كم كان رائعاً الكاتب والباحث المصري نصر حامد أبو زيد في مقابلته الأخيرة مع قناة الحرة. لم نكن أمام كاتب وباحث وناقد إسلامي، وإنما في آن أمام مفكر ديموقراطي وعلماني عميق. الحرية بالنسبة له ليست حجراً للزاوية فقط على مستوى المجتمع والسياسة والدولة، إنما على مستوى الانتماء الديني وتعدد خيارات الإيمان. وبرنامجه السياسي كفرد يتمحور على مسائل الديموقراطية والمواطنة وضرورة فصل الدين عن الدولة.
فعن الأنتماء واختيار الفرد لدينه، أو تركه له واختياره ديناً أومعتقداً آخر؛ فيرى نصر أن الفرد حر فيما يعتقد، وهو لا يرى أن الدين سجن يغلق ابوابه على معتنقيه؛ وأن رجال الدين سجانون وجلادون لمرء يريد أن يختار دينه. وهنا لا يستشهد فقط بآية:" لا إكراه في الدين..."، وإنما ربط هذه الحرية بحقوق الإنسان والدولة المدنية الحديثة والمواطنة. وحول ما يسمى بالردة وقتل المرتد، فهو لايرى في النصوص أن هنالك عقاباً دنيوياً للذي يترك دينه إلى اعتقاد آخر، وإنما النصوص تتكلم على عقاب آخروي كما جاء في الآية الكريمة " من شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً...". وهو يرى أن العقاب الدنيوي قد كرسه الفقهاء وأن مفهوم الردة في عهد أبي بكر لم يكن يعبر عن ردة دينية بقدر ما كان يعبر عن ردة سياسية وتمرداً على الدولة. و يرى أن مفهوم الردة تجلى حديثاً في الأحزاب العقائدية (التكفير والتحريف). ولقد سمعنا في القرن العشرين في عالم اليسار عن الكثير من (المرتدين والمحرفين) مثل تروتسكي وكاوتسكي وبرنشتاين وروزا لوكسمبورغ وألكسندرا كولونتاي وبوخارين وغرامشي ولوكاش ولوفيفر وكاريو...).
وعن العلمانية، فهو يرى أن الدولة الحديثة هي لكل المواطنين وليست لجماعة دينية محددة سواءً كانت أكثرية أو أقلية، وعرج هنا على الاحتقان الطائفي في مصر؛ فربط هذا الوضع بالتواطؤ/ والتنافس القائمان بين الأنظمة السياسية والمؤسسات الدينية . فهو يركز على أن الأنظمة العربية غير الديموقراطية تسابق المؤسسات والأحزاب الدينية على رفع الشعار الديني لكسب بعض الشرعية، وفي الوقت ذاته تحاول استخدام الدين كفزاعة في الداخل والخارج. وبالنسبة للعلمانية لا يعتبرها عدوة ونافية للدين. ولذلك فهو لا يرى فصلاً بين المجتمع والدين أو الأديان، وإنما يرى ضرورة الفصل بين الدين والدولة لأن الدولة الحديثة برأيه هي لكل المواطنين على مختلف أديانهم. ولذلك هو لايرى أن يكون للدولة دين رسمي مكتوب في الدستور.
وحول الله ، يفرق نصر حامد أبوزيد بين المفهوم الديني لله والمفهوم الصوفي أو المفهوم الفلسفي، وقد تكلم عن نمو ظاهرة التدين الشخصي وعدم الانتماء لدين محدد(تلاشي تدريجي لظاهرة الكنيسة). وقد كان الصوفيون وعلى رأسهم حسين منصور الحلاج ومحي الدين بن عربي يعتبرون أن الدين واحد، ولكن العقائد مختلفة. ولقد تواجدت هذه الظاهرة في عشرينات القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي، و تجلت بجماعة مكسيم غوركي ولوناتشارسكي (الباحثون عن الله). ويقول الياس مرقص في هذا الإطار إن مفهوم الله ضروري حتى لا يستطلق النسبي ويتحول إلى إله. ولماذا لا يحق لنا ان نتساءل ماذا كان يقصد مكسيم غوركي حينما وضع عنواناً لأحد كتبه (أين الله)؟ فهل يا ترى كان قد بدأ يلحظ تقلص المسافة بين الله والديكتاتور.
كل كلام نصر حامد أبوزيد كان يوحي بأن حالات التدين والإيمان ليست متساوية في قوتها وتفاصيلها لدى الناس، وإنما كما كان يرى انطون تشيخوف: بين الله موجود والله غير موجود هناك حالات متعددة جداً من الإيمان.
أما فيما يتعلق بالمرأة فيرى نصر حامد أبو زيد أن روح الإسلام ليس ضد تساويها بالرجل، وإنما الفقه هو المسؤول عن وضعها الراهن في البلدان الإسلامية، وفي رأيه أن التشريع الوارد في النصوص ، فقد آن الأوان لأن يتأقلم مع الواقع الذي نعيش فيه.
وفي النهاية إذا كان الباحث والكاتب اللبناني علي حرب، يرى أن نصر حامد أبو زيد ناقد إسلامي من أهل البيت(على نظرية أهل مكة أدرى بشعابها)، فإني أراه ناقداً من أهل البيت ومن خارجه، و هو صار يحتل ركناً اساسياً بين الديموقراطيين والعلمانيين العرب. ولماذا نستغرب فالفيلسوف جورج هيجل صاحب الجدل والديالكتيك منحدر من كرسي اللاهوت في الجامعة.
ما كان يثير الاهتمام في هذه الأمسية التلفزيزنية، أحد المتداخلين وهو شيخ شاب معمم (أحمد الطيار) من دار الفتوى في بيروت، إذ كان يتكلم بحماس عن فكر أبي زيد. وفي نهاية الأمسية ربط نصر حامد التغيير في العالم العربي بفتح الشبابيك....
نقولا الزهر
nghsns@yahoo.fr
الحوار المتمدن
دمشق في 20/6/2010
No comments:
Post a Comment