Friday, September 10, 2010

ليتهـــــــــا كانـــــــت عِزبــــــــة

لم يسترح بعض القراء لتكرار تشبيه إدارة الدولة فى مصر بما يحدث للعزبة. وكنت أحد الذين استخدموا ذلك التشبيه فى نقدى لفكرة التوريث، حين قلت إنها إذا جازت فى حالة العزبة فلا ينبغى أن تجوز فى حالة أى دولة، خصوصا دولة كبيرة مثل مصر. وفعلها زميلنا الأستاذ حمدى قنديل، الذى كان عنوان مقالته التى نشرتها «الشروق» يوم الاثنين الماضى 6/9، دولة هذه أم عزبة؟.. (للعلم: العزبة فى أصلها اللغوى هى المكان البعيد عن العمران).


الذين لم يرق لهم التشبيه قالوا إنه لا اعتراض على الدفاع عن الدولة، فذلك حق وواجب على كل الغيورين عليها، ولكن ليس من حق أحد أن يسىء إلى العزبة ويهينها فى مقارنة من هذا القبيل، لأن لها مقومات وتقاليد حفظت لها كرامتها، وصانتها من العبث والابتذال على مر العصور.


قالوا إن العزبة لها صاحب يبقى فيها ويسهر عليها ويحافظ على كل مكوناتها فضلا عن مكانتها وسمعتها. وغالبا ما يختار لها «ناظرًا» من أكفأ الناس يدير أمورها، ولا يقبل منه عذر عن أى خلل يقع فيها. ناهيك عن أنه لا يحتمل أى عبث بأرضها أو محصولها أو حتى ماشيتها. وصاحب العزبة يغار عليها، ولا يقبل مساسا بحدودها، ولا وصاية من أحد عليها. وهو يسعى جاهدا لتوفير مستلزمات النهوض بكل شىء فيها. ثم إنه يتطلع دائما إلى توسيع نطاقها وتكبير زمامها، ويعتبر تصغيرها عارا عليه وإهانة لشخصه، هو يضيف إليها ولا يأخذ، وينفق عليها من فلوسه وعرقه.


صحيح أنه يظل يدير العزبة بإرادته الفردية حتى آخر نفس فى حياته. ومن ثم يبقى صاحب الأمر والنهى فيها، وصحيح أيضا أن العاملين فيها يخضعون لسلطانه ومصائرهم تظل فى يده، وأهم من ذلك أنه يورث العزبة لأولاده وسلالته من بعده. إلا أن ذلك مما يعد من القواسم المشتركة بينها وبين الدولة المستبدة. إضافة إلى ذلك فثمة فارق أساسى يتعين ألا نغفله فى المقارنة بين الاثنين، ذلك أن العزبة عادة ما تئول إلى صاحبها عن أحد طريقين، فإما أن يرثها عن أبيه وعائلته، وإما أن يشتريها بحر ماله. لكن شأن الدولة المستبدة مختلف، إذ تئول إلى صاحب الأمر فيها إما بمقتضى الصدفة السعيدة، التى تقع خارج النواميس، وإما من خلال الاحتيال والتزوير والتلاعب بإرادة المجتمع أو باستخدام القوة والغلبة. بسبب من ذلك فإن صاحب العزبة يعتبر نفسه حلقة فى سلسلة الأسرة، ومن ثم صفحة فى سجل تاريخها، أما صاحب الأمر فى الدولة المستبدة، فإن التاريخ لا يعنيه، وفى أحسن فروضه فإنه يتصرف بحسبانه لحظة حظ فى التاريخ، ليس لها ما قبلها أو ما بعدها.


الذين ناقشوا الفكرة معى، وقارنوا بين وضع العزبة كما عرضوه وبين ظروف الدولة فى حالتها الراهنة، أرادوا أن يخلصوا إلى أن وضع العزبة أفضل، وأن تصنيفها بحسبانها حالة أدنى أو أسوأ من الدولة المذكورة فيه تهوين من شأنها وافتئات على حقها. وهم يدللون على ذلك قائلين: إن صاحب الأمر فى الدولة نأى عنها واختار مقاما له فى أطرافها، وأوكل أمرها إلى أناس تراوحوا بين من نهبوا مالها وباعوا أرضها وروعوا شعبها واقتسموا خيراتها فيما بينهم. فأشاعوا فيها الفساد وأرهقوا جل العباد. ولم يجدوا من يحاسبهم على تدهور المرافق والخدمات، حتى القمامة فشلوا فى إزاحتها من الطرقات. فحل الفقر بالناس، وتزايدت النقمة بينهم، حتى كرهوا معيشتهم وفقدوا الأمل فى تحسين أوضاعهم، ومن ثم اسودت الدنيا فى وجوههم، ومنهم من اعتبر أن الانتحار هو الحل.
قال لى أحدهم: انظر كيف صغرت البلد وهان أمرها. وأصبح قرارها بيد غيرها، فصارت موالاة أعدائها مقدمة على شد أزر أشقائها، وانقلب حالها حتى صار حليفها الاستراتيجى هو عدوها الاستراتيجى، كما قيل بحق، وانظر أيضا كيف سبقها من كانوا أقرانها فتقدموا، وأثبتوا حضورا مشرفا فى ساحات هجرناها منذ انكفأنا على أنفسنا، فلا بقينا كما كنا ولا لحقنا بهم.


بعد ذلك سألنى صاحبنا: هل يمكن أن يحدث ذلك فى أى عزبة؟.. لم يترك لى فرصة للإجابة، ربما لأنه يعرف الرد، ثم واصل كلامه قائلا: إن العزبة ظلمت فى هذه المقابلة. وإذا كان لابد من المقارنة فلتكن بين الدولة و«الوِسِيَّة»، التى هى فى الأصل أراضٍ منحت تعويضا للملتزمين، الذين كانوا يتولون جباية الضرائب، قبل أن تقوم السلطة بهذه المهمة فى عهد الوالى محمد على باشا (أوائل القرن التاسع عشر). وكان الملتزمون وأسرهم يتعيشون منها وسمح بتوريثها فى وقت لاحق. وبمضى الوقت اصطلح المصريون على اعتبار الوسية أقرب إلى التكية. وهو تصويب جدير بالملاحظة. وأرجو ألا تسوء أحوالها أكثر، بحيث يخرج علينا يوما ما من يعاتبنا لأننا أساءنا أيضا إلى سمعة «الوِسية».

بقلم:فهمي هويدي - الدستور

No comments: