه حسين ؟
قالت نوال: المصالح الاقتصادية تلعب دورا أكبر من اللون أو الدين أو الجنس أو القبيلة أو العائلة، قد يقتل الأخ أخاه أو الابن أباه فى حلبة الانتخابات كما يحدث عندنا، شهدت بنفسى الدعاية الانتخابية لباراك أوباما فى مدينة أطلانطا لمدة عامين، كانت قوة الإعلام وأموال وولت ستريت والشركات الرأسمالية هى العامل الأساسى فى نجاح أوباما، لكن التزييف عندهم أصبح شديد الإتقان يعتمد على تكنولوجيا علمية، تطورت مع أسلحتهم الحربية والإعلامية.
سألت منى: كيف تنخدع الشعوب المتقدمة؟
قالت نوال: الشعوب هى الشعوب تقع ضحية التعليم والإعلام الزائف، تصدق الجماهير الوعود الكاذبة التى تبدو من شدة الإتقان صادقة، ولا تجد الشعوب بديلا آخر أمامها، بعد أن تلاشت الفروق بين أحزاب اليسار واليمين والحكومة والمعارضة، لم يعد الشعب الإنجليزى يرى فرقا بين تاتشر وبلير وكاميرون، كلهم كذبوا وتسببوا فى تزايد الأزمة الاقتصادية والحروب والبطالة والفقر وتلوث البيئة، فى أمريكا لم يختلف أوباما كثيرا عن سابقيه، بعض الناس تصوروا أن أوباما سوف ينقذ بلادنا والعالم، إلا أن النتيجة هى العكس، مزيد من الأزمة الاقتصادية، مزيد من الحروب، مزيد من البطش الإسرائيلى بحقوق الشعب الفلسطينى والاستيلاء على المزيد من أرضه.
قالت منى: لا تتعلم الشعوب من دروس الماضى، يلعب التعليم والإعلام معا دورا فى تزييف الوعى الشعبى، بل فى تزييف وعى النخب السياسية والثقافية، فى بلادنا مثلا كانت جميع الأحزاب تعلم بوضوح أن الانتخابات لن تكون سليمة لكنهم شاركوا فيها، ألا يخالفون ضميرهم بالمشاركة فى عمل لا يوافقون عليه؟
قالت نوال: كان الأفضل لهم ألا يشاركوا منذ البداية فى عمل يخالف ضمائرهم، لكن المصالح تغلبت على الصدق والمبادئ، ثم بعد أن خسرت أحزاب المعارضة ولم تنل إلا الفتات، صرخوا قائلين: هذه الانتخابات هى العار! وانسحبت بعضها بعد أن وعت الدرس متأخرا جداً، بعض الأحزاب الأخرى لم تنسحب، وشاركوا فى الجولة الثانية، ثم حصلوا على فتات الفتات فراحوا يصرخون: هذه الانتخابات فضيحة !
سألت منى: كيف يشاركون فى العار ثم يلعنونه؟ كيف يبررون موقفهم المتناقض؟
قالت نوال: يقولون إن عدم المشاركة تعزلهم عن قواعدهم الشعبية لأن الانتخابات هى الفرصة الوحيدة أمامهم للنزول إلى الشعب، حجة أقبح من الذنب!!
سألت منى: لماذا لا ينزلون إلى قواعدهم طوال شهور السنة؟ الجماعة التى يسمونها محظورة نزلت إلى الناس فى القرى والمدن، وأصبح لها قواعد شعبية رغم أنها محظورة قانونا، فما بال حزب شرعى يمتلك الحق القانونى للنزول إلى قواعده فى القرى والمدن والأقاليم؟ ألا يرون أبعد من مصالحهم الآنية الصغيرة مثل مقعد أو اثنين فى البرلمان؟ هل يختلفون عن ناخب من الشعب يبيع صوته بخمسين جنيها ليشترى لحمة العيد؟
قالت نوال: أحزاب المعارضة نشأت بقرار حكومى دون قواعد شعبية، والنخب السياسية هى جزء من الشعب، صحيح النخب متعلمة أكثر ولديها مال وجاه، لكنها جزء من البيئة السياسية الثقافية الأخلاقية التى يتربى فيها الحكام والمحكومون، المرشحون والناخبون، هذه البيئة تنتج قيما مزدوجة متناقضة، تؤدى إلى ضعف الضمير.
قالت منى: قوة الحزب تنبع من قوة ضميره، يكسب الحزب ثقة قواعده الشعبية إن تمسك بالصدق، إنهم قوته الوحيدة وليس السلطة الحاكمة، مثل إنسان لا يبيع ضميره من أجل مصالحه الآنية، تنبع قوته من ثقة قرائه وقارئاته إذا كان كاتبا أو كاتبة، فالحرية والصدق أهم للإنسان من الراحة والأمان، لكن البيئة التى نعيش فيها لا تنتج نساء أو رجالا يتمسكون بالصدق والحرية سواء فى حياتهم السياسية أو حياتهم الزوجية، يدوس كل منهم على الآخر ليصعد فوقه، هذه البيئة تنتج الأحزاب الضعيفة والشخصيات الكاذبة المزدوجة وإن كانوا زعماء وزعيمات!!
قالت نوال: لهذا انقلبت القواعد الشعبية على قياداتها فى الأحزاب حكومة ومعارضة يسار ويمين، هذا الهواء الملوث نتنفسه، والماء الملوث نشربه، والكتب والصحف الملوثة نقرأها، القيم الأخلاقية المزدوجة نتربى عليها وهى التى تقتل الضمير، إذا كذب الأب على أولاده، وكذب الزوج على زوجته، وكذب الحزب على أعضائه، وكذبت الدول الكبرى على الدول الصغرى، فهل تفاجئنا فضائح ويكيليكس أو الانتخابات؟
سألت منى: ألا يكون السقوط أحيانا أكثر كرامة وشرفا من النجاح؟ من يحصل على مقعد بالكذب والقوة كيف يجلس عليه برأس مرفوع؟ كيف يدافع عن حقوق المظلومين وهو يظلم غيره؟ كيف يشعر بعزة النفس؟ هذه النباتات الجميلة مثل عزة النفس والكرامة والضمير، هل انقرضت كالديناصورات؟
قالت نوال: أبداً لم تنقرض، ألم تسمعى ما قاله الشباب والشابات فى اجتماعنا الماضى «نفكر فى طرق أخرى جديدة لتحقيق الديمقراطية أفضل من الانتخابات، هذا الأمل هو القوة
بقلم: نوال السعداوى- المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment