Friday, September 10, 2010

إفطــــار تحــــت التهديـــــد

كل عام وأنتم بخير
(هذا المقال كنت قد كتبته منذ ثلاثة أسابيع، ولم أتحمس لنشره حينها ظاناًَّ أننى ربما أكون مُبالِغا، لكن حملة التشهير القذرة التى تعرَّض لها الدكتور البرادعى أخيرا، كإنسان وأب ومواطن مصرى، طيب وشجاع ومتميز وصادق ومحترم، جعلتنى استعيد المقال، وأود لو أستزيده، وأدفع به للنشر الآن).


مع أوائل النفحات العاطرة لشهر رمضان الكريم، كنت قد نويت بموازاة صومنا الروحى صوما عن الكلام السياسى المباشر الذى لا تحبه نفسى ولا أجد فيه نفسى، وأن أيمم شطر كتابة ذات طموح تنويرى ونقدى ومستقبلى وقابل للتطبيق على حالات متعددة لا حالة بعينها، كتابة تدير ظهرها لتدنيات التناحة السياسية الحاكمة التى يبدو أن ممارسيها لا يدركون خطورة التمادى فى غيها، فهى بما تصر عليه من الاستمرار بالحيلة والاستقواء بالقوة برغم أخطائها وخطاياها التى تُوالى الأقدار، بعد الأحرار، كشْفها، هذه التدنيات السياسية إن استمرت، ويبدو أنها مصرة على الاستمرار، ستستدعى منطقيا وبالتأثير، وفى مواجهة شططها المدعوم بقوة القهر وغدر التحايل، قوة أخرى مضادة، لن تكون إلا عشوائية الانفجار وانتقامية وبلا عقل، ولن يركب موجتها إلا الغوغائية والتعصُّب، وبذلك تدخل مصر فى ثقب أسود من العنف والفوضى يعلم الله مداه. هذا سيناريو لا أميل لتصديقه، ولا أتمناه أبدا، أبدا!


السيناريو الآخر الذى أرجِّحه وأميل إليه، هو الحل السماوى لمعضلتنا الأرضية، وما ميلى لهذا السيناريو إلا تقديرى لواقعية الموقف، فثمة حكم متشبث بمواقعه ومدجج بكل أسلحة الاستمرار بالقوة الخشنة والحيل الفجة، ومعارضة أو قوى تغيير مشتتة ولا حيلة ناجزة لديها، ناهيك عن القوة، ثم إننى بالفعل وبالعقل وبالروح ضد العنف، وهناك عبارة أحبها لفيلسوف لا أحبه، تقول «مجرم من لا يتحاشى حربا يمكن تحاشيها»، وبالطبع أتجاهل الجزء المُكمِّل من العبارة التى تقول «ومجرم من يتحاشى حربا لا يمكن تحاشيها»، لأننى أرى أنه لا خير ولا ضرورة لأى حرب فى شأننا الداخلى، فلن يكون كاسبا فيها غير الشيطان لأن مشعليها لن يكونوا وقودها، بل نحن الناس العاديين، ثم إن الله الذى أَبتهِلُ إليه أن يحلها من عنده، منحنا لمسة رحمة عندما شاء أن نصل إلى ما وصلنا إليه بينما من أوصلونا إلى ما وصلنا إليه يوشكون جميعا على الانصياع مجبرين لحكم الزمن الذى تستحيل رشوته أو خداعه أو الالتفاف طويلا حول أحكامه، وكلها بضع سنوات كثرت أم قلت، وسنواجَه بمصر أخرى مكشوفة، ستلعننا سواء كنا فى رحبة الدنيا أو فى رحاب الله، إن لم نكن أعددنا الرؤية والفكرة لنهوض مصرى جديد وممكن مهما كانت صعوباته. وهذا ما كنت أفكر فى الانعطاف إليه فى الكتابة، والصوم عن الاشتباك السياسى مع اليومى والمباشر الذى يجيده رائعون عديدون، ويصبرون عليه أكثر من صبرى. لكننى الآن أكسر صومى وأُفطر إفطار المضطر.


لقد انتزعنى من نية الصوم عن الكتابة التى حلمت وأحلم بتغيير نهجها فى نفسى، رسالة متفرج لمقدم برنامج «مانشيت» الأستاذ جابر القرموطى، تتهمه بما معناه أنه هو وأمثاله من الإعلاميين والصحفيين وغيرهم من الكُتّاب وأصحاب الرأى الذين لا يراهم صاحب الرسالة إلا مُعارضين، يتجاهلون الإنجازات ويركزون على السلبيات، إلى هنا والمسألة وجهة نظر، واضح أن صاحبها من تابعية الحزب الوطنى بشكل أو بآخر، أما الأخطر، فكان التهديد الذى تضمنته رسالة هذا الكظيم، وقال فيها متوعدا، إن «يوم الحساب قريب، قريب، قريب»! وهنا بالضبط وجدت نفسى أفطر كاسرا الصوم الذى انتويته فى الكتابة، وأعود إلى ما يتوجب قوله من خلال هذه الكتابة، مهما كانت خشونته التى لا أحب خشونتها، فهذا التهديد الذى يبدو أنه انفعال أحد الموالين لحزب فاشل ومكروه، ليس إلا فلتة لسان تدل على أشياء متوارية فى الخافية، أو اللا شعور، لدى كثيرين من تابعى ومنتفعى ذلك الحزب، إن لم يكن لدى معظمهم، وهى طوايا ونوايا أخطر ما تكون!


لاحِظوا التعبير الجنونى فى التهديد والوعيد الذى وجهه هذا التابع لمقدم البرنامج وأمثاله من الإعلاميين والصحفيين والكتاب وأصحاب الرأى الحر: «يوم الحساب»، فكأن صاحبه يستعير مكانة رب العالمين ويهدد المخالفين لذلك الحزب وسياساته بالحساب العسير عن خطاياهم فى اليوم الموعود، يوم دينونة الحزب الحاكم! هذه ليست صدفة تعبيرية استعان فيها المتوعِّد بتعبير قريب المنال، بل هى كاشفة عن فظاعة جدِّية تماما، لأنها منفوخة بالغل والتلمُّظ للتنكيل بالمعارضين وطالبى التغيير وأصحاب الرأى الناقد، ولا تقِلُّ أبدا عن «فلتة لسان» نائب الوطنى الذى طالب تحت قبة «مجلس الشعب» بإطلاق الرصاص على أبناء الشعب من شبان مصريين يعبِّرون عن آرائهم بالطرق السلمية، ولم يكن ذلك «النائب» إلا جادا فى تحريضه الدموى، لولا أن الأجهزة التى أراد تحريضها كانت أعقل منه ومن أمثاله وأكثر حِنكة. أما عن توقيت يوم الحساب القريب، فهو واضح التحديد لدى أمثال صاحب تلك الرسالة المشئومة، ممن يسنون أسنانهم ويطيلون مخالبهم استعدادا لليوم الموعود، عندما يعبُر هذا الحزب جسر الفترة الانتخابية القريبة القادمة بكل الوسائل والحيل التى فى جعبته، وتستقر له سلطة تشريعية مليئة كالعادة المكررة المُعادة بنواب الطوارئ والرصاص والفساد والتهريب ونهب المال العام وصناعة الفتنة، وسلطة تنفيذية مُرصّعة بوزراء الجباية وتسهيل الفساد وتقنين القمع، وربما يُضيفون إلى ذلك محاكم التفتيش السياسية والانتقام الاقتصادى والاجتماعى لغير الموالين، وساحات ضربهم بالنار فى المليان إن رأت هذه السلطة فى ذلك ضرورة لمزيد من الاستقرار، والاستمرار، ومنع البلبلة!


بالأمانة، لا أتصور أن يجنح الجنون بالحكم إلى هذا المدى الذى تنحرف إليه أحلام وتمنيات كثيرين من تابعيه ومُشايعيه من حثالات المنافقين والمنتفعين والفاسدين خاصة، فالأجهزة ذات الخبرة الأمنية تحديدا، تعرف إنه فى ظل واقع متأزم اقتصاديا واجتماعيا، حيث ما من رشوة يستطيع الحُكم أن يغلق بها أفواه الصارخين والجائعين والعاطلين والرافضين والزهقانين فى الحر والقر والظلمة، فإن أى عنف من الحكم لن يكون إلا زر تفجير لعنف مُضاعَف عشرات الأضعاف من ملايين المحكومين، لا من النخبة الطامحة للتغيير بالطرق السلمية والحضارية والتى يتوعدها هؤلاء بالويل والثبور وعظائم الأمور، بل من جحافل المهمشين واليائسين والأكثر فقرا والذين يفوق عددهم فى القاهرة وحدها عشرة ملايين ضائع، منهم أكثر من سبعة ملايين يعيشون فى عشوائيات النطاق المحيط بقاهرة المعز فى ذُل لا يجعلهم إلا هشيما ينتظر شرارة الحريق. شرارة أى عنف يوحى بالعنف أو يُغرى به. وهذه ليست تنظيرة شخصية بل رؤية فى متن علم النفس الاجتماعى وسيكلوجية الجماهير المقهورة!


ثم، ثم إن الأمور ستكون واضحة، فالرعيل الأول والأخير من أدعياء وأدهياء ودهاقنة عصر الاستقرار والاستمرار سيكونون مشغولين، لا بتسليم الراية لأىٍ كان، بل بتجهيز لوازم السفر إلى وادى ظلال العمر الآفل، أو وادى الظلام والصمت. فهى فسحة من الزمن لإعادة ترتيب لوازم الرحيل، لا لتثبيت المقاعد التى لن تثبت أبدا فوق حطام السنين وأنقاض أبنية التحايل المنهارة. هكذا أتصور، وأتصور أن العقلاء فى أجهزة هذا الحكم الحساسة يتصورونه، وهو تصور يلفتنى وينبغى أن يلفت كثيرين غيرى، إلى ضرورة الانتباه إلى المستقل الذى لا أراه بعيدا، والذى أهفو للكتابة عن الحلم به، بمعاونة أهل العلم والفكر وأصحاب البصيرة، مستقبلا مستنيرا، عادلا، عقلانيا، جماليا، مقتحِما بالإبداع فى كل اتجاه، قائما على القانون الحق لا أباطيل التشريع الفاسد، ومُحترِما لحقوق الإنسان كإنسان، ومُعليا حق المواطنة الذى يتساوى تحت رايته الجميع، ومفعما بالتسامح، وواعدا بخير الحلول الأخلاقية والمُستدامة فيما أخفق فيه بالتلفيقات العابرة هؤلاء السائرون نياما والسائرون إلى زوال.
وعيدكم سعيد. يارب

بقلم:محمد المخزنجي - الدستور

No comments: