ذهبت مع صديق محام في بلدة صغيرة تُعد مركزًا بإحدي محافظات الصعيد، ذهبنا لاستخراج ورقة من مصلحة حكومية، وكانت فرصة لي أن أرصد حال المجتمع بشكل عام وتلك البلدان بشكل خاص وحال الناس بشكل أخص.
وهذا ما دار بالتفصيل..
الورقة التي يريد المحامي استخراجها ورقة صحيحة ولا مشكلة فيها سوي أنها تستغرق شهورًا لاستخراجها. ولأنه مستعجل عليها فكان لابد له من البحث عن بديل للروتين والبيروقراطية، فوجدته يتحدث في محموله لأحد الموظفين هناك، فأخبره الموظف بأنه ليس في المصلحة الآن.. لأنه بيصلح العربية عند الميكانيكي «يعني سايب الشغل شوية يصلح عربيته وراجع تاني»!!
فأخبره صديقي أنه سيأتي إليه عند الميكانيكي، وذهبنا إليه بالفعل «عند الميكانيكي»، ووجدته - أي المحامي- يقول له إنه يريد هذه الورقة اليوم! وأخرج من جيبه مائتي جنيه وأعطاهما له وهو يقول: أكيد الورقة ح تطلع بمصاريف .. دول عشان المصاريف!
فقال له الموظف: انتظرني في سيارتك أمام المصلحة وسآتي إليك.
فذهبنا وانتظرنا في السيارة أمام المصلحة، وبعد عشر دقائق وصل الموظف بسيارته «اتصلحت بأه»، ودخل ثم خرج بعد خمس دقائق وأعطي المحامي الورقة المطلوبة مختومة وجاهزة وميه الميه!
كل ده كوم.. واللي جاي كوم تاني ..
أعطي الموظف الورقة للمحامي وقال له في عجالة: بعد إذنك بأه لأني اتأخرت علي صلاة الضهر، ودخل أمامنا المسجد الذي بجوار المصلحة.
وأخذ المحامي الورقة وذهبنا .. ولكن ظلت بداخلي علامات استفهام كثيرة ومهمة في رأيي، ففضلاً عن أن مثل هذه المواقف تحدث بشكل أو بآخر في أغلب المصالح الحكومية، وفضلاً عن أن «الرشوة» بدأت تأخذ ألقابًا أخري مثل «أتعاب» أو «إكراميات» أو «تسهيلات»، وفضلاً عن أن البعض يحلو له أن يحلل هذه الرشوة بأن الله يكون في عون الموظف، وأن هذه هي الفجوة التي خلقتها الحكومة بين غلاء المعيشة ومستوي الدخل، وهذه الفجوة يدفع ثمنها الشعب الذي يريد أن ينجز مصالحه في نفس الوقت.
فضلاً عن كل هذا وذاك.
التساؤل الذي كان بداخلي هو: ماذا سيقول الموظف لخالقه عندما دخل يصلي؟
هل سيشكره علي ما أرسله من رزق له ولبيته من خلال هذا المحامي؟
وأن سبحانه سبَّبَ الأسباب .. يعني سبَّبَ احتياج المحامي له وأرسله إليه «عند الميكانيكي» علشان يجيب له ورقة يكون فيها رزقه؟!
ولا ح يقول : يارب سامحني إني مديت إيدي بس انت عارف الظروف وأكيد مقدر الحالة التعبانة اللي إحنا فيها؟! واللي عاملاه فينا الحكومة.. أكيد أنت مقدر يا رب!
طب أنا أرضي زمتكوا ..
إحنا بنضحك علي مين بالضبط؟!
علي نفسنا وعلي بعضنا تتبلع.. لكن علي ربنا .. حاشا.
وإذا كان د. زكريا عزمي قال ذات مرة تحت قبة البرلمان إن الفساد في المحليات وصل للركب.. فأنا أؤكد له أن الفساد في جميع أركان المحروسة قد تفشي في جسد المجتمع حتي النخاع، وبجميع الأشكال من فساد مالي إلي فساد أخلاقي إلي فساد سلطوي، وبالتالي إلي فساد سلوكي واضح في جميع الطبقات ومختلف الأعمار، وأخشي ما أخشاه أن يكون قد تحول إلي منهج نسير عليه ونكون قد وضعنا أسسًا وقواعد لهذا المنهج.
أي أنك حتي تصبح ثريًا فلابد أن تسرق، وحتي تحتل موقعًا وظيفيًا مرموقًا لابد أن تخضع وتنافق وعلي أي شيء توافق!
وحتي تنجح لابد أن تغش أو تشتري الامتحان، وحتي تجد مهنة لابد أن تجد واسطة وعندما تجد واسطة لابد أن تقدم شيئاً للواسطة، وحتي تعمل الفتاة لابد من تقديم تنازلات.. وهلم جرا.
إنها منظومة متكاملة من الفساد.
وهذا الكلام ليس جديداً ولا يخفي علي أحد، لكن التذكير به من حين لآخر ضروري، ومحاولة طرح حقيقتنا أمام أنفسنا واجب، لعلنا نفيق في لحظة.
أذكر أنني قلت لأحد المسئولين المهمين: لو أن الفاسدين صاموا عن الفساد شهراً واحداً في السنة سيتغير حال مصر كثيراً وستظهر خيراتها المنهوبة وسيصبح لنا شأن آخر في غضون سنوات، وأذكر أيضاً أنه ابتسم ولم يجب!
وبما أن الفساد لا دين له.
وبما أن هناك صوم رمضان وصوم السيدة العذراء تحت سماء مصر في وقت واحد.
وبما أن الصوم عبادة وليس عادة.
فتعالوا نتأمل ـ ولو قليلاً ـ في إصلاح أنفسنا حتي يصلح الله حالنا.
تخيلوا هذا المجتمع وقد ساده الحب والسلام وصفاء النفس والذهن لكل مواطن، وعادت إليه راحة البال والاطمئنان علي مستقبله ومستقبل أولاده.
تخيلوا أن الضابط يقف في الشارع مبتسماً وبشوشاً ويساعد الناس ويخاطبهم بمنتهي الأدب والذوق، ولا يستشعر أنه في منطقة سلطوية فيتحدث إليهم بعجرفة زائفة ونقص اجتماعي.
تخيلوا أن السيارة التي بجوارك تنتظرك ويقول قائدها: تفضل أنت.. فتخجل من أدبه وتدعوه أنت للسير.. ونقضيها عزايم.. لكن تصور أن يسود هذا الرقي بين المواطنين لا أن يكون بداخل كل واحد فينا «نية مبيتة» لمضايقة الآخرين.
تخيل أن يدعو رئيس الدولة لمؤتمر كبير تشارك فيه كل القوي السياسية في مصر، يناقشون فيه ـ علي مدار أيام ـ مستقبل مصر ووضع خريطة لإنقاذها من الهاوية، وتصنيفها كدولة متخلفة والخروج بها إلي مراحل متقدمة تجعلها في مصاف الدول المتقدمة ـ وهي تستحق ـ ووضع خريطة مستقبلية واختيارالأنسب في القيادة لهذه المرحلة.
تخيل أن تدخل إلي مصلحة حكومية فتجد الموظف وكله نشاط وحماس وحيوية لخدمتك دون أدني مقابل.
ولابد أن تتخيل أيضاً أن هذا الموظف يفعل ذلك لأنه يتقاضي أجراً يناسب مجهوده ويواجه به شظف العيش، ويعمل في مكتب مكيف، ونظام معمول به لا يتخطي فيه أحد حدوده.
تخيل أيضاً أن الناس تعمل حباً في العمل، ورغبة داخلية في أن يكون هو أولاً شيئاً ومن ثم بلده.
تخيل أن القيادات في مصر تسير علي منهج علمي في الإدارة ويتم اختيار الوزير والغفير علي حد سواء بناء علي الكفاءة والخبرة ومدي قدرته علي الابتكار واتخاذ القرار.
تخيل أن الإدارة في مصر لا تسير علي المركزية وأن كل السلطات والصلاحيات وكل ما هو آت في يد المدير أو الرئيس أو الناظر أو أي قيادة في قمة الهرم الوظيفي.
تخيل أن الشوارع نظيفة والمواصلات جديدة والخدمات واضحة ولا يوجد زحام بالطرق، وتخيل بعد ذلك أن هناك زوج يحاور زوجته بحب وهدوء وعلاقته سوية بأبنائه.
وتخيل هؤلاء الأبناء وهم مطيعون.. يقضون أوقاتهم في ممارسة الرياضة وقراءة الكتب أو قراءة ما هو مفيد علي الإنترنت.
وأن الفتاة تحترم خصوصية جسدها وتعود إليها الأنوثة والحياء.. تخيل وتخيل.
أقول هذا علها تكون لحظة إفاقة من الغفلة التي نغوص فيها، وحتي لا يأتي مسحراتي الحياة ويدق الطبول هاتفاً.
اصحي يا نايم.. الفساد دايم!
وهذا ما دار بالتفصيل..
الورقة التي يريد المحامي استخراجها ورقة صحيحة ولا مشكلة فيها سوي أنها تستغرق شهورًا لاستخراجها. ولأنه مستعجل عليها فكان لابد له من البحث عن بديل للروتين والبيروقراطية، فوجدته يتحدث في محموله لأحد الموظفين هناك، فأخبره الموظف بأنه ليس في المصلحة الآن.. لأنه بيصلح العربية عند الميكانيكي «يعني سايب الشغل شوية يصلح عربيته وراجع تاني»!!
فأخبره صديقي أنه سيأتي إليه عند الميكانيكي، وذهبنا إليه بالفعل «عند الميكانيكي»، ووجدته - أي المحامي- يقول له إنه يريد هذه الورقة اليوم! وأخرج من جيبه مائتي جنيه وأعطاهما له وهو يقول: أكيد الورقة ح تطلع بمصاريف .. دول عشان المصاريف!
فقال له الموظف: انتظرني في سيارتك أمام المصلحة وسآتي إليك.
فذهبنا وانتظرنا في السيارة أمام المصلحة، وبعد عشر دقائق وصل الموظف بسيارته «اتصلحت بأه»، ودخل ثم خرج بعد خمس دقائق وأعطي المحامي الورقة المطلوبة مختومة وجاهزة وميه الميه!
كل ده كوم.. واللي جاي كوم تاني ..
أعطي الموظف الورقة للمحامي وقال له في عجالة: بعد إذنك بأه لأني اتأخرت علي صلاة الضهر، ودخل أمامنا المسجد الذي بجوار المصلحة.
وأخذ المحامي الورقة وذهبنا .. ولكن ظلت بداخلي علامات استفهام كثيرة ومهمة في رأيي، ففضلاً عن أن مثل هذه المواقف تحدث بشكل أو بآخر في أغلب المصالح الحكومية، وفضلاً عن أن «الرشوة» بدأت تأخذ ألقابًا أخري مثل «أتعاب» أو «إكراميات» أو «تسهيلات»، وفضلاً عن أن البعض يحلو له أن يحلل هذه الرشوة بأن الله يكون في عون الموظف، وأن هذه هي الفجوة التي خلقتها الحكومة بين غلاء المعيشة ومستوي الدخل، وهذه الفجوة يدفع ثمنها الشعب الذي يريد أن ينجز مصالحه في نفس الوقت.
فضلاً عن كل هذا وذاك.
التساؤل الذي كان بداخلي هو: ماذا سيقول الموظف لخالقه عندما دخل يصلي؟
هل سيشكره علي ما أرسله من رزق له ولبيته من خلال هذا المحامي؟
وأن سبحانه سبَّبَ الأسباب .. يعني سبَّبَ احتياج المحامي له وأرسله إليه «عند الميكانيكي» علشان يجيب له ورقة يكون فيها رزقه؟!
ولا ح يقول : يارب سامحني إني مديت إيدي بس انت عارف الظروف وأكيد مقدر الحالة التعبانة اللي إحنا فيها؟! واللي عاملاه فينا الحكومة.. أكيد أنت مقدر يا رب!
طب أنا أرضي زمتكوا ..
إحنا بنضحك علي مين بالضبط؟!
علي نفسنا وعلي بعضنا تتبلع.. لكن علي ربنا .. حاشا.
وإذا كان د. زكريا عزمي قال ذات مرة تحت قبة البرلمان إن الفساد في المحليات وصل للركب.. فأنا أؤكد له أن الفساد في جميع أركان المحروسة قد تفشي في جسد المجتمع حتي النخاع، وبجميع الأشكال من فساد مالي إلي فساد أخلاقي إلي فساد سلطوي، وبالتالي إلي فساد سلوكي واضح في جميع الطبقات ومختلف الأعمار، وأخشي ما أخشاه أن يكون قد تحول إلي منهج نسير عليه ونكون قد وضعنا أسسًا وقواعد لهذا المنهج.
أي أنك حتي تصبح ثريًا فلابد أن تسرق، وحتي تحتل موقعًا وظيفيًا مرموقًا لابد أن تخضع وتنافق وعلي أي شيء توافق!
وحتي تنجح لابد أن تغش أو تشتري الامتحان، وحتي تجد مهنة لابد أن تجد واسطة وعندما تجد واسطة لابد أن تقدم شيئاً للواسطة، وحتي تعمل الفتاة لابد من تقديم تنازلات.. وهلم جرا.
إنها منظومة متكاملة من الفساد.
وهذا الكلام ليس جديداً ولا يخفي علي أحد، لكن التذكير به من حين لآخر ضروري، ومحاولة طرح حقيقتنا أمام أنفسنا واجب، لعلنا نفيق في لحظة.
أذكر أنني قلت لأحد المسئولين المهمين: لو أن الفاسدين صاموا عن الفساد شهراً واحداً في السنة سيتغير حال مصر كثيراً وستظهر خيراتها المنهوبة وسيصبح لنا شأن آخر في غضون سنوات، وأذكر أيضاً أنه ابتسم ولم يجب!
وبما أن الفساد لا دين له.
وبما أن هناك صوم رمضان وصوم السيدة العذراء تحت سماء مصر في وقت واحد.
وبما أن الصوم عبادة وليس عادة.
فتعالوا نتأمل ـ ولو قليلاً ـ في إصلاح أنفسنا حتي يصلح الله حالنا.
تخيلوا هذا المجتمع وقد ساده الحب والسلام وصفاء النفس والذهن لكل مواطن، وعادت إليه راحة البال والاطمئنان علي مستقبله ومستقبل أولاده.
تخيلوا أن الضابط يقف في الشارع مبتسماً وبشوشاً ويساعد الناس ويخاطبهم بمنتهي الأدب والذوق، ولا يستشعر أنه في منطقة سلطوية فيتحدث إليهم بعجرفة زائفة ونقص اجتماعي.
تخيلوا أن السيارة التي بجوارك تنتظرك ويقول قائدها: تفضل أنت.. فتخجل من أدبه وتدعوه أنت للسير.. ونقضيها عزايم.. لكن تصور أن يسود هذا الرقي بين المواطنين لا أن يكون بداخل كل واحد فينا «نية مبيتة» لمضايقة الآخرين.
تخيل أن يدعو رئيس الدولة لمؤتمر كبير تشارك فيه كل القوي السياسية في مصر، يناقشون فيه ـ علي مدار أيام ـ مستقبل مصر ووضع خريطة لإنقاذها من الهاوية، وتصنيفها كدولة متخلفة والخروج بها إلي مراحل متقدمة تجعلها في مصاف الدول المتقدمة ـ وهي تستحق ـ ووضع خريطة مستقبلية واختيارالأنسب في القيادة لهذه المرحلة.
تخيل أن تدخل إلي مصلحة حكومية فتجد الموظف وكله نشاط وحماس وحيوية لخدمتك دون أدني مقابل.
ولابد أن تتخيل أيضاً أن هذا الموظف يفعل ذلك لأنه يتقاضي أجراً يناسب مجهوده ويواجه به شظف العيش، ويعمل في مكتب مكيف، ونظام معمول به لا يتخطي فيه أحد حدوده.
تخيل أيضاً أن الناس تعمل حباً في العمل، ورغبة داخلية في أن يكون هو أولاً شيئاً ومن ثم بلده.
تخيل أن القيادات في مصر تسير علي منهج علمي في الإدارة ويتم اختيار الوزير والغفير علي حد سواء بناء علي الكفاءة والخبرة ومدي قدرته علي الابتكار واتخاذ القرار.
تخيل أن الإدارة في مصر لا تسير علي المركزية وأن كل السلطات والصلاحيات وكل ما هو آت في يد المدير أو الرئيس أو الناظر أو أي قيادة في قمة الهرم الوظيفي.
تخيل أن الشوارع نظيفة والمواصلات جديدة والخدمات واضحة ولا يوجد زحام بالطرق، وتخيل بعد ذلك أن هناك زوج يحاور زوجته بحب وهدوء وعلاقته سوية بأبنائه.
وتخيل هؤلاء الأبناء وهم مطيعون.. يقضون أوقاتهم في ممارسة الرياضة وقراءة الكتب أو قراءة ما هو مفيد علي الإنترنت.
وأن الفتاة تحترم خصوصية جسدها وتعود إليها الأنوثة والحياء.. تخيل وتخيل.
أقول هذا علها تكون لحظة إفاقة من الغفلة التي نغوص فيها، وحتي لا يأتي مسحراتي الحياة ويدق الطبول هاتفاً.
اصحي يا نايم.. الفساد دايم!
- الدستور
No comments:
Post a Comment