أشغلتنا المدنية كثيراً، فما عدنا نرى دواخلنا. صار تركيزنا على تفاصيل القلق اليومى يشغلنا عن الانخراط بكشفنا وإيجاد تفسير واضح لذواتنا.
نحن لا نصمت. نتحدث كثيراً. لا نصدر أصواتاً بل ضجيجاً. كيف نخلق الصوت إن لم نمارس طقس الصمت؟
حياتنا صاخبة. الناس فى كل مكان، محشورون فى كل زوايا أمورك. تبتعد عنهم قليلاً فينعتونك بالمنعزل والمنطوى. لكنى أرى بفعل الانطواء والانعزال لفترات مختلفة وسيلة مربحة لتحقيق الكمال الروحى والإنصات للصوت الداخلى بوضوح ودون الحاجة لمكبرات، وسيلة فعالة للتعرف على الوحش الساكن فينا كى لا نقترف الجريمة.
فوائد الانعزال كبيرة. العزلة تحميك من الاستسلام لأنها تعيدك لخلقتك الأولى ولصفاء عقلك البدائى الطيب الشرير المهووس الثائر. بعد وقت منعزل ستدفعك عذريتك الجديدة للتفكير بالآخرين بطيبة وعطاء، وقد تتمنى الخير للمنافسين. ستكتشف أن جمال الشر يمنعك من الاستسلام لأذية البشر.
اهرب واعتزل. اهرب من استبدادية العلاقات اليومية العادية. لكن لا تنعزل وتسكن، بل ابحث وانبش. اعتزل حتى تدخل فى حالة تنفصل بها روحك عن جسدك، فتصبح غريباً عن نفسك، وتبدأ التفكير بملذات لم تسمع بها من قبل، وتتمنى أمنيات حالمة لم تحلم بها من قبل، حالة مسكرة تخرجك من الوجود وتعلقك بالغيوم. ترفعك عن الأرض بسلالم روحانية فضفاضة آمنة.
أن تعيد ما بدأه الغير أو تكمله أمر سهل يمكنك الوصول إليه وأنت منخرط فى حياتك اليومية، باستطاعتك وأنت تفكر بشؤونك المهنية والعائلية أن تبتكر فى الوقت ذاته أشياء بدهية جديدة، يمتدحك عليها الآخرون وتنال بها رضا الرؤساء..
لكن أن تخلق وتكون الإله الوحيد لأفكارك أو صناعتك، يعنى أن تترك عجلتك اليومية تتوقف، تركنها جانباً على الأسفلت الصناعى وتدخل الغابة سيراً على قدميك الحافيتين، دع أطرافك تشعر بملمس الأرض من تحتك، دعها تندمج مع أصلك الترابى فى مشيتك البدائية.. هنا تتولى الطبيعة أمر تعميدك، هنا يتولى الصمت ركود ضجيجك، وتتفرغ خلاياك لخلقك الجديد. اللاوعى سيكون هو الخالق.
سيمدك الله بأسراره كما مد أنبياءه الذين تميزوا بعزلتهم واعتكافهم فترات طويلة وحيدين مع شهواتهم المعرفية لكشف الكون.
سيقولون إنها نزعة للتصوف، وسيقول المدافعون عن عفة وحشمة عقل الإنسان إن فى التصوف كفراً، ويصنفون الدخول والخروج من وإلى اللامحسوس تحت خانة البدع والضلال. لعله كفر بتقاليد المدنية، لكنه إيمان أصلى بالروح.. روح الله، الإنسان، التراب، روح السماء. هو إحساس بلذة الوجود، بلذة إنكار كل شىء. محو كل شىء والبدء من جديد. انحراف عن المسلمات.
استمتاع بتلقى المعلومات من العالم الذى يسكن بيننا وتمنعنا التقاليد من رؤيته. تحرير للنفس المعذبة من شجونها الساذجة ونقلها للكمال الروحى، لمرحلة راقية من السعادة.
بالطبع، الكلام السابق ليس حديثاً، فعديدة هى الأديان التى يمارس أناسها طقس العزلة والتأمل، وكثيرون يرون فيه قدرة على حياكة الإبداع، لكنى أكتبه لأن منطقتنا تعانى ضعف الإبداع وتعانى انصراف أفرادها عن التفكير المنحرف.
أحد أسباب خللنا أننا لا نخلد للسكون ولا نكترث لصوتنا الإلهى.. منشغلون فى اللقاءات والتظاهرات والدعوات والندوات والوظائف والأهل والجيران والتعليم والكلام الكثير.
نمارس كل الأشياء التى يمكنها أن تصرفنا عن الإبداع. نتعذر بالمسؤولين وبعقد الطفولة وبالأوضاع الاقتصادية وبانعدام جو الحرية.. كله صحيح، لكنه غير مقبول. تذكروا أن كل العظماء والمبدعين عبر التاريخ عانوا مرارات حزينة ولم تكن أيامهم حنونة، بل قاسية.
كانت تجلدهم كل يوم، وحين يقرأهم الذين تجرفهم العذابات سيعلمون أن هناك حياة أخرى تنتظرهم لكنهم يغضون الطرف عنها منغمسين بعلاقاتهم اليومية.
تناسَ الهموم واعتزل. لا تقتل إبداعك بكثرة الصعود للمسرح لإلقاء الكلمات. ابتعد عن مسرح الكلام وعن الاجتماعات كى تأتى بالجديد ولا تتحول إلى فرد فارغ وممل ينهج نهج الكثير من العرب الدخلاء على الإبداع.
يجتمع المبدعون العرب، الذين لم يبدعوا شيئاً أبداً، كل عام عدة مرات لمناقشة العقل العربى. يتسابقون على الصعود للمسرح لحل أزمات الإنسان العربى ومصائبه التى لا تنتهى. يتساءلون بفوقية غبية عن أحوال البقية، ولا يملون تكرار سؤال سقيم واحد: لماذا ابتعد العرب عن الإبداع؟
No comments:
Post a Comment