Wednesday, July 07, 2010

حياة وموت مفكر عربي اسمه نصر حامد أبو زيد


في عام 1994 تعرفت علي الدكتور نصر حامد أبو زيد حينما وافقت القناة الثالثة في التليفزيون الهولندي علي اقتراحي بتصويره وعمل ريبورتاج عنه بعد أن حكمت محكمة مصرية ضده في دعوي حسبة أقامها محامون مصريون. قضت المحكمة بارتداده عن الإسلام، ثم بفصله من الجامعة ـ جامعة القاهرة ـ حيث كان يدرس في قسم اللغة العربية بهدف «منع تأثيره الضار في التلاميذ» كما قضت أيضا بتطليقه من زوجته الدكتورة إبتهال يونس، الأستاذة الجامعية، لأنه لا يجوز لغير المسلم أن يحتفظ في عصمته بزوجة مسلمة.

هكذا في شهر ديسمبر من عام 1994 رأيت وتعرفت علي أبي زيد للمرة الأولي، حيث كان لقائي الأول به مع الفريق التليفزيوني في شقته البسيطة الصغيرة في مدينة 6 أكتوبر.

في ذلك الوقت رحبت «الدولة» في مصر بخروج أبو زيد من دائرة الإعلام. وكانت جامعة «لايدن» العريقة في الدراسات الإسلامية قد قدمت له عرضا لكي يكون «أستاذاً زائراً» ويشرف علي طلبة قسم الدكتوراه في الجامعة الذين يعدون رسائلهم عن الإسلام.

هكذا شد الرحال إلي هولندا والتحقت به زوجته التي رفض تطليقها معلنا أنه مسلم لا يزال علي دينه..

كان محاميه في مصر الراحل الجليل «خليل عبد الكريم»..

هكذا تعرفت أيضا علي هذا الفقيه الجليل في مكتبه الصغير في إمبابة، مكتب لا يليق بمحام مثله، لكن هذا حال الدنيا.. المصرية !

في هولندا تواصلت علاقتنا أبو زيد وأنا، كما تعرفت زوجتانا. حتي جاء الوقت الذي فكرت فيه في تقديم كتاب مبسط عن الإسلام يعتمد علي أسئلة وأجوبة. الأسئلة مني والأجوبة من أبي زيد. قلت له سأقوم بدور «محامي الشيطان» حيث أقوم بسرد حجج من يهاجم الإسلام ، وتقوم أنت بصفتك الأكاديمية بدور المدافع عن الإسلام. كان مستسلما للفكرة التي قد ألحّت عليّ حينما قرر ابني الصغير وقتها ( عشر سنوات ) أن يصوم رمضان بالأصالة عن نفسه ونيابة عني باعتباري مسلما (!) مستسلما للفكرة الغربية أن كل عربي مسلم. كان العذر للصبي ؛ فقد قررنا أمه وأنا أن نترك لأولادنا حرية اختيار ديانتهما.

هكذا واصل ابني صيام رمضان متي عنَّ له ذلك بعد أن شرحنا له موقفنا ؛ أمه وأنا.

وعلي هذا الأساس عرضت الفكرة علي أبي زيد . رحب هو متحمسا.

سجلنا حوالي ثلاثين ساعة حوار علي فترات متقطعة في حوالي شهور ثلاثة. ولم أجد ناشرا في مصر فأصدرته من ناشر صغير متحمس في المغرب بعنوان «الإسلام لابني - حوارات مع نصر حامد أبو زيد».

استقر أبو زيد في لايدن. حصل علي أكثر من تكريم أكاديمي مرموق، لكن قلبه كان في مصر، يحن إليها، برغم سخريتي الخفيفة من «حالته العاطفية الفلاحية» كما أطلقت عليه أنا .. فقد كان هذا المفكر المرموق المثير للجدل فلاحا مصريا في أعماقه، مرتبطاً بأهله وبلده في ضواحي طنطا، وبأسرته التي تسلم مسئوليتها وهو لا يزال يافعا بعد وفاة والده.

لم يلتحق أبو زيد بتنظيم سياسي أو ديني. فهو مثل معظم المصريين كان قد فقد ثقته في التنظيمات القائمة، لكنه التزم أكاديميا وإنسانيا بحقوق الإنسان المتنوعة، دينية واثنية وعبر عن هذا أكثر من مرة في أكثر من مجال. بل إن تكريما خاصا له من جامعة لايدن كان قد حظي به وهو تقديم كرسي أستاذية «حقوق الإنسان» له في احتفال كبير.

كان يذكرني - وقد قلت له ذلك - بسنوحي المصري وقصته التي سجلتها البرديات ثم كتبها الفنلندي «ميكا والتاري» بعنوان «المصري».

فقد أخطأ سنوحي هذا وغضب عليه الفرعون ، فهرب ( أو نفاه لا أذكر ) إلي سيناء. يقول سنوحي في شكواه وابتهالاته إنه جعل باب خيمته باتجاه النيل، حتي يتسني له كل صباح وكل مساء أن يذكر الإله حابي وأن يتذكر أرض الحنطة.

وهكذا بقي سنوحي سنوات قابعاً علي باب خيمته حتي تذكره الفرعون وأمر بعودته سالما.

وهكذا بقي أبو زيد في هولندا، في ضاحية هادئة من ضواحي مدينة لايدن، يكتب ويفكر ويتأمل، منتظرا وقت العودة إلي مصر التي قال إن أكثر ما يفتقده في هجرته الاضطرارية هذه هو طلبته الجامعيون في مصر.

قبيل وفاته بسنوات قلائل استطاع أن يعود إلي مصر بدون ملاحقات قضائية. استطاع أن يلقي بمحاضرات في مكتبة الإسكندرية.

وقبيل وفاته بشهور، منعته السلطات في الكويت من دخولها وهو في مطار الكويت بعد اعتراض نواب برلمانيين متعصبين علي قدومه الكويت تلبية لدعوة بعض مثقفيها لإلقاء محاضرات هناك . تم ترحيله من المطار رغم حصوله مقدما علي تأشيرة دخول.

في السنوات الأخيرة لم نلتق إلا لماما لانشغالنا بأمور دنيانا. كنت أتابع أخباره كلما سنحت لي الفرصة.

هكذا عاش أبو زيد ومات. عاش يدافع عمَّا يعتقد أنه الصحيح من أفكار ومعتقدات دينية أكاديمية .. ومات في مصر ، وتدفنه أسرته في مقبرة الأسرة في قريته الفلاحية ..

رجع سنوحي إلي مصر مرة أخري

رؤوف مسعد - الدستور

No comments: