فى باريس وعلى مقهى رائع فى الشانزليزيه، أتيح لى مشاهدة المسلة الفرعونية الشامخة فى ميدان الكونكورد وهى تعانى - رغم شموخها - غربتها بعيداً عن موطن ميلادها، جمعتنى أمسية ثقافية مع عدد من المبدعين العرب المقيمين فى فرنسا، عرفنى عليهم صديقى الفنان التشكيلى المصرى الفرنسى عبدالرازق عكاشة، ليلتها باغتنى مثقف مغربى بسؤال معقباً على حديثنا الممرور عن التعليم فى مصر، وسؤاله هو: كيف تعانون من أزمة تعليم فى مصر وعندكم طه حسين؟..
لوهلة حاولت استحضار إجابة سريعة فقلت له: تقصد شعار التعليم كالماء والهواء الذى رفعه عميد الأدب العربى؟ قال: دعك من هذا فهو معروف، أنا أقصد أن حل أزمتكم التعليمية والثقافية فى مصر موجود فى كتابين لهذا العبقرى، وهما بالتحديد «فى الشعر الجاهلى» و«مستقبل الثقافة فى مصر»، وظل محدثى يشرح العلاقة بين الكتابين ومحور الفكر النقدى البناء لدى طه حسين وحتمية تبنى هذا المحور فى السياسات التعليمية العربية كما حدث فى أوروبا، وأطنب فى شرحه حتى مل منه الحاضرون وأنا معهم،
لكننى عدت للقاهرة وصدى كلماته يحاصرنى، فبدأت أبحث عن الكتابين اللذين كنت طالعتهما شابا- فى ثانوى غالباً- واستعنت بكتاب الراحل العظيم محمود عوض «أفكار ضد الرصاص» لأفهم ظروف تأليفهما واندهشت أن طه حسين كتب أحد الكتابين وهو فى حالة فلس ومعاناة والحكاية أنه بعد تأليفه كتاب «فى الشعر الجاهلى» وهو أستاذ بكلية الآداب، تحركت ضده قوى التطرف وهاجت عليه طيور الظلام واتهموه بالزندقة ووصموه بالكفر والهرطقة، ونجحت حملة أنصار التخلف فى طرده من وظيفته حتى لا يعلِّم الطلاب الكفر ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتجريس زوجته فى الصحف وعاد مقهوراً لبيته فى ٢٠ مارس ١٩٣٢، وصدر قرار بحرمانه من أى وظيفة أخرى بوزارة المعارف،
وما إن دخل منزله حتى قدَّمت له زوجته خطاباً من بنك مصر يطالبه بسداد ديونه التى بلغت ثمانية جنيهات مع تهديد بالحجز على المنزل والعفش فى حالة عدم السداد، ويصمت الرجل ثم يدخل حجرة نومه ويصحو بعد ساعة ليقرر تأليف كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» فى نفس اليوم.
هذا الكتاب باعتراف عباس العقاد صديق طه حسين اللدود، أهم كتاب صدر فى النصف الأول من القرن العشرين لأنه يرسم سياسة تعليمية وثقافية شاملة للأجيال ويحدد كيف تبنى العقول بالحوار والنقد والقدرة على الجدل والغضب والرفض والثقة فى النفس وبناء الشخصية المبدعة لا الناقلة، المستقلة لا التابعة الإمعة وأنا لا أعلم لماذا لا تطبع وزارة التعليم هذا الكتاب ضمن مناهجها ولو كان الأمر بيدى لأضفت له كتاب العقاد الخطير «التفكير فريضة إسلامية»، وأنا أسأل وزير التعليم أحمد زكى بدر، هل قرأ أحد الكتابين وبالتحديد كتاب طه حسين؟
أكاد أجزم أنه لم يفعل، وذلك لأنه لو فعل ما صدرت قراراته بهذه العشوائية والعجلة الأقرب لقرارات «الون مان شو»، إصلاح التعليم فى مصر يبدأ بنسف النظام القائم من جذوره ووضع استراتيجية قومية لبناء الإنسان المصرى من الصغر كما فعلت كوبا واليابان وألمانيا، ومؤخراً أجرت مجلة «ديشيجل» الألمانية استفتاء بين طلاب المدارس حول أهم رموزهم فجاء الشاعر الألمانى جوته الأول وجاء بعد منه هتلر ديسمارك وأنجلز، وعندما سألت المذيعة أحد الشباب عن زكى نجيب محمود، أجاب بثقة إنه مخرج من أيام الأبيض والأسود، وساعتها خبطت صدرى مثل خالتى بمبة صارخاً: ياجيل إسود ومطين بطين
محمد الغيطى - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment