لا تعرف حينما تشرع فى الكتابة عنه من أين تبدأ. من حياته التى عاشها مخلصاً للفن وعاشقاً للنساء؟ أم من تأثيره فى تكوين المسرح الحديث فى مصر بكل ما تعنيه الكلمة؟ أم من تصريف القدر الذى جعل من سنوات عمره قصة أشبه بالحكايات التى لا تنتهى مفاجآتها حتى بعد رحيله بسنوات وكأنه أسطورة لا تنتهى؟ رغم أن لحظة النهاية فى حياته قد سُجلت فى دفتر التاريخ فى الثامن من يونيو عام ١٩٤٩ بإحدى حجرات المستشفى اليونانى بالقاهرة بسبب حمى تيفودية، كما يقول سجل الوفيات لذلك العام.
حديثنا عن نجيب الريحانى عملاق الكوميديا المصرية الذى أراد أن يحترف الميلودراما فأبى الفن، وساقه فى طريق الكوميديا التى صار عنواناً لها حيث لا تُذكر إلا واسمه مقترن بها، ولا تأتى سيرته إلا وتحدثوا عن تأثيره فيها.
وحديث «المصرى اليوم» عن نجيب الريحانى الآن يقترن بثلاثة أسباب، أولها اقتراب موعد ذكرى رحيله الـ٦١ التى توافق اليوم، وثانيها رعايتنا مع مكتبة الإسكندرية معرضاً فى الفترة من ٢-٥ يونيو تعرض فيه أفلامه وصوره وتقام فيه الندوات الفنية التى تناقش دوره، وثالثها - وهو الأكثر جدلاً - لقاؤنا بابنته جينا التى مثل ظهورها فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى منذ نحو ثلاثة أعوام مفاجأة ذكّرت البعض بحياة هذا الرجل، ودفعت آخرين لتكذيبها ونفى قصة أن يكون لنجيب الريحانى أبناء من الأساس. ولكن من يتحدث مع جينا-٧٣ عاماً- يدرك أن لديها الكثير عنه وعنها.
الريحانى يخرج من أزمات الفشل بزواج بديعة مصابنى والسفر لأمريكا اللاتينية
يتواصل حكى الريحانى عن علاقته بالمسرح وبديع خيرى الذى تألق معه وزاد راتبه من ١٦ إلى ٣٠ جنيهاً فى الشهر، بعد نجاح رواية «على كيفك» التى أعدها نجيب وكتب أزجالها بديع خيرى ولحنها كاميل شامبير، بشكل جعل الناس تردد أغنياتها ويستمر عرضها شهرين متتاليين فى وقت كانت الفرق المسرحية تقدم رواية جديدة كل أسبوع.
نتوقف هنا قليلاً ونقول إننا عثرنا فى سبيل بحثنا فى تاريخ ذلك المبدع عن فنان تشكيلى عشق الريحانى وما قدم رغم أنه لم يلقه، ولكنه بحث عنه عند صديقه بديع خيرى ليقضى معه ٣ سنوات يسمع منه ويترجم ما يسمع للوحات تعبر عن نجيب فى حالات عدة، ليبلغ ما رسمه ٩١ لوحة من الميلاد للممات كما يقولون. هو الفنان التشكيلى حمدى الكيال، الذى صاحب وسمع من بديع منذ عام ١٩٦١ وحتى عام ١٩٦٤ حينما أقام معرضه الذى حضره عدد من أعضاء فرقة الريحانى وقتها، وفى مقدمتهم مارى منيب.
يحكى الكيال عن علاقة الريحانى ببديع قائلاً: «كان بديع عاشقاً للريحانى وسيرته وقال لى الكثير عن علاقتهما التى بدأت عام ١٩١٨ واستمرت حتى وفاة الريحانى عام ١٩٤٩، قال لى إن الريحانى كان إنساناً بكل ما تعنيه الكلمة، فكان يقف فى كواليس المسرح بعد انتهاء مشهده يشجع الممثلين لكى يجودوا الأداء، كما لم يكن يرد أى فنان يطرق بابه وقد اكتشف الكثيرين وفتح لهم باب النجومية ومن بينهم تحية كاريوكا التى قالت لى بنفسها إن الريحانى صاحب أفضال كثيرة عليها، وإنه من منحها البطولة فى فيلم (لعبة الست)، ومن بين ما قاله إنه رأى ذات يوم أحد الكومبارس يرتدى حذاء مقطوعاً، فناداه بعيداً عن الفرقة وسأله فيما بينهما عن مقاس قدمه، وذهب واشترى له حذاء، وعند عودته رآه بديع خيرى وهو يعطى الرجل الحذاء.
وكم من مرة حكى لى فيها بديع خيرى عن إخلاص الريحانى للمسرح والفن حتى إنه كان يشبه نفسه بالعابد فى المحراب، ولم يكن يفكر فى المال أبداً بل كثيراً ما أنفق من جيبه الخاص على المسرح. كما كان نزيهاً حتى إنهم دُعوا لعرض مسرحى لدى أحد الأثرياء المرموقين، وفى نهاية الحفل اصطحبهم الخدم لتناول الطعام، ولكن عندما دخلوا الغرفة وجدوا أن ما على المائدة بقايا طعام، فنظر نجيب لزملائه وقال للخدم لقد تناولنا طعامنا شكراً لكم. هكذا كانت نظرة بديع لنجيب الريحانى».
نعود لهذا المتفانى فى عشق المسرح الذى كان يبحث دوماً عن التجويد فيقرر ضم الأديب حسين شفيق المصرى للفرقة لاستنباط موضوعات جديدة تنال رضا الجمهور، فيقدم معه رواية «سنة ١٩١٨/١٩٢٠» هكذا كان اسم المسرحية الجديدة التى نجحت هى الأخرى وبات ما يقدمه نجيب الريحانى من مسرحيات هو المفضل لدى رواد المسرح، وهو ما اضطر فرقة مثل فرقة جورج أبيض لتقديم أعمال كالتى يقدمها نجيب ولكنها لم تلق نفس النجاح ولكن شاع بين الناس أغنيات ذات ألحان بديعة كانت تُغنى فى مسرح جورج أبيض، وعندما سأل نجيب عن سر تلك الألحان عرف أن صاحبها هو موسيقار سكندرى شاب اسمه سيد درويش، فذهب له واتفق معه على أن يعمل فى فرقته مقابل ٤٠ جنيهاً فى الشهر وقد كان يتقاضى فى فرقة جورج أبيض ١٨ جنيهاً. وكان أول أعماله مع الريحانى مسرحية «ولو» التى كتب أزجالها بديع خيرى.
ومع ما حظى به نجيب الريحانى من تقدير الطبقة المثقفة سياسيا وفكريا فى مصر، وفى مقدمتهم الزعيم سعد زغلول الذى كان يحرص على متابعة أعماله وسط جمهور مسرحه، قرر نجيب أن يسخر المسرح للنهوض بأمة كانت تعانى غشاوة الاحتلال وفجاجته، كما كانت تعانى عيوبا اجتماعية غير خافية على عين خبير. يقول الريحانى: «رحت أنقب عن العيوب الشعبية والعلل الاجتماعية التى تنتاب البلاد ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب عن علاج ناجع لمثل هذه الأدواء، فتضاعف الخصوم والحساد واختلفت أسلحة كل منهم فى حربى».
لا يفل الحديد إلا الحديد، مثل ينطبق على الريحانى الذى فوجئ بتكاثر عدد البلطجية فى مسرحه بشكل بات يهدد النظام ويمنع عرض الروايات، للحد الذى كاد فيه أن يقتل بطلقة رصاص طائشة، فلم يجد حلا سوى محاربة الداء بالداء. يقول: «بحثت عن رئيس تلك العصابات وعلمت أنه يوسف شهدى فجئت به وعرضت عليه العمل بماهية يتقاضاها وأفهمته أن وظيفته هى حفظ نظام الصالة، ولقد أفلحت خطتى هذه فوقفت المشاغبات».
نسى الريحانى أيام الفقر ولياليه وبات الغناء رفيقا له بعدما نجحت رواية «ولو» واستمر عرضها ٣ شهور، وتلاها بمسرحية «إش» التى كانت كسابقتها حتى بات ينسى أين يضع أمواله. وهو ما يحكى عنه قائلاً: «كانت وفرة المال فى يدى تنسينى المواضع التى أحفظ فيها النقود، من ذلك أننى وضعت يوماً فى (قمطر) وأرجو أن يسامحنى القراء فى استعمال هذا اللفظ لأننى لم أسمع به إلا من صديق لى قال إن المجمع اللغوى وضعه بدلاً من كلمة دولاب، فأردت أن أنتهز الفرصة لأتفلسف على القراء، نهايته وضعت يوماً فى قمطر التواليت ٣٠٠ جنيه ثم نسيت هذا المبلغ بعد ذلك ولم أعره أهمية لأن الخير كثير. وبعد ٢٠ يوم كانت لوسى (حبيبته وأم ابنته جينا) تنظف أدراج القمطر، يا سلام أنا داخلة مزاجى كلمة القمطر دى بشكل، نهايته عثرت على الفلوس وسلمتها لى بعد أن فركت أذنى بأصابعها الجميلة وهى تقول: (خلّى بالك من فلوسك يا نجيب أحسن ييجى يوم تحتاج لها) كانت نصيحة ثمينة من لوسى ولكننى لم أعمل بها».
لم يكن الريحانى مسرفاً فى المال وحسب ولكن فى الوطنية أيضاً حتى إنه خرج بأفراد فرقته فى مظاهرات سنة ١٩ يهتف ضد الإنجليز هو وفرقته وينشدون فى المظاهرة نشيد الكشافة. ورغم ذلك نجح خصومه فى إقناع الجماهير بأنه دسيسة إنجليزية وأنه وسيلة الاحتلال فى تغييب العقول المصرية عبر مسرحياته التى يلتف الناس حولها، حتى إن الناس هاجمت منزله فى ذات ليلة ولكنه كان قد غادره مع لوسى إلى أحد الفنادق هرباً من الغوغاء. وصبر حتى استقرت الأمور وعاد العمل فى المسارح فعرض مسرحية «قولوا له»، التى كانت سلطات الاحتلال قد صادرتها. يقول الريحانى عن نجاح هذا العرض: «ظهرت الرواية على أثر المظاهرات التى اشتركت فيها جميع الطبقات، وراعينا أن ندخل فى صلبها ألحاناً وطنية على ألسنة كل طائفة من الطوائف التى قامت بهذه المظاهرات بحيث لم ندع واحدة منها إلا أرضيناها بما كان يلقيه الممثلون، وناهيك بأزجال يضعها بديع ويلحنها سيد درويش».
كان يحلو لنجيب الريحانى بين وقت وآخر حسب مذكراته أن يحاسب نفسه ليرى قيمة ما قدمه لفنه وأوصله لعنان الشهرة، وهو ما يقول عنه: «كنت أجد أعمالى كلها من الناحية الفنية صفراً على الشمال وليس لها قيمة إلا ما فعلت فى الأفئدة من إشعال جذوة الوطنية بين الجماهير».
ولذا فكر نجيب فى تقديم نوع من الفن يرضى به نفسه ويفيد به جمهوره ولكنه خاف عاقبة ذلك، فى أن يؤثر فى الإقبال عليه، ولكن عاشق الروح والفن لا يفتأ يحاول مهما بذل الغالى، اسمعوا منه ماذا فعل: «نظرت حولى فألفيت الأستاذ عزيز عيد خاليا من العمل بعد فشل مشروعه فى كازينو دى بارى، فاستدعيته وطلبت منه تكوين فرقة تضم كبار الممثلين وأجرت لها مسرح كازينو دى بارى بالذات وكانت قيمة الإيجار ٢٠٠٠ جنيه فى السنة، وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبتنى اسمها (اللحية الزرقاء) فاتفقت مع الكاتب محمد تيمور على تمصيرها، ثم عهدت لبديع خيرى فى وضع أزجالها، وإلى المرحوم الشيخ سيد درويش فى أن يلحن هذه الأزجال».
أتعلمون ما أثمرت عنه تلك الخلطة الفنية؟ «العشرة الطيبة» التى ظل أبطالها روزاليوسف وعزيز عيد واستيفان روستى وزكى مراد يؤدون بروفاتها لمدة ٤ أشهر كاملة، كان نجيب الريحانى يدفع فيها رواتبهم، حتى إن مجموع ما أنفقه عليها حتى ليلة رفع الستار بلغ ٣٠٠٠ جنيه، لتكون أول عهد الأوبرا كوميك والأوبريت فى مصر، ودار مضمونها حول استبداد الأتراك ونقد الإنجليز المعارضين لنهضة مصر واستقلالها. نجحت الرواية فى جذب الجماهير كما نجحت فى تأليب أعداء نجيب عليه واستغلوا يومها فكرة الرواية وباتوا يشيعون بين الناس أنه يهاجم الأتراك ليحبب الإنجليز لقلوب المصريين، لدرجة أن أحد مشاهدى الرواية وقف فى منتصف ليلة من ليالى العرض داعيا بالثبور على ذلك النجيب الريحانى دسيسة الإنجليز، وهو ما دعا الريحانى لدعوة أحد أقطاب الوفد لرؤية الرواية والحكم فيها، فحضر مرقص حنا وزوجته وابنته التى كانت زوجة مكرم عبيد، وشاهدوا الرواية واقتنعوا ببطلان الدعاوى ضد الريحانى وهو ما عبر عنه المسؤول الوفدى فى الصحف.
يعود الريحانى فى مذكراته لسرد واقعة تشبه ما يظهر فى أفلامه من مفارقات، يقول: «وفد إلى مصر فى العام ١٩٢٠ الممثل الفرنسى الكبير (جان كوكلان) وكانت الصداقة قد ربطت بينى وبينه بشده فدعانى لمشاهدة إحدى رواياته فى حفلة ماتينيه بتياترو (برنتانيا) ولبيت دعوته وكان إعجابى شديدا بالرواية بحيث كنت من أكثر المتفرجين تصفيقاً» وهنا التفت إلى الشخص الجالس فى المقعد المجاور لى ولم يكن بالطبع يعرف من أنا وقال ما نصه: أيوه كده، أهو دا التمثيل الصحيح مش الراجل كشكش اللى بيضحك على عقلنا بكلامه الفارغ، تماشيت معه فى الحديث فوصفت كشكش بك بأنه دجال لا أقل ولا أكثر، وتبحبح الرجل معى بحبحة فضفض فيها بكل ما يأكل قلبه من حقد، وأنا أنصت إليه بكل انتباه، ويظهر أن الشك داخل الرجل أخيراً فسألنى عن شخصيتى وتطميناً له أجبته بأننى وإن أكن شقيق الريحانى إلا أننى لا أقر خطته فى المسرح ولا أوافق على النوع الذى يعرضه أخى الدجال، معلوم».
بعد اليسر قد يأتى بعض العسر، هذا ما حدث مع الريحانى الذى كان قد اشترى قدرا هائلا من العملات الأجنبية التى انهارت أسعارها فخسر فيها مبلغاً كبيراً أثر على حماسته الفنية، ليس هذا فحسب بل إن الطامة الكبرى جاءت من زميليه عزيز عيد وسيد درويش اللذين تغير شعورهما نحوه وباتا يرددان أنهما الأحق بما يحصل عليه الريحانى من إيراد من فرقة الكازينو لأنه ليس ممثلاً فيها، فما كان منه إلا أن فعل ما يحكى عنه بالقول: «صارحتهما بأننى رجل لا أحب العمل إلا فى وضح النهار، وعرفتهما ما علمت به وأتبعته بأننى على تمام الاستعداد لنفض يدى من المشروع وتركه لهما بخيره وشره فعليهما أن يذهبا بالفرقة حيث شاءا وأن يكفيانى مؤونة النظر فى أمرها» وهو ما كان.
إلا أن الريحانى المنغمس فى الفن تجذبه أخبار ريا وسكينة قاتلتى النساء فى الإسكندرية، فيقرر تقديمها وإخراجها على مسرح برنتانيا كعمل تراجيدى، ففاق نجاحها كل التوقعات ومثل فيها دور سفاح قاتل اسمه مرزوق، يقول مبدعنا عن تلك الرواية: «كنت أسمع بأذنى النحيب والبكاء صادرين من الناس، وكم سمعت البعض ينادون بالصوت العالى: «بزيادة بقى قتلتونا يا ناس».
إلا أن حالة من الملل أصابته، وبحثا عن تجديد قصده، قام الريحانى وفرقته بعمل رحلة لسوريا، كانت البداية فى بيروت، التى لم تكن موفقة والسبب هو كشكش بك النسخة اللبنانى، التى جعلت من نجيب الريحانى نسخة مقلدة. تظنون أن ما أحكى عنه لوغاريتمات، يشرحها الريحانى بقوله فى مذكراته: «علة ذلك يا سادة أن الأستاذ أمين عطا الله، وقد كان ممثلاً فى فرقتى قبل سنوات، قام بنسخ جميع رواياتى وألف فرقة من مواطنيه فى سوريا، وعرض بضاعتنا كلها ولم ينس أن يغتصب كذلك اسم «كشكش بك»، وأحب أن أنصفه، فأقول إنه لم يأخذ الاسم على علاته، بل تصرف فيه من حيث الشكل فضم الكافين فى بيروت وفتحهما فى دمشق فى حين أنهما مكسورتان فى مصر. المهم أن الناس اعتبرونى هناك مقلداً لكشكش بك الأصلى، الذى هو أمين عطا الله، وقد كنت أسمع بأذنى بعض الناس هناك يقولون: «هايدا مانه كشكش هايدا تقليد»، فكنت آخذ هذا الوصف فى أجنابى فأقول فى سرى سبحان مغير الكشاكش».
لم يكن الأمر كله سوءاً ففى حفلات بيروت التقى نجيب الريحانى بديعة مصابنى التى كانت وقتها راقصة ذات صيت فى سوريا ولبنان، كما كانت تحفظ الكثير من الألحان الخاصة بمسرحيات الريحانى، نهايته، على حد قول الريحانى، انضمت بديعة بناء على طلب مباشر وصريح منها لفرقة الريحانى، براتب قدره ٤٠ جنيها فى الشهر. آه منك يا أيها الضاحك الباكى ومن ضعفك أمام الجمال.
فى العام ١٩٢٢ كان الريحانى على موعد مع القدر فى حادثتين متتاليتين تركتا فى نفسه الكثير من الحزن، جاءت أولاهما بوفاة والدته وتلتها الثانية باختفاء شقيقه الأصغر توفيق، وكان المحبب لقلبه والأكثر قربا له، وعزاءه الوحيد فى تلك الدنيا. وإذا كان الريحانى لم يذكر شيئا كثيرا فى مذكراته عن تلك الحادثة، إلا أن بديع خيرى حكى عنها للفنان حمدى الكيال قائلاً: «بحث نجيب عن أخيه فى كل مكان دون جدوى، لم يكن طفلاً، ولذا كان اختفاؤه غامضاً، فتشنا فى المستشفيات والأقسام، وانتشرت الشائعات وقتها عن ذلك الأمر، البعض قال إنه أسلم وتصوف وزهد فى الدنيا فقرر الاختفاء، وآخرون قالوا إنه مات دون أن يعثر له أحد على جثمان، ولذا كان حزن الريحانى الذى كان يتذكر توفيق عند أداء كل مشهد حزين، فيبكى بصدق سواء على المسرح أو السينما، ولعل المشهد الأخير فى فيلم (غزل البنات) كان الأكثر تدفقاً فى هذا البكاء».
ما أشقاك أيها الباكى الذى أدمن إضحاك الناس، ولكن الريحانى وجد سلواه فى الفن، فعاد مجدداً يبحث عن الجديد خاصة بعد أن نما لعلمه أن عزيز عيد ويوسف وهبى قررا تأليف فرقة جديدة فى شارع عماد الدين. حدث ذلك فى عام ١٩٢٣ حينما دخل عليه صديقه بديع خيرى، وفى يده رواية «على قد الحال» قال له إنه كتبها هو وشقيق الريحانى الأصغر، وطلب منه قراءتها علها تنال إعجابه.
كانت كعبث المبتدئين على حد تعبيره، لكن بها أساسا يمكن البناء عليه، فاشترك مع بديع فى صياغتها وأطلقا عليها «الليالى الملاح»، وكانت أول عهد بديع فى التأليف الروائى. ولم تكن تلك الرواية مجرد مرحلة جديدة فى حياة نجيب، بل كانت خطوة يراهن فيها على نجاح بديعة مصابنى التى كان يرى فيها مشروع نجمة لا تخطئه عين، رغم أنها فى بروفات تلك الرواية، وكما يقول الريحانى كانت تبكى من الإجهاد إلى حد الصراخ والنحيب دون أن يهتم لها، كان يريد ان يصل بها لمبتغاه، وهو ما تحقق مع عرض الرواية وإقبال الناس عليها، باتت بديعة نجمة يشار لها بالبنان وتأكدت نجوميتها مع نجيب فى الرواية التالية «الشاطر حسن» وترسخ فى رواية «أيام العز».
يتوقف الريحانى عن السرد فى مذكراته متعرضاً لبعض الأوقات الحالكة التى سلبته مسرح الخواجة كينجس إلا فى أوقات لا يعمل عليه فرق أجنبية، وحجز البنك على سندات له بقيمة ٣٠٠٠ جنيه لادعاء أحدهم بدين له عند الريحانى، وثالثها رفض البوح بها واكتفى بالإشارة لها فى المذكرات بالقول: «كانت ثالثة الأثافى، ولا مانع من الاعتراف بأننى أستعمل هذا الاصطلاح غصبا عن صديقى بديع خيرى، الذى يدعى أنه لا يوجد فى الدنيا معنى لتلك الكلمة، إننى صدمت صدمة نفسانية قاصمة ضعضعت حواسى وأسلمتنى إلى اضطرابات عصبية قاسية كنت فى أثنائها فى حاجة لمن يواسينى ولكن أين لى أن أجده».
مسكين أنت يا فنان ففى تلك الفترة تكالبت عليه الأيام، كان مسرح رمسيس لعزيز عيد ويوسف وهبى يتألق كل يوم، وبدأ الناس ينفضون من المسارح الكوميدية، وصدم نجيب الريحانى فى أصدقاء ظن أنهم ثروته فى الدنيا فتركوه دون حتى سؤال، وقتها لم يجد بداً من الزواج بملكة الليل، بديعة مصابنى، خاصة أنه فكر فى الخروج فى رحلة فنية لأمريكا اللاتينية واشترطت عليه «مصابنى» أن يتزوجها قبل السفر، فكان، وكان السفر على متن السفينة «غريبالدى»، التى يصفها الريحانى بخفة ظله بأنها كانت تشبه الريشة فى مهب الريح، وقطعت مسافة الرحلة التى لا تزيد على أسبوع واحد، فى ٢٥ يوماً.
ما هذا الغُلب يا ربى. فتنقل الريحانى وصحبته فى أمريكا اللاتينية بادئاً من مدينة سانتوس ثم سان باولو، التى وجد بها شاباً سوريا يدعى «جورج استاتى»، اكتشف نجيب أن زوج خالته هو أمين عطا لله، وعرف أن هذا الجورج يطلق على نفسه «كشكش البرازيلى» كما كان يفعل زوج خالته فى لبنان!
وقد نجح الريحانى فى تقديم عدد من العروض التى نالت استحسان السوريين فى البلدة والبرازيليين أيضاً، انتقل بعدها لريو دى جانيرو ومنها لبقية دول أمريكا اللاتينية، وكان النجاح حليفاً للريحانى بشكل فاق توقعه. وبعد انقضاء عام بأكمله كانت العودة لمصر.
عاد نجيب لمصر فوجد فى انتظاره مؤلف مسرحياته القديم أمين صدقى، وكان قد اختلف مع على الكسار الذى تعاقد فى غياب الريحانى مع بديع خيرى. فعاد نجيب الريحانى للعمل مع صدقى، وقدما مسرحيات «قنصل الوز»، «مراتى فى الجهادية» كانت بطلة أعماله كلها بديعة مصابنى التى كانت تزداد تألقاً يوما بعد يوم، ورغم حب نجيب لها فإن الخلاف دب بينهما.
وهو ما يحكى عنه الفنان حمدى الكيال، نقلا عن بديع خيرى، قائلا: «كانت بديعة شديدة الغيرة على الفنان نجيب الريحانى، وكانت تتهمه بأمور لم تكن فيه ومن بينها الإهمال، والسبب أنه كان يلعب البلياردو ويدخن السجائر، وهو ما اعتبرته مرفوضاً، فى ذات الوقت كانت بديعة امرأة فاتنة يعشقها الرجال تحب ذاتها لأقصى الحدود، فاستأجرت صالة خاصة بها فى عماد الدين، وتركت نجيب وانفصلا بغير طلاق».
نشوى الحوفى- Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment