رحل المثقف، أي فاروق عبد القادر، نموذج نادر أن يتكرر في حياتنا الثقافية، وعندما أقول المثقف بالتعريف، فذلك لأنني أعتبره النموذج الحقيقي للمثقف، مثله كأستاذي «إبراهيم فتحي» أمد الله في عمره. فمن يعمل خارج المؤسسات يواجه صعوبات متعددة في عملية بناء ثقافته، وفي عملية النشر، ولكي يصل إلي المكانة التي وصل إليها أي من الاثنين، لابد أن يبذل جهوداً مضاعفة فضلاً عن ضرورة إمتلاكه لعقلية فذة. وقد أصبح فاروق عبد القادر واحداً من أبرز النقاد العرب، المؤمنين بمنهج الواقعية غير المبتذلة، وكنت في ندوة الأحد التي يعقدها أسبوعياً في مقهي «سوق الحميدية» بباب اللوق أري بنفسي كبار الكتاب والروائيين العرب وهم يأتون إليه، حيث كانت زيارته لابد أن تكون ضمن برنامجهم في القاهرة.
كانوا يأتون للمشاركة في ندوات المجلس الأعلي للثقافة، وكان أستاذنا الراحل يقاطع المؤسسات الرسمية ولا يذهب إلي هناك فيأتون إليه سواء للنقاش حول أوضاع الثقافة العربية، أو لإهدائه أعمالهم الجديدة. كان أي من هؤلاء يري أن كتابة الناقد الكبير الراحل عنه، بمثابة تكريس له في الساحة الأدبية العربية، خاصة أنه لم يكن مجاملاً علي الإطلاق ولا يكتب إلا ما هو مقتنع به، ولا يخضع ما يكتبه لأي مواءمات، ولا يخشي في الحق لومة لائم. من أبرز ما قرأت له دراسة نشرها في مجلة «المنار» التي كانت تصدر في باريس ورأس تحريرها اليساري المصري المغترب آنذاك «أمير إسكندر» بعنوان «هؤلاء الكتاب ومسرحهم الزائف» وهو أعاد نشرها بعد ذلك في كتابه المهم «رؤي الواقع وهموم الثورة المحاصرة» الذي صدر في بيروت عن دار الآداب، وفيه يدرس مسرحيات أربعة من كتاب المسرح هم: عبد العزيز حمودة ومحمد عناني وفوزي فهمي وسمير سرحان، ويجمع بين الأربعة أنهم من تلاميذ الراحل «رشاد رشدي» الذي وجد أن آثاره السلبية في الثقافة المصرية مازالت مستمرة وأن تلاميذه يمارسون عملية إنتاج وعي زائف ضمن ثورة ثقافية مضادة يسير فيها النظام المصري. وكان فاروق الذي يدرك جيداً كيف يسيطر هؤلاء التلاميذ علي المؤسسات الثقافية، يري أن مسئوليته هي كشف وتعرية هذا الوعي الزائف وهذه الثورة المضادة.
كان «فاروق عبد القادر» من مدرسة مجلة الطليعة، وللطفي الخولي مكانة خاصة لديه، وقد حاول الأخير أكثر من مرة أن يدخله في حظيرة وزير الثقافة فاروق حسني، ولكن فاروق لم يقبل، لأنه يدرك أن مقتل المثقف هو أن يصبح تابعاً لنظام سياسي، خاصة أنه لم يكن راضيا عن أداء هذا النظام ويري أن ما يقوم به الوزير تخريب للثقافة المصرية، وعلي الرغم من المكانة التي يحتلها لطفي الخولي لديه، لم يمتنع عن النقد الحاد والقاسي لمهرجان المسرح التجريبي خاصة الدورة التي رأسها الخولي نفسه، وكان ذلك في مقال شهير كتبه في مجلة «روز اليوسف» عندما كان عادل حمودة يعمل نائباً لرئيس تحريرها.
من كان يري صورة فاروق عبد القادر أو يقرأ مقالاته الحادة، يتصور أنه كشر الوجه ولكن من يتعامل معه عن قرب سيدرك كم هو خفيف الظل، لديه قدرة علي النقد الساخر للواقع المؤلم الذي نعيش فيه، وهو علي الرغم من العنت الذي واجهه والحصار الذي تعاملت به المؤسسات الثقافية الرسمية به في مواجهته، لم يكن يشعر بأي قدر من الندم علي خياراته السياسية أو الثقافية أو الجمالية،ولم يشعر بأي غيرة علي من أصبحوا داخل المؤسسة، بل لم يشعر بأي أسي أو غضب انعكس علي تعاملاته مع البشر. وكان يهتم بالكتاب الجدد في عالم الأدب، وكتب عشرات المقالات والدراسات حول أعمالهم سواء في جريدة «البديل» التي كان يكتب فيها مقالا أسبوعيا، أو في مجلة «وجهات نظر» التي كان يكتب فيها دون انتظام بتكليف من الأستاذ «سلامة أحمد سلامة» عندما كان يرأس تحريرها. وهو ما يؤكد أنه لم يكن منغلقا علي جيل واحد ولا علي أسلوب جمالي واحد علي الرغم من تبنيه منهج الواقعية في النقد الأدبي.
كنا نذهب إليه في سوق الحميدية لأنه كان يأخذ بأيدينا، يعطينا الكتب لنقرأها ويتعامل معنا باعتبارنا إخوة صغاراً أو تلاميذ له، ولم نكن نشعر بأي تعالٍ منه علينا، علي الرغم من أنه علم من أعلام الثقافة العربية ونحن مازلنا مبتدئين في عالم الكتابة، وكان أحيانا عندما يكتب أحدنا موضوعاً صحفياً أعجبه، لا يجد أي غضاضة في أن يبادر بالاتصال به لكي يبدي إعجابه ويتناقش حوله بكل أبوة وحنان و«أستذة».
كتب الراحل الكبير العديد من الكتب، لكنني أري أن اختياراته للترجمة جديرة بالدراسة، فهو لم يكن يقدم علي ترجمة أي كتاب من أجل لقمة العيش، ولكنه كان يختار ما يراه مفيدا لمشروعه النقدي أو الثقافي، بدءاً من المسرحيات أو الكتب النقدية وحتي الكتب الفلسفية، ومروراً بكتب علم النفس، وانتهاء بالكتب الثقافية الكبري مثل : «نهاية اليوتوبيا »لراسل جاكوبي أو «طرائق الحداثة» لريموند ويليامز. لكن مشروعه الكبير كان ترجمة الأعمال الكاملة لبيتر بروك بدءاً من «يو إس إيه» و«النقطة المتحولة» وانتهاء بالسيرة الذاتية التي كتبها «بروك» عن حياته، وكانت هذه السيرة هي آخر عمل ترجمه الناقد الكبير الراحل. وقد قال لي الناشر مصطفي الطناني إن «بروك» نفسه عندما علم بالظروف الصحية لفاروق عبد القادر أرسل خطاباً للمركز القومي للترجمة يتنازل فيه عن حقوق ترجمة الأعمال الكاملة له لكي يعيد المركز نشرها بما يساعد فاروق في محنته الصحية. وهذا الخطاب به إشادات بالمشروع النقدي والثقافي لفاروق عبد القادر، لكن الأخير الذي كان يعشق بيير بروك لم يعلم بأمر هذا الخطاب -الوثيقة بسبب ظروفه الصحية السيئة.
كنت ألح علي الراحل الكبير أن يكتب سيرته الذاتية، لأنها يمكن أن تمثل نموذجا لأي مثقف ملتزم بقضايا وطنه وبالانحياز للجمال والعفة وطهارة اليد، ولأنها يمكن أن تكون سيرة للحياة الثقافية في مصر في فترة مهمة من تاريخها، لكنه كان يرفض ويري أن هناك مصدرين أساسيين لهذه السيرة، الأول الحوار الذي أجراه معه الزميل «أسامة الرحيمي» ونشره في مجلة «نصف الدنيا» علي 5 حلقات، والثاني المقدمة الرائعة التي كتبها لكتابه الرائع «نفق معتم ومصابيح قليلة».
ومازلت أري أن سيرة هذا المثقف الكبيرة جديرة بأن تروي للأجيال الجديدة، وأعتقد أن هذا الأمر يمكن أن يقوم به صديقه القريب جداً إليه الدكتور حسين عبد القادر أو الزميل أسامة الرحيمي الذي كان قريباً إلي قلبه. وبوفاة الناقد الكبير «فاروق عبد القادر» فقد الوطن العربي وليس مصر فقط مثقفاً من طراز فريد، ونموذجاً فريداً في الحياة الثقافية، انعزل عن المؤسسات باختياره، فأصبح مؤسسة قائمة بذاتها، ورفض ذهب المعز، فأصبحت مهمة هذا الأخير هو البحث عن وسيلة لكي يدخله إلي الحظيرة، لكنه عجز عن ذلك، وعندما وجد «المعز» أن ذلك قد يكون في نهاية حياته عبر منحه جائزة كان «فاروق» ينتقد من يمنحونها وآليات منحها، اختار الرحيل، حتي لا يظن أحد أنه دخل الحظيرة في آخر أيامه.
خالد السرجاني- الدستور
No comments:
Post a Comment