Thursday, December 16, 2010

لماذا لا يتحرك المصريون؟ (٤

زراعة الخوف كانت الزراعة الأكثر رواجاً فى مصر ما بعد الثورة. فعلى مدار العقود الماضية انتعشت هذه الزارعة كما لم ينتعش غيرها، وأفلحت الحكومة فى غرس الرعب من السلطة ورموزها فى نفوس المصريين، وجعلت إحساس المواطن بها عميقاً أشد العمق، ودعمت ثقته فى قدرتها على البطش به وسحقه تحت حذائها إذا اعترض عليها أو عارضها أو اتخذ فى الحياة مساراً يختلف عن مساراتها. وقد ورثت ثورة يوليو هذا الخوف الساكن فى نفوس المصريين من السلطة عن العهود التى سبقتها.

وليس على اللسان المصرى أغنية أخلد من أغنية سيد درويش «يا عزيز عينى بدى أروح بلدى.. بلدى يا بلدى والسلطة خدت ولدى». والأغنية تشير إلى السلطة التى كانت تنتزع الشباب من المدن والقرى والنجوع لتستخدمهم فى حفر القناة وتقذف بهم فى الحروب يميناً ويساراً لتحقيق مصالح معينة للحكام.

وعندما قامت الثورة رفع عبدالناصر شعار «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد» فى إشارة إلى التخلص من ثقافة العهد البائد الذى دأب على زرع الخوف من السلطة فى أبناء المحروسة، لكن المسألة لم تتعد الشعار! فقد كان عبدالناصر شديد الحسم فى التعامل مع معارضيه، واعتمد على سياسة ممنهجة فى معاقبة كل من يختلف معه، حتى يتعلم الآخرون حكمة حبس الكلمات فى الحلوق لأن «الحيطان لها ودان»، وكتب التاريخ تحكى لنا العديد من القصص عما حدث فى سجون ومعتقلات الستينيات مع معارضى النظام من كل الأطياف، ورغم انحياز عبدالناصر لفكرة حماية كرامة الفقراء من أبناء الشعب، فإنه لم يتردد فى إهدار كرامة من يختلف معه، الأمر الذى دفع معارضيه إلى إيثار السلامة.

وورث الرئيس السادات تركة الخوف القابع فى نفس المواطن عن جمال عبدالناصر، لكن السادات كانت له فلسفته الخاصة فى إدارة شعبه، فقد خرج على الناس معلناً هدم المعتقلات وحرق أشرطة التجسس على المواطنين فى مشهد سينمائى مثير ليبشر بعصر جديد تسوده الحرية، وكمحاولة لإدانة العصر السابق سمح السادات بإنتاج العديد من الأفلام السينمائية التى تكشف التعذيب وإهدار حقوق الإنسان المصرى «المعارض» فى الستينيات، مثل فيلم الكرنك وإحنا بتوع الأتوبيس ووراء الشمس وغيرها، وفى الوقت الذى كان السادات يستهدف فيه فضح ممارسات الستينيات كان يسعى إلى تحقيق هدف آخر يتمثل فى تأكيد حالة الخوف فى نفوس المواطنين.

فها هو المواطن الذى كان يسمع معلومات متناثرة حول ما يقع فى السجون والمعتقلات يتابع المشهد كاملاً وبصورة سينمائية مؤثرة وقادرة على تأكيد الخوف فى وجدانه أكثر وأكثر. فالمشاهد كان يسأل نفسه بعد كل فيلم: هل انتهى عصر المعتقلات بالفعل أم أن المسألة مستمرة حتى الآن؟ وقد كان يميل باستمرار إلى اختيار الإجابة الثانية، وقد أكدت أحداث سبتمبر عام ١٩٨١ صدق حدسه.

ولم يبرأ العصر الحالى من ممارسة اللعبة نفسها مع الشعب، وليس أدل على ذلك من تلك التسريبات التى تخرج من حين إلى آخر للقطات مصورة تفضح الطريقة التى تتعامل بها الشرطة مع المواطنين داخل أقسام الشرطة، بداية من الضرب والإهانة وانتهاء بـ«القتل» كما يزعم البعض. وبعد أن يتشبع المواطن بالمعلومات التى تكيلها وسائل الإعلام حول هذه الممارسات فإنه يسأل نفسه: إذا كان الوضع كذلك فى أقسام الشرطة وفى مواجهة بعض الاحتجاجات فى الشارع فماذا يحدث داخل المعتقلات التى ترفض الداخلية الإفصاح عن عدد من يزدحمون فيها (فى بلد محكوم بالطوارئ)؟!.

فالمسؤولون لدينا لا يكلون عن الحديث عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ليل نهار، ورغم ذلك فإن إيمان هذا الشعب بأن ما يقال مجرد كلام فى كلام هو إيمان لا يهتز!.الخوف إذن سر جديد من أسرار اختفاء المصريين، وهو أكبر علة تدفع بهم إلى القعود وعدم الحركة، كما أنه عنصر أساسى من عناصر اطمئنان السلطة إلى استمرارها فى مواضعها، انطلاقاً من النظر إلى المصريين على أنهم شعب «عصاية تجرَّيهم»!.

وقد ترتب على ذلك عدة نتائج، أبرزها بالطبع أن الخوف ساق المصريين إلى التنازل عن حقوقهم والرضاء بمسلسلات إهدار كرامتهم، ورضوا بفكرة العيش بلا حقوق وبلا كرامة، وبالتالى أصبحت الحكومة تذهب بهم كل مذهب وتفعل فيهم ما تشاء إيماناً منها بأنها سوف تجد الشعب دائماً فى الموضع الذى تركته فيه، حتى ولو مرت عشرات السنين!. فالناس فى نظر الحكومة هواء تتنفسه دون أن تشعر به، لذلك نجدها –أى الحكومة- تندفع إلى فعل ما تريد دون أن تكترث بردود أفعال الناس. وليس أدل على ذلك من الطريقة التى أديرت بها انتخابات مجلس الشعب، وقد خرج أحد الوزراء الفائزين فيها وهو الدكتور يوسف بطرس غالى، وزير المالية، مهدداً بزيادة الضريبة العقارية عندما سئل عن مسألة إعادة النظر فيها!

كيف لا يفعل الرجل ذلك وقــد رأى بعينيه تزاحم المواطنين على منافذ توزيع الإقرارات الخاصة بهم إلى حد توزيعها فى السوق السوداء بأسعار مغالى فيها؟! هل هناك ألطف من أن تتزاحم الضحية على محال بيع «الكرابيج» بل وتشتريها من السوق السوداء لتعطيها راضية للسلطة لكى تلهب بها ظهورها؟! لذلك فمن المتوقع أن تشهد الأيام القادمة جنوحاً أكبر من جانب الحكومة نحو تعذيب الناس بسياسات تقشف ورفع للأسعار، وإهمال أكبر فى التعليم والصحة، وتكميم أشد للأفواه. وقد يترتب على هذه السياسات خروج الناس من دائرة الخوف إلى دائرة اليأس.

وعند هذه اللحظة سوف تختلف أمور كثيرة فى هذا البلد، وبذا فإننا يمكن أن نراهن –ونحن مطمئنون تماماً- على الحكومة، وليس على الشعب، عند الحديث عن التغيير فى مصر، لأنها الضمانة الكبرى لحلحلة و«لحلحة» الشعب المصرى. فالمواطن لن يتحرك بتحريض من المعارضة أو بإيعاز من الإخوان، بل بفعل التعذيب الذى تمارسه الحكومة عليه والذى سوف يحرره من الخوف ليلقى به فى أحضان اليأس.. وإذا كان الخائف عاجزاً فاليائس غادر!

بقلم :د.محمود خليل
المصرى اليوم

No comments: