عندما تقرأ مذكرات نجيب الريحانى التى كتبها بيده ونشرتها مجلة «الاثنين» عام ١٩٣٧ للمرة الأولى، تدرك أنه لا خلاف بين «الريحانى» على الشاشة و«الريحانى» فى الحياة، بخلاف فروق لا يعلمها إلا من عايشوه.. «الريحانى» يكتب مازجاً فى كلماته بين الجدية والسخرية حتى من ذاته وأقداره التى غلب عليها البؤس فى كثير من سنوات عمره ومن تصريف الأمور التى صعدت به إلى عنان السماء فى بعض الأحيان، وسرعان ما هبطت به إلى قاع الأرض.
ينتزع منك الضحكات وهو يروى مسيرة أيامه غير خجل من أخطاء ارتكبها، ولا من وضع آل إليه. إلا أن ما يسيطر عليها - حياته - منذ بدايتها لنهايتها هو عشقه الطاغى للتمثيل الذى غلب عليه كيانه، وحبه الدائم المتواصل للنساء، رغم تركز تأثيرهن فى ثلاث نساء هن: «لوسى دى فرناى»،
صديقته وشريكة حياته وأم ابنته «جينا»، و«بديعة مصابنى» زوجته الأولى التى تزوجها عام ١٩٢٤، و«جوزفين بيكر» المطربة السمراء ذات الأصول الأمريكية، التى جاءت إلى مصر فى العام ١٩١٨، ومثلت معه عدداً من المسرحيات بالفرنسية وأحبها. لتدرك ألا شىء كان يعوق الريحانى عملاق الكوميديا عن التمثيل أو العشق، يتحدث عنهما من دون مواربة.
يقول فى مقدمة المذكرات، التى أعاد تقديمها الدكتور محمد كامل القليوبى، فى كتاب صدر بمناسبة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى العام ٢٠٠٧: «قبل أن أسمح لنفسى بنشر مذكراتى فكرت فى الأمر كثيرا لا لشىء إلا لأننى خلقت صريحا لا أخشى اللوم فى الحق ولا أميل إلى المواربة والمداراة. فهل يا ترى أظل فيما أكتب متحلياً بهذه الخليقة؟ أم يدفعنى ما درج الناس عليه من مجاملة إلى عدم المواجهة والتهرب؟».
إلا أن تلك الحيرة فيما يبوح به وما يحجبه، سرعان ما تحسمها طبيعة الريحانى المتدفقة، حتى إنه يحكى كل ما مر به مهما كانت صادمة للقارئ: «آليت على نفسى أن أقول الواقع مهما حاقت بى مرارته وأسجل الحقائق مهما كان فيها من ألم ينالنى قبل أن ينال غيرى ممن جمعتنى بهم آية جامعة وربطتنى بهم أقل رابطة».
هكذا نبدأ المذكرات كما رواها عملاق الكوميديا. وعلى الرغم من أنه لم يحدد فيها سنة ميلاد، إلا أن شهادة تعميده فى الكنيسة التى تمت فى مايو عام ١٨٩٠، تشير إلى أن عمره كان وقتها عاماً وثلاثة أشهر وهو ما يعنى أنه من مواليد فبراير ١٨٨٩ فى حى باب الشعرية بالقاهرة لأب عراقى مسيحى وأم مصرية مسيحية.
وتعلم فى مدرسة «الفرير» بحى «الخرنفش» ولم يغادرها، كما يقول، إلا بعد أن نال منها «المؤونة» الكافية من تعليم وخبرة. ولحبه وتفوقه فى الآداب التى كان يعشقها جاء له أبوه بشيخ يدعى «بحر» لتزويده بمهارات إلقاء الشعر ونبرات التمثيل. وفى سن الـ١٦ مات والد الريحانى وكان عليه أن يلتحق بأى عمل للإنفاق على أسرته، حيث كان أبوه قرر أن يترك ما جمعه فى الدنيا قبل رحيله لابنة شقيقته اليتيمة.
ولم يكن شقيقه الأكبر توفيق ممن يتحملون المسؤولية، وهكذا التحق الريحانى بالعمل فى البنك الزراعى الذى التقى فيه عزيز عيد، الذى دعم عشق الريحانى للتمثيل وبخاصة التراجيدى دون الكوميدى. كان يمارس التمثيل أثناء ساعات العمل حتى كان يوم دخل عليه المدير فقرر رفته، وكان يخلو لنفسه فى المنزل وهات يا إلقاء وخد يا تمثيل، حتى ضجت أمه وكاد إخوته أن يتركوا البيت، ولكنه لم يكن يضع شيئاً فى باله. وكانت أول رواية مسرحية يشارك فيها بعنوان «الملك يلهو».
ويقطع الريحانى حديثه عن المسرح فى مذكراته ليحكى قصة أول غرام، فيقول: «كنا نجلس فى قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه فى شارع عبدالعزيز، وكان من بين زبائن القهوة الممثل القديم على أفندى يوسف وكان لـ«على» «قطقوطة» من بين الممثلات تحتل أحد أركان قهوة الفن وهى السيدة (ص.ق).
وعندما ذهبت لأشاركهما الحديث ذات يوم كانت نظرة فابتسامة فمش عارف إيه فشبكان وظلت أواصر الصداقة تتواصل بينى وبين فتاة على يوسف بينما تتراخى بينها وبين صديقها دون أن يعلم من أمرنا شيئاً، حتى لعب الفأر فى عبه وقاتل الله الفئران كلها من أجل هذا الذى لعب فى عب أبى يوسف. ولكنه كان على قدر كبير من اللؤم فلم يبد لنا شيئاً مما فى نفسه وعمل على مراقبتنا من حيث لا نشعر.
وقتها كنت صبياً فى السادسة عشرة من عمرى ومع عدم المساس بفضيلة التواضع أرى أنه لا مانع من الاعتراف أن خلقتى لم تكن لتقارن، أستغفر الله العظيم، بخلقة الصديق على يوسف، زد على ذلك أننى كنت موظفاً مضمون الإيراد فى حين كان منافسى يا مولاى كما خلقتنى. ولذا اتفقت مع الغزال النافر على تمضية نهاية الأسبوع فى الإسكندرية، بعيداً عن يوسف ورقابته القاسية.
وبما أن يوم الأحد هو يوم عطلة البنوك فحصل الرضا والاتفاق بينى وبين محبوبتى على أن نغادر القاهرة ظهر السبت ونعود صباح الاثنين، ولكن قبل موعد الخروج من البنك زارنى فى مكتبى على يوسف وألح على فى أن أقرضه شيئا من المال، لأنه دعا عدداً من أصدقائه لنزهة، فأعطيته ما طلب وأنا أحمد الله على زحلقته وأدعو بطول العمر لأصدقائه الذين شغلوه عنى فى هذا الظرف السعيد.
وفى الموعد المحدد قصدت إلى محطة السكة الحديد فوجدت «الكتكوتة» على أحر من الجمر فى انتظارى على رصيف القطار، الذى امتطيناه وقلوبنا ترقص فرحاً وعندما وصلنا الإسكندرية نزلنا نسير وخلفنا الشيال يحمل حقيبتنا المشتركة، وما كدت أسير خطوات متأبطاً ذراع المحبوبة حتى برز أمامى عزرائيل فى ثياب الصديق الملعون على يوسف. وراح يستقبلنا هاشا باشا مرحبا وهو يمد لى يده بالتحية شاكرا إياى على دفع مصاريف السفر لحضرته وحضرتها، بسلامتها الست المصونة والجوهرة المكنونة، الذى استلبها منى وتركانى أعض بنان الندم. وظللت واقفا فى مكانى حتى دنت ساعة القطار العائد إلى مصر فامتطيته وجئت أضرب أخماساً فى أسداس».
لا يقف الأمر مع تلك السيدة (ص.ق) عند تلك الواقعة مع الريحانى الذى يحكى عن واقعة ضمت ثلاثتهم مرة أخرى. يقول: «اتفقت معى الكتكوتة على إشارة معينة، هى أنها إذا وضعت نوراً فى النافذة كان معنى ذلك أن علياً بن أبى يوسف غائب عن البيت، وأن فى وسعى أن أزورها والعكس بالعكس. وفى إحدى الليالى تراءى لى النور فعرفت أن الطريق خال، وأن السنافور مفتوح، فخلعت حذائى وتأبطته ثم صعدت السلم بلا حركة وطرقت الباب طرقا خفيفاً جدا، وإذا الفاتح هو غريمى على يوسف، الذى تناول الحذاء من يدى وتركنى أعدو إلى الشارع ببذلتى حافى القدمين».
بعد تركه للبنك الزراعى لم يجد الريحانى مأوى له سوى قهوة الفن، حتى التقى، بـ«أمين عطا الله»، وكان ممثلاً سوريا جاء لمصر فعرض عليه أن يسافر معه للإسكندرية للتمثيل فى فرقة أخيه سليم عطا الله، التى كانت تحظى بعطف البلدية التى تمنحها إعانة مالية، ليقبل الريحانى العرض مباشرة مقابل راتب شهرى قدره ٤ جنيهات. وكان أول مرتب ذى قيمة يتقاضاه من التمثيل.
ويحكى الريحانى قائلاً: «كانت الفرقة تعتزم تمثيل رواية (شارلمان الأكبر) وكان العرف يقضى أن يُسند دور البطولة إلى مدير الفرقة بينما أسند لى الدور الثانى وهو دور شارلمان نفسه. وتهيأت لى الفرصة التى كنت أرقبها من زمن فى أن يسند لى دور فى إحدى الدرامات،
وفى نهاية الفصل الثالث من الرواية مشهد رائع وحوار بديع بين شارلمان وبطل الرواية. أجهدت نفسى فى أداء المشهد وبذلت قصارى جهدى فكان لى ما ابتغيت إذ حالفنى الحظ بشكل لم أكن أنتظره، حتى لقد أفهمنى الكثيرون أننى طغيت على البطل نفسه.
وحين أسدل ستار هذا الفصل هالنى أن جمهرة من الفضلاء والأدباء وأغلبهم من أصدقاء مدير الفرقة صعدوا إلى المسرح، وقابلوا المدير فى غرفته وطلبوا استدعائى وأجزلوا فى تهنئتى ونصحوا المدير بالاحتفاظ بى، لأننى على حد قولهم سأكون ممثلاً لا يشق له غبار. وفرحت بل ظقطط بعد هذا المديح، الذى انهال على من حيث لا أحتسب. وفى صباح اليوم التالى استدعانى المدير، فقلت يا واد جالك الفرج وظللت أخمن وأحذر مقدار العلاوة التى سيتحفنى بها.
حبكت أزرار جاكتتى ودخلت على مديرى باسما متهللا معللا نفسى بالآمال، قائلاً فى نفسى: (يكفينى أن تكون العلاوة جنيه واحد وخلينى لطيف). وبعد هذا الحوار الظريف الذى دار بينى أنا نجيب الريحانى وبين نفسى التى هى أمارة بالسوء، بادرنى المدير قائلاً: «متأسف جداً يا نجيب أفندى لأن الفرقة استغنت عنك».
يا نهار زى الحبر يا ولاد.. استغنت عنى، وهل يعتبر النجاح جرماً يعاقب عليه الممثل؟ وإذا كان الأمر كذلك فلم لم تصدر لى الأوامر قبل التمثيل حتى كنت ألجأ للسقوط التام والفشل الزؤام؟ نهايته أخدتها من قصيرها وعدت للقاهرة ففى قهوة الفن متسع للجميع ومن فات قديمه تاه».
وكأن عيوب زمانه مثل عيوب زماننا فكم من «مليح» العمل تركه بفضل مهارته وتفوقه، ولكن يبدو أن للتفوق شروطاً أهمها ألا تتعدى فى نجاحك أو تقترب من حدود ولى النعمة، وإلا فذنبك على جنبك مثل عمك نجيب الذى طال جلوسه على مقهى الفن، وحفيت قدماه دون أن يجد عملاً يقتات منه، حتى كانت سنة١٩١٠ حينما عثر على وظيفة فى شركة سكر نجع حمادى ليسارع بالسفر لتسلم العمل، تاركاً وسط التمثيل الذى يعشقه ويتمناه.
اجتهد فى العمل فى النجع حتى نال رضا رؤسائه وإعجابهم ولكن دوام الحال من المحال، وعند صفو الليالى يحدث الكدر. فإن كان قد ترك عشق الفن، فعشق النساء فى شريانه يجرى جريان الدم. يقول نجيب الريحانى فيما خطته يداه: «تتراءى لى تلك الواقعة بعد سبعة أشهر من عملى هناك، فقوضت ما بنيت من المستقبل وحملتنى من حال إلى حال.
قاتل الله الشيطان، واقعة أذكرها من باب التسجيل وإن كان الخجل يكسونى كلما طوح بى الفكر إلى تلك الذكرى البعيدة. كان باشكاتب الشركة رجلاً مسناً اسمه (عم ت) وكان على نياته وكل همه أن يتلو الإنجيل ويستوعب معانيه، وكان مسكنى مواجها لمسكنه فولدت بيننا الجيرة اتصالا وثيقاً.
وكانت السيدة حرم (عم ت) على جانب كبير من الجمال وكانت فى سن تسمح بأن تكون ابنته لا زوجته، وكذلك أنا وإلى هنا تسير المسألة فى مجراها الطبيعى الذى ترسمه طبيعة كل شىء. وفى أحد أيام الشهر السابع من عملى فى نجع حمادى اضطرت الأعمال حضرة الباشكاتب إلى السفر لمصر فى مهمة مصلحية، وإذ ذاك خلا الجو للشباب وحلا له أن يمرح، فحدث أن اتفقنا على ألا تغلق بابها الخارجى حتى أستطيع المرور فى منتصف الليل، وتم الترتيب كما اتفقنا، وذهبت لمخدعها بعد أن تظاهرت أمام الخادمة أنها أقفلت الباب،
ولكن لا أدرى أى شيطان دفع بهذه الخادمة اللعينة إلى القيام بعد ذلك بإحكام إغلاق الباب من الداخل. حان موعد اللقاء فتسللت، وما أشد دهشتى حينما وجدت الباب موصداً دون غرامى وأحلامى، فاستشرت الشيطان فيما أفعل، فدلنى قاتله الله إلى منفذ فى السقف تدليت منه، ولكن الخادمة استيقظت فى نفس اللحظة، وظنتنى لصاً فصرخت بصوتها المنكر وصحا الجيران ووفد الخفراء وألقى القبض على، وكانت فضيحة اكتفوا عقبها بفصلى من عملى فعدت إلى محلى المختار على قهوة الفن بشارع عبدالعزيز».
«أنا مدين بمكانتى وشهرتى ونجاحى لأستاذ عظيم.. هو الفقر» عبارة رددها نجيب الريحانى، ولكن فقر الريحانى لم يكن بالأمر السهل. كان من الممكن أن يمكث بلا طعام لمدة يومين متتاليين خاصة أن والدته أوصدت بابها دونه بعد فصله من شركة السكر، ولكنه كان عزيز النفس، رفض أن يذل نفسه لأحد حتى والدته، فكان يمكث فى قهوة الفن حتى موعد انتهاء العمل بها فى الثانية بعد منتصف الليل،
ثم يغادرها إلى كوبرى قصر النيل متجهاً للجزيرة حتى إذا أعياه التعب، استلقى على الإفريز وتوسد حجرا من أحجار الطريق حتى الصباح. يحكى عن تلك الأيام فيقول: «وإن نسيت فلن أنسى يوماً قمت فيه من النوم وتلفت فإذا تحت وسادتى كنز، كنز ثمين لا يعرف قيمته إلا المفلسون، أتعرفون ما هو، قرش تعريفه. وافرحتاه خمسة مليمات حته واحدة ما هذا الفتوح، وعندها وسعت على نفسى فى الإفطار، وإن شا الله ما حد حوش، فقد أكلت طعاماً دسماً عماده الفول المدمس والسلطة والطعمية والعيش، كمان كانت الدنيا مبحبحة والقرش تعريفة ثروة».
وكأن الزمان أراد أن يرسل له ونيساً فى ليله، حيث كان يتلمس مكانا له فى ظلام إحدى الليالى ليستريح فيه، فتعثرت قدماه بشىء تحسسه، فكان إنساناً، وحين استيقظ عرف أنه صديقه الكاتب محمود صادق سيف!!
نجيب: ما الذى جاء بك هنا يا محمود؟
محمود: هو الذى جاء بك أنت يا نجيب.
نجيب: إذاً كلانا يسكن فندقاً واحداً!
إلا أن تلك الصحبة لم يقتصر أثرها على تزويد الريحانى بالنديم، ولكنها أثمرت عن حصوله على عمل يقتات منه ويسكن بسببه فى غرفة أحد البنسيونات. والحكاية كما يرويها تقول: «جاءنى محمود سيف ذات يوم مبتهجاً وقال اسمع يا نجيب صاحب مكتبة المعارف كلفنى بتعريب أجزاء فرنسية من رواية اسمها «نقولا كارتر» واتفق معى على أن أتناول مقابل ذلك ١٢٠ قرشاً عن كل جزء وستصدر أسبوعيا، وأنت تجيد الفرنسية كما أجيد أنا العربية فهيا نتشارك فى العمل ونقتسم الثمن مناصفة.
وفى الحال نفذنا الفكرة وظللنا نتقاضى الأجر فرحين وكان صاحب دار المعارف يدير فندقا فى أعلى المكتبة فاتفق معنا على استئجار غرفة نظير خمسة قروش فى الليلة وكان يخصمها من الأجر الذى نتقاضاه منه، كانت الغرفة تحتوى على سرير واحد وكنبة مفروشة، وكان السرير موضع نزاع دائم بينى وبين محمود صادق».
كانت فرقة الشيخ أحمد الشامى تقدم المسرحيات المترجمة عن الفرنسية، وكانت تبحث عن معرب وممثل، وكانت الوظيفة من نصيب الريحانى مقابل ٤ جنيهات فى الشهر. كانت الفرقة تجول كل مدن وقرى مصر، من نقطة إلى أخرى تنطلق. وكانوا يستأجرون بيتاً يسع الفرقة كلها إذا ما حلوا بقرية أو مدينة توفيرا للتكاليف. فكان أعضاء الفرقة يصحبون فى ترحلهم مراتب ومخدات وألحفة.
وفى ذات يوم كانت الفرقة فى طنطا وفجأة طرق باب البيت الذى ينزلون فيه، وعندما تم فتحه وجد والدته أمامه. يقول الريحانى: «واكسوفاه كنت أتمنى أن تشق الأرض وتبتلعنى حتى لا ترانى أمى على الحال التى كنت بها، خصوصاً أننى كنت عامل أبو على وطالع فيها ومتظاهر أننى فى غير حاجة لأهلى ما داموا ينكروننى.
إلا أن سبب مجىء والدتى هو أنه وصلنى خطاب على عنوانى بالقاهرة من مصنع السكر فى نجع حمادى يدعوننى فيه للعودة للعمل. كان طلب الشركة عودتى لها سبب دهشة كبيرة لى إلا أنه إذا عرف السبب بطل العجب، فقد حدث بين بعض موظفى الشركة وعم ت خلاف استحكمت حلقاته، ولكنهم لم يتمكنوا منه، ولم يجدوا سببا لفصله من عمله، فهداهم تفكيرهم إلى استعمال الحيلة بأن يعيدونى لعملى بالشركة، فلا يجد غريمى العم ت بداً من هجر الشركة والبلد بمن فيه.
بالطبع لم أتوان عن قبول الوظيفة وجمعت عزالى وهو عبارة عن مخدة ولحاف ومرتبة وكام هدمة، وعدت سريعا للقاهرة ومنها إلى نجع حمادى، حيث استلمت عملى وأنا أقسم جهد أيمانى أننى لن أعود للتمثيل مهما حدث، ومهما كانت الأسباب. فهل بررت بقسمى؟».
ويل لمن تمسك الموهبة بتلابيب روحه وقلبه وإبداعه، فهكذا كان حال نجيب الريحانى الذى حاول التمسك بقسمه على مدى عامين من ١٩١٠-١٩١٢ ادخر فيها ٢٠٠ جنيه ذهبية، وكان هادئا مستريح البال، حتى تلقى خطاباً من عزيز عيد يخبره فيه بأن جورج أبيض عاد من أوروبا وأنشأ فرقة مسرحية، وأن الصحافة بدأت فى الاهتمام بالمسرح، فقرر النزول للقاهرة فى إجازة شهرين ليشاهد تمثيل جورج أبيض، وتوسع فى الإنفاق هنا وهناك، حتى نفد ماله، واقترض ثمن تذكرة القطار لنجع حمادى فى طريق عودته لعمله.
يقول الريحانى: «بعد عودتى ساءت أحوالى وعادت غيَّة التمثيل تراودنى فى الغدو والرواح، وكان لى صديق اسمه دكتور جودة كان صديقا لى فى نجع حمادى كنت أجبره على الإنصات لى تارة أقلد جورج أبيض وتارة عزيز عيد، وكم ضاق بى جودة ذرعاً وتهرب منى حين كنت أجبره على السهر معى،
حتى شاء الله بعد فترة أن يجد الدكتور جودة من يحمل العبء عنه إذ وفد على نجع حمادى المهندس الظريف الأستاذ محمد عبدالقدوس منقولا إلى مدرسة الصنايع هناك. فائتلفنا ائتلافا تاما وتسلينا بكل ما تعنيه الكلمة، وتباحثنا فى فنون الدردحة، ولا أعرف أكنت أتلقى هذه الفنون على يد «كندس» أم كنت ألقنه إياها؟
كان يلقى على «مونولوج»، وأنا أجلس منه فى مقاعد الشعب من الممثل، ثم يأتى دورى فألقى بقطعة تمثيلية يحتل هو أثناء إلقائى لها مكانى بصفته متفرجاً، وهكذا إلى أن يأذن الليل بالرحيل.
ولكن لم يطل بقاء «كندس» فى نجع حمادى بل غادرها منقولا أو مرفوتا لست أدرى. الذى أدريه أنه ترك وحشة وفراغاً لم أكن أتوقعهما».
Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment