كانت البلاد قد شهدت تطورات سياسية منذ عام ١٩٢٤ تخللتها انقلابات دستورية، ولعبت هذه التطورات دوراً مهماً فى الوصول بالبلاد إلى هذه الانتفاضة، وكان مسلك وزارة محمد توفيق نسيم والقصر والإنجليز، متمماً لوضع البلاد على طريقها، وفى ٢٢ أكتوبر ١٩٣٠ كانت أصعب خطوة من قبل السراى والوزارة،
عندما صدر الأمر الملكى بوقف العمل بدستور ١٩٢٣ وحل البرلمان بمجلسيه وإعلان دستور ١٩٣٠، واستمر العمل بدستور ٣٠ خلال عهد إسماعيل صدقى، حتى استقالته فى سبتمبر ١٩٣٣، وفى نفس يوم استقالته تشكلت وزارة عبدالفتاح يحيى، ثم خلفتها فى ١٤ نوفمبر ١٩٣٤ وزارة محمد توفيق نسيم، التى استصدرت أمراً ملكياً بإبطال العمل بدستور ١٩٣٠، إلى أن يوضع نظام دستورى جديد يحل محل دستورى ١٩٢٣ و١٩٣٠، وبذلك فإن الوزارة رغم إقدامها على إبطال العمل بدستور ٣٠، إلا أنها لم تعد العمل بدستور ٢٣، وهو الأمل الذى كانت تنتظره الجماهير.
ولم يقف أمر توفيق نسيم عند حد المماطلة هو والملك فى إعادة الدستور، بل قام باستشارة المندوب السامى، حول هذه المسألة. وفى ٩ نوفمبر وفى أثناء الاجتماع السنوى الذى يقيمه محافظ لندن فى قاعة (الجلد هول) بلندن، قال السير صمويل هور، وزير الخارجية البريطانى، كانت نصحيتنا ضد إعادة دستورى ٢٣ و٣٠ لأن الأول ظهر أنه غير صالح للعمل به، ولأن الثانى ضد رغبة الأمة بالإجماع، وكشف هذا التصريح عن أن الحكومة المصرية استشارت إنجلترا، وأن بريطانيا طلبت عدم عودة الدستوريين وهو ما يشكل تدخلاً فى شؤون البلاد.
والتهبت المشاعر بسبب هذا التصريح وزاد من لهيب المشاعر حلول ذكرى عيد الجهاد الوطنى فى ١٣ نوفمبر، حيث تحول الاحتفال بهذا العيد إلى مظاهرات تندد بتصريح «هور» وتنادى بسقوط الحكومة، وفى صباح ذلك اليوم خرج طلاب الجامعة وانضم إليهم طلاب المدارس فى مظاهرة هاتفين ضد «تصريح هور» وإنجلترا ومنادين بسقوط الحكومة.
وحدث صدام بين البوليس والطلاب عندما حاولوا اجتياز كوبرى عباس إلى قلب القاهرة إذ أطلق البوليس النار على الذين نجحوا فى عبور الكوبرى، منطلقين إلى بيت الأمة وميدان عابدين ومناطق القاهرة الأخرى، وفى مساء اليوم نفسه عندما احتفل الوفد بهذه المناسبة، ألقى مصطفى النحاس خطاباً هاجم فيه الوزارة، وقال إن الواجب الوطنى يحتم عليها أن تستقيل، نزولاً على خطة عدم التعاون مع الإنجليز التى دعا الوفد الأمة إليها،
وبعد انتهاء الحفل حدث اعتداء من البوليس وسقط جراءه أحد الشهداء، وكان من الطبيعى أن تشتد المظاهرات فى اليوم التالى، فخرج طلبة الجامعة فى مظاهرة كبيرة وشارك معهم طلاب مدرستى التجارة المتوسطة بالجيزة والسعيدية، واجتاز المتظاهرون كوبرى عباس وبعد اجتيازه حدث صدام بينهم وبين قوة من «كونستبلات الإنجليز» سقط على إثره عدد من الجرحى منهم محمد عبدالمجيد مرسى، الطالب بكلية الزراعة، الذى توفى فى اليوم نفسه متأثراً بجراحه، ولحق به طالب الآداب محمد عبدالحكيم الجراحى، وأصدر أحمد لطفى السيد، مدير الجامعة، قراراً بإغلاقها.
وفى ١٦ نوفمبر انضمت مدرسة دار العلوم إلى المظاهرات، ومن مبناها بحى المنيرة انطلق طلابها وحدث صدام بينهم وبين البوليس واستشهد متأثراً بجراحه فى ١٧ نوفمبر الطالب على طه عفيفى، الذى شيعت جنازته وسط مظاهرة كبيرة فى اليوم نفسه، وتستمر المظاهرات بالقاهرة والجيزة وتصدر حكومة نسيم بياناً رسمياً جاء فيه: «تلفت الحكومة نظر الجمهور إلى أن المظاهرات بجميع أشكالها ممنوعة، وأن البوليس سيعمل على تفريق كل مظاهرة وكل اجتماع غير مصرح بإقامته»، وبالرغم من ذلك انتشرت المظاهرات فى اليوم التالى، وكانت الخطوة الكبيرة عندما أُعلن فى الصحف أن الطوائف المختلفة فى البلاد، أعلنت يوم ٢١ نوفمبر يوماً للإضراب العام.
وشاركت الأحزاب من خلال نداءاتها وبلاغاتها فى الهجوم على الوزارة وإدانتها والمطالبة بعودة الدستور، وفى ٢٧ نوفمبر عقد الطلبة مؤتمرهم العام بأحد مدرجات كلية الطب وتليت قرارات المؤتمر، التى دعت لمقاطعة البضائع الإنجليزية وترجمة الاحتجاجات التى أصدرتها الهيئات، إلى اللغات الأجنبية وتوزيعها على المفوضيات الأجنبية وإرسالها إلى الصحف الإنجليزية، وبسبب هذا المؤتمر وقراراته أصدر مدير الجامعة قراره الثالث بإغلاق الجامعة حتى الجمعة ٦ ديسمبر، وفى ٧ ديسمبر أقيم النصب التذكارى لشهداء الجامعة، وكان من نتائج العنف حينها أن يلقى صمويل هور خطاباً فى البرلمان الإنجليزى يخفف فيه من تصريحه السابق،
وبالرغم من ذلك استمرت المظاهرات واتسع نطاقها وهو ما كان كافياً ليقنع الأحزاب بأن تتناسى صراعاتها وأن تأتلف فيما سُمى فى تاريخ هذه المرحلة بـ«الجبهة الوطنية» التى تكونت فى ١١ ديسمبر، وفى اليوم التالى أرسلت الجبهة كتابها إلى الملك مطالبة إياه بإعادة دستور ٢٣، كما أرسلت فى اليوم نفسه رسالة إلى المندوب السامى، طالبته بأن يبلغ حكومته بأن تصرح بقبول إبرام معاهدة بينها وبين حكومة مصر الدستورية، واستجاب الملك لطلب الجبهة الوطنية وأصدر فى ١٢ ديسمبر أمراً ملكياً بإعادة دستور ٢٣، وهو ما كان تتويجاً وثمرة للنضال الشعبى، ومع استمرار الضغط الشعبى أُجبرت وزارة توفيق نسيم باشا على الاستقالة.
كريمة حسن - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment