Sunday, December 19, 2010

د.حازم الببلاوى يكتب: عن الثعلب والقنفذ «٢-٢»

فى الجزء الأول من هذا المقال طرحنا تساؤلات جوهرية عديدة تحتاج إلى إجابات. من بين هذه التساؤلات: كيف يمكن للأقلية الأكثر انغلاقاً أن تفرض نفسها على الأغلبية الأكثر تفتحاً واعتدالاً؟

ولماذا يتغلب أصحاب الفكرة الوحيدة على أصحاب الفكر المتعدد؟ ولماذا يتغلب التصعب على الاعتدال فى كثير من الأحوال؟

يبدو لى أن السبب لا يرجع إلى كثرة فى العدد هنا وقلتها هناك، وإنما الفارق يعود إلى درجة التصميم والإرادة. فالمتعصب- وهو لا يرى إلا حقيقة واحدة مطلقة- على استعداد للدفاع عنها حتى الموت، فلا شىء آخر يهم لديه، فهذه هى حقيقته الوحيدة والمطلقة.

فإذا لم يكن لديه شىء آخر يعتز به، فبالتالى فإنه يناضل حتى الموت من أجل حقيقته الوحيدة، وهو فضلاً عن ذلك يشعر بالاطمئنان ولا قلق لديه، لأنه يسعى إلى الحقيقة المطلقة. وليس الأمر كذلك مع المعتدل.

فهو لا يرى حقيقة واحدة وإنما حقائق كثيرة متعددة، وكل منها تنطوى على درجة عالية من الصواب، وإن كانت تتحمل أيضاً إمكانية الخطأ. فالمعتدل أكثر حكمة ورؤية، ولكنه بالمقابل أكثر تواضعاً، وبالتالى فهو أكثر حرصاً وتردداً، ومن ثم فإنه يبدو أقل تصميماً وإرادة على الكفاح والتضحية بالغالى والرخيص، فلديه أشياء أخرى غالية عليه أيضاً، وهكذا فالمتعصب واثق لا شك عنده،

أما المعتدل فهو متردد وقلق، ولعل ما نُسب إلى الشيخ الغزالى كان فيه محقاً، حين قال «حاججت مائة عالم فغلبتهم، وحاججنى جاهل فغلبنى»، فليس أشد صلابة من الجاهل الذى لا يأتيه الحق من أى جانب، فهو مصمط غير قابل للنفاذ، فالعالم يشقى بعلمه، فى حين أن الجاهل يسعد بجهالته، وهكذا تصبح عوامل التميز فى العلم والمعرفة واتساع الأفق وتعدد الاهتمامات ورحابة الخيال أسباباً للضعف فى قوة الإرادة وصلابة التصميم، كذلك لا يعرف المتعصب أى رحمة فى جدله أو خلافاته، ولا يرى بأساً من استخدام كل الوسائل ضد مخالفيه، لأنه وحده يتمتع بالحقيقة المطلقة،

وقد ساعدت هذه الميزة النسبية التى يتمتع بها المتعصبون- وبشكل عام أصحاب الهدف الوحيد- على تحقيق الغلبة والفوز فى كثير من المعارك السياسية تجاه الغالبية من المعتدلين. فهؤلاء الآخرون معتدلون أيضاً فى عداواتهم، ويتسع صدرهم لمعارضيهم على نحو لا يعرفه المتعصبون والمتطرفون.

ونلاحظ أن التعصب السياسى الذى يشعل الرغبة فى الاستئثار بالسلطة قد لا يرجع دائماً لفكرة أو مبدأ أو مثل أعلى، ولكنه كثيراً ما يكون حباً مجرداً فى السلطة فى ذاتها، خاصة إذا سبق أن تذوقها أو اقترب منها. فهنا نجد أننا بصدد حالة حب للسلطة فى ذاتها ولذاتها. وهو حب وحيد يطغى على كل ما سواه.

فالسلطة هنا تطلب لذاتها، وليس باعتبارها وسيلة لغاية. فللحكم جاذبية خاصة وكثيرون يقعون فى غرامها، حيث تصبح حبهم الوحيد. فالتعصب هنا لم يعد تصعباً لمبدأ أو عقيدة وإنما لشىء محدد هو السلطة فى ذاتها، وحيث لا طعم للحياة خارج السلطة. فالسلطة، هى الإله الجديد الذى يبذل من أجله الغالى والرخيص. وهنا يصبح الإصرار على الاحتفاظ أو الوصول إلى السلطة قضية حياة أو موت.

وإذا نظرنا إلى التاريخ السياسى لمختلف الجماعات فإننا نجد أمثلة عديدة كان النجاح فيها من نصيب الطرف الأكثر تعصباً، وبالتالى تصميماً وإرادة للوصول إلى الحكم، بعكس الأطراف الأخرى الأكثر اتساعاً فى الأفق ورحابة الصدر. فالمتعصب لا يتورع عن استخدام جميع الأساليب، لتحقيق هدفه الأسمى والوحيد، فى حين أن المعتدل يترفع كثيراً عن الالتجاء إلى أساليب يرى فيها مساساً بقيم أخرى لا تقل عنده أهمية.

فانظر مثلاً إلى تاريخنا الإسلامى، وما عُرف بالفتنة الكبرى فى صراع على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، ومعاوية بن أبى سفيان، فقد كان صراعاً بين الثعلب والقنفذ، وليس معنى ذلك أن معاوية لم يكن بدوره داهية، ولكنه فى هذا الصراع لم يكن لديه ما يحرص عليه سوى الوصول إلى الحكم.

أما على، كرم الله وجهه، فقد كان يرغب هو الآخر فى البقاء فى الحكم، ولكنه كان مقيداً بقيم أخلاقية أخرى. فهو ابن عم الرسول، عليه الصلاة والسلام، وزوج ابنته، وله مكانته فى الإسلام، وبالتالى فإنه كان يترفع عن الصغائر، ولا يقبل المساس بقيم سامية أخرى كان يعتقد أنها أكثر أهمية.

وعندما دارت المعركة وتبين أن الكفة بدأت تميل لصالح جيشه، فما كان من معاوية وأنصاره إلا رفع المصاحف على السيوف، فتردد «على» وأوقف القتال وتخلى عن نصر أكيد، لأنه لم يقبل أن يكون انتصاره مصاحباً للمساس بكرامة المصحف الشريف. وعندما اتفق الطرفان على التحكيم، فقد اختار معاوية ممثلاً له عمرو بن العاص، وهو داهية هو الآخر، يحب من أمور الدنيا بقدر ما يسعى للآخرة، وعقد مع معاوية صفقة لاستمراره فى ولاية مصر.

أما «على» فقد اختار أحد الرجال المحترمين «أبوموسى الأشعرى»، ولم يكن له حب خاص لـ«على»، وإن كان رجل عدل وإنصاف، ولذلك لم يكن غريباً أن يقع أبوموسى فى شراك مكيدة بن العاص. وتوالت الأحداث وقتل على، ونجح معاوية لأنه كان أكثر تصميماً على الوصول للخلافة، ولم يدخر وسعاً فى استخدام جميع الأساليب من ترغيب أو ترهيب.

ومع معاوية انتهت الخلافة- كما بدأت بعد وفاة الرسول- وتحولت إلى ملك، رغم احتفاظها شكلياً بأخذ البيعة لولى العهد فى حضرة الخليفة ومن ورائه حرسه وسيّافه، فالخلافة استمرت شكلاً بالبيعة، وإن تحولت فى الحقيقة إلى ملك، كملك فارس والروم، حيث يورث الحكم بالبيعة الشكلية أو التوريث الشرعى، وهكذا استمر القنفذ وأحفاده من الأمويين فى حكم الدولة الإسلامية لما يقرب من قرن من الزمان، وبعدها قفز إلى سدة الحكم قنافذ آخرون، باسم «أهل البيت»، لما يقرب من أربعة قرون لاحقة، وضاع فى النسيان مبدأ الشورى الذى دعا إليه الإسلام.. «وأمرهم شورى بينهم» صدق الله العظيم.

وفى التاريخ الحديث هناك أمثلة متعددة لصراعات على السلطة كان الفوز فيها للقنفذ بتصميمه والإصرار على هدفه الوحيد فى الوصول إلى السلطة.

فبعد وفاة لينين، فى الاتحاد السوفيتى، كان تروتسكى أكثر الورثة ذكاء واطلاعاً، وكان دوره فى نجاح الثورة أكثر وضوحاً من غيره، حيث قاد الجيش الأحمر بعد أن أشرف على تكوينه، وقضى على مقاومة بقايا أنصار القيصرية وحلفائهم من الجيوش الأجنبية.

وفضلاً عن ذلك فقد كان تروتسكى صاحب فكرة ونظرة شاملة. أما القنفذ- ستالين- فقد ظل قابعاً فى سكرتارية الحرب ومسيطراً على البوليس السرى وزارعاً لأنصاره فى مختلف المواقع المؤثرة.

وقد هدد أرملة لينين بألا تعلن رأى زوجها- لينين- فيه (ستالين) والتحذير من خطورته.

كذلك تحالف ستالين مع الباقين من اليمين واليسار، ثم تخلص منهم واحداً بعد الآخر، ونُفى تروتسكى إلى المكسيك، حيث قتله أحد عملاء موسكو، وظل ستالين فى الحكم لما يقرب من ثلاثين عاماً. وفى هذين المثالين نجد أن الوصول لدفة الحكم كان من نصيب الأكثر تصميماً والأضيق أفقاً، وكان الخاسر هو الأفضل علماً وثقافة بل الأكثر شرعية.

وفى مثل هذه الأحوال نجد أن الصراع السياسى كثيراً ما يؤدى إلى انتصار «القنفذ» الأكثر تصميماً والأضيق أفقاً وذلك على حساب «الثعالب» الأوسع رؤية والأرحب فكراً.

فالأول يدخل معركة حياة أو موت ولا بديل له عن الفوز، تصبح بالتالى جميع الأساليب مقبولة عنده، فالغاية تبرر الوسيلة. فلا بأس من التزوير إن احتاج الأمر، أو الرشوة إذا ساعدت قليلاً، ولا مانع من الوعود الكاذبة إذا حكمت الظروف. فهذا «القنفذ السياسى» لا حياة ولا مستقبل له بعيداً عن سدة الحكم، وبالتالى فكل شىء مباح.

أما الأطراف الأخرى من «ثعالب» السياسة فإنها، وإن سعت هى الأخرى للوصول إلى الحكم، تعتقد أن الحياة أرحب وأوسع من مجرد هدف وحيد، ولذلك فهى تتحرج من استخدام جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لأنها تعتقد أن هناك أموراً أخرى فى الحياة لها قيمة. «القنفذ» سيدافع عن موقعه حتى الموت، فليس له مكان آخر. فهل تتوقعون الكثير مع هذا القنفذ؟ أشك فى ذلك كثيراً. والله أعلم.

Almasry Alyoum

www.hazembeblawi.com


No comments: