منعني وجودي خارج مصر من حضور الاحتفال بذكري وفاة الدكتور أحمد عبد الله رزة الذي أقيم في نقابة الصحفيين، وكان عزائي الوحيد أن جريدة «الدستور» كانت هي الوحيدة التي اهتمت بهذا الاحتفال ونشرت علي موقعها الإلكتروني تغطية لتوزيع أول جوائز علمية تمنح باسمه للباحثين الشبان المهتمين بالقضايا التي كرس الفقيد حياته لها. وقد تم توزيع الجوائز للباحثين أحمد عبد التواب وأحمد حسن وهما طالبان في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي تخرج فيها عبد الله، كما تم منح جائزة خاصة للطفل حافظ فيصل حافظ الذي ترك العمل وعاد إلي مقاعد الدراسة مرة أخري، وقد رأي أصدقاء الدكتور أحمد عبد الله أن الذي كرس حياته لمواجهة عمالة الأطفال جدير بأن تمنح جائزة باسمه للأطفال الذين استجابوا لرسالته وتركوا العمل وعادوا إلي مقاعد الدراسة.
وزع الجوائز قامة فكرية كبري هو الدكتور حسام عيسي واشترك في الحفل الذي تمخض عن وقف وديعة بنكية بقيمه 100 ألف جنيه يصرف منها علي جوائز الأعوام المقبلة عدد من أصدقاء أحمد عبد الله منهم : الدكتور محمد أبو الغار، والكاتب الصحفي أحمد الجمال، والناشر فريد زهران، ورجل الأعمال و الناشط السياسي هاني عنان، وجورج إسحق، والدكتور أحمد زكي الذي ترجم دراسة رائعة للدكتور أحمد عبد الله رزة بعنوان «مصر قبل وبعد 11 سبتمبر» نشرها معهد الاستشراق الألماني وهي وثيقة سياسية مهمة لابد من أن يطالعها كل من يهتم بالعمل السياسي في مصر. وأيضا شارك الصديق نبيل عبد الفتاح، وبهاء عواض ، وهبة رءوف عزت، ورجل الأعمال المثقف سعيد عيد، وصلاح زكي مراد ،والدكتور جمال عبد الجواد، وعرض فيلم أعده المخرج أحمد عادل حول الدكتور عبد الله نفذه من مواد تليفزيونية تم تسجيلها له علي مر سنوات قبل وفاته.
والحقيقة أن الاحتفال بذكري الدكتور أحمد عبد الله رزة، ليس فقط بسبب دوره في الحركة الوطنية المصرية عندما قاد مع زملاء له حركة الطلبة عام 1972 والتي كانت تطالب بإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، والتي تضامن معها عدد من كبار الكتاب والمفكرين في مقدمتهم توفيق الحكيم الذي صاغ البيان التضامني معهم والذي تسبب في مشاكل عدة بينه وبين الرئيس السابق أنور السادات، وإنما الاحتفال كان بالقيمة التي يمثلها أحمد عبد الله رزة كمثقف مستقل غير منتمٍ لأي مؤسسة، وكممثل لطهارة اليد والروح ومنتمٍ للجماهير العريضة التي عاش بينها وهم في حالته جماهير عين الصيرة الذين كان الراحل يفخر بالانتماء لهم، والذي أسس العديد من المشروعات الاجتماعية من أجل مساعدتهم علي مواجهة أعباء الحياة وقسوتها، وهو ما جعل منه مثقفاً عضوياً بحق حسب تعريف المفكر الإيطالي «جرامشي» لهذا المصطلح.
ولقد اهتم عبد الله من خلال أبحاثه العلمية وكتاباته، بالعديد من القضايا المهمة علي رأسها قضية الأجيال، حيث رأي أن الأجيال القديمة سطت علي حق الجديدة في أن تشارك في رسم مستقبل الوطن وقد عبر عن ذلك في مؤلف رائد هو «قضية الأجيال»، وبالطبع كان علي رأس اهتماماته الحركة السياسية للطلاب في مصر وهو موضوع رسالته للدكتوراه التي طبعت بعد ذلك في كتاب باللغة الإنجليزية وصدرت ترجمته في مصر أولا عن «دار سينا» وأعيدت طباعته مرة أخري ضمن إصدارات المشروع القومي للترجمة. وكتب أحمد عبد الله عن الاستقطاب الثقافي في المجتمع المصري كتابا مهما هو «الجامع والجامعة» وله أيضا كتاب بعنوان «الوطنية المصرية». كذلك أشرف «أحمد عبد الله رزة »علي كتاب مهم حول الجيش والديمقراطية نشرته «دار سينا» في تسعينيات القرن الماضي.
وبعد وفاته جمع أصدقاؤه بعض كتاباته ومقالاته ودراساته في كتاب غاية في الأهمية هو «الديمقراطية أولا.. الديمقراطية دائما » وصدر عن دار «مريت» . وقد كرس سنوات من حياته لمناهضة عمالة الأطفال من خلال أبحاث ميدانية نشرها حول هذه الظاهرة ومن خلال العمل الميداني الذي انتهي إلي إعادة العديد من الأطفال العاملين مرة أخري إلي الدراسة، وهذا الأمر تم من خلال التعاون مع مؤسسات اجتماعية مهتمة بالظاهرة، ومع المهتمين والمهتمات بالقضاء علي الظاهرة ومنهم الإعلامية بثينة كامل التي نشرت كتابا حول الظاهرة ضمنته شهادات لأطفال عاملين حول ظروفهم الاجتماعية والأسرية التي دفعتهم إلي العمل وأيضا حول أوضاع العمل ذاته.
وفضلا عن هذه الأعمال المهمة علي صعيد العمل الفكري والنشاط الاجتماعي الذي تم بالجهود الذاتية ودون البحث عن تمويل أجنبي، فإن أحمد عبد الله انخرط في العمل السياسي، لأنه كان يري أنه لا فصل بين الفكر والسياسة، وأنه لابد للمفكر أن يحتك بالجماهير عبر عمل جماهيري حقيقي، وأن العمل علي التغيير لايتم إلا بمشاركة الناشطين فيه. وقد انضم الفقيد إلي حزب التجمع بعد عودته إلي مصر قادما من بريطانيا، لكنه وجد أن أسلوب إدارة الحزب يختلف عن التصورات المثالية التي يري أنها لابد أن تسود العمل السياسي والحزبي. وفي آخر انتخابات لمجلس الشعب خاض الانتخابات لكنه لم يوفق، بسبب رفضه المناورات السياسية والتربيطات غير الأخلاقية واللا المبدئية التي عرضت عليه من قبل مرشحين آخرين.
وقد رعي أحمد عبد الله حوارات بين شباب الأحزاب والقوي السياسية المحجوبة عن الشرعية والأقباط، لأنه كان يري أن الحوار هو أفضل أسلوب لإدارة الخلاف بصورة حضارية وأنه يزيل سوء التفاهم بين القوي السياسية، وأن الشباب هم الأفضل في إجراء الحوار؛ لأنه يتعلق بمستقبل مصر الذي هم المعنيون به.كذلك قام أحمد بدور مهم في دفع شباب الأقباط إلي المشاركة السياسية سواء عبر الندوات التي كان يشارك فيها في جمعية الصعيد أو الجزويت، أو عبر اللقاءات المباشرة فيما بينهم. كذلك كان عبد الله يدفع الإسلاميين إلي الانخراط في العمل السياسي وإلي تبني برنامج للدولة المدنية، وكانت له حوارات في هذا الصدد مع المجموعة التي شكلت حزب الوسط وتركت تنظيم الإخوان المسلمين.
وأعتقد أن الحراك السياسي الذي تشهده مصر حاليا افتقد أحمد عبد الله رزة، سواء علي صعيد الفكر أو الحركة، فقد كان مبدعا في المحورين، ولديه خيال خصب وقادر علي إنتاج أفكار تخرج النخبة السياسية المعارضة من حالة الجمود والعقم التي تعيش فيها، والتي أدت إلي تغّول جهاز الحكم وقسوته في التعامل مع المجتمع. وقد توصلت إلي هذه النتيجة عبر الحوارات التي كنت أجريها معه في لقاءاتنا الشخصية، وعبر دوره في حركة الطلبة والسجالات التي كانت تدور بينه وبين المنتمين للحكومة الذين كانت ترسلهم السلطة لمحاورته وعلي رأسهم الدكتور رفعت المحجوب -عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- آنذاك، والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل الذي طلب من لطفي الخولي -رئيس تحرير مجلة الطليعة- أن يجمعهم في «الأهرام» لعقد لقاء خاص بمجلة الطليعة التي كان يرأس تحريرها.
لقد قام أصدقاء أحمد عبد الله بدور مهم في إحياء ذكراه بالصورة التي تليق به ولكن تنظيم هذا الاحتفال ومأسسته هو أمر مهم وضروري، وهو ما سيتم في الأعوام المقبلة، حيث ستكون هناك لجنة دائمة للجائزة ويشرف عليها محكمون دائمون ويتم تحت إشراف هيئة محايدة، وهو ما سيحدث في الأعوام المقبلة، والمهم أن الحركة بدأت وأن هناك نية لأن تستمر.
خالد السرجاني- الدستور
No comments:
Post a Comment