كان توزيع «شنطة رمضان» هو النشاط الرئيسى لكثير من «السياسيين» فى مصر خلال الأيام الماضية، وسيظل كذلك إلى أن يبدأ تجهيز «لفة كعك العيد» لتوزيعها فى الأسبوع الأخير من الشهر الفضيل، وهذا نشاط يتسابق فيه الحزب الوطنى وجماعة «الإخوان المسلمين» لاستجداء تعاطف شعبى أو محاولة تعزيز ما يوجد منه، فى غياب تنافس سياسى صحى تسعى عبره الأحزاب والقوى السياسية إلى إقناع الناس ببرامجها واتجاهاتها والسياسات التى سيطبقها كل منها إذا وصل إلى الحكم.
ويبدو توزيع «شنطة رمضان» أكثر كثافة وأوسع نطاقاً هذا العام، لأن الانتخابات البرلمانية على الأبواب، فإلى جانب «الشنط» التى تجهزها لجان الحزب الوطنى ومكاتب «الإخوان» الإدارية فى كثير من مراكز المحافظات ومدنها، ينشط فى هذا المجال بكثافة شديدة الراغبون فى الترشح لانتخابات مجلس الشعب، ولذلك كان توزيع «شنطة رمضان» بمثابة البداية الفعلية للحملات الانتخابية البدائية التى تُباع فيها الأصوات بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وتحضر فيها العصبيات العائلية والعشائرية والقروية والنفوذ المحلى، بينما تغيب الأحزاب والاتجاهات السياسية والفكرية.
وهذا مشهد مؤلم، ولكنه لم يأت من فراغ، بل نتيجة تجريف الحياة السياسية وتجفيف منابع الحوار الحر والمشاركة الشعبية فى إدارة الشأن العام وانتشار الفقر، مما أدى إلى تقويض مقومات السياسة الحديثة التى يكون التنافس فيها بين برامج تهدف إلى زيادة قدرة الفقراء على شراء حاجاتهم فى رمضان وغير رمضان، بدلاً من تحويلهم إلى متسولين ينتظرون «الشنطة» التى يُنعم بها عليهم حزب أو جماعة بكل ما ينطوى عليه ذلك من تخلف وهوان.
ولا يخفى أن فكرة «شنطة رمضان» تعود أصلا إلى جمعيات خيرية تتنافس فى التسول «الأنيق» لجمع تبرعات بلا رقابة عليها ولا محاسبة تحت شعارات من نوع إطعام الصائمين ومساعدة المحتاجين، وتجد فى شهر رمضان فرصة سانحة لممارسة نشاطها هذا، وقد نقل الحزب الوطنى وجماعة «الإخوان» هذا النوع من التسول من ميدانه الاجتماعى إلى السياسة،
وعندما يأتى شهر رمضان هذا العام عشية الانتخابات، لابد أن يتوسع نطاق توزيع «الشنطة» ويزداد البيزنس المرتبط بها، فتتنافس أعداد هائلة من محال البقالة و«السوبر ماركت» فى تجهيزها وتقديم عروض مختلفة لها، فهى تحتوى عادة على سكر وزيت وأرز وفول وتمر ولفة قمر الدين، ولكن يضاف إلى بعضها سمن وبعض أنواع «الياميش». وتوضع فيها ورقة تتضمن إمساكية وآية قرآنية وحديثاً شريفاً وأدعية، والأهم من هذا كله اسم المرشح وصورته.
وهكذا، ففى غياب حيوية سياسية وانتخابات حرة عمادها البرامج المتعددة والاتجاهات المختلفة، يتركز التنافس الانتخابى فى ميدان الخدمات، ويتدنى من خدمات تفيد بمجموع الناس فى الدائرة الانتخابية إلى أخرى تُقَدم لأفراد وصولاً إلى شراء أصوات بشكل مباشر، ولذلك فلا عجب أن يصل التدهور إلى حد أن يصبح إطعام الناخبين هو السبيل إلى أصواتهم، و«شنط» المرشحين هى معيار الاختيار بينهم.
ولن يكون ممكنا التحول من «سياسة الشنط» هذه إلى سياسة البرامج والمواقف والأفكار بدون إصلاح سياسى يشمل تعديلات دستورية وقانونية لاستعادة الحيوية المفقودة فى المجتمع وتوفير الثقة الغائبة فى الانتخابات، وعندما يقتنع الناخبون بجدوى هذه الانتخابات سيتعاملون معها باعتبارها وسيلة شديدة الأهمية للمشاركة من أجل تحسين حياتهم وصناعة مستقبل أفضل لأولادهم، وعندئذ سيكون فى إمكاننا أن نطوى صفحة الانتخابات البدائية، وأن نتطلع إلى انتخابات مشرفة لا نخجل منها أمام العالم وتعبر نتائجها عن إرادة الناخبين واختياراتهم الحقيقية
د.وحيد عبدالمجيد- Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment