لموت في تشريفة الحليف الوطني وقائع اغتيال شهدي عطية الشافعي الموت في تشريفة الحليف الوطني اغتيال شهدي عطية الشافعي -1- « أوردي أبو زعبل» واحد من عدة سجون، تتكون منها منطقة «سجون أبو زعبل» التي تقع علي بعد عدة مئات من الأمتار من بداية الطريق الزراعي الذي يمتد خارجا من أطراف غمرة ثم الزيتون، متجها صوب الخانكة. و«الأوردي» اشتقاق من كلمة «أردو» التركية ، بمعني «الجيش» ، حرفت علي لسان المصريين إلي «العرضي» واستخدمت - في مراجع تاريخ مصر في العصر التركي المملوكي - بمعني «معسكر الجيش»، ولعل المكان ، كان مخصصا للكتيبة التي تحرس السجن ثم ظل باقيا ضمن مصطلحات تركية كثيرة يشيع استخدامها حتي اليوم في السجون المصرية، بعد أن تغير معناه، فأصبح يستخدم بمعني «الملحق». والمنطقة - كمثيلاتها من مناطق السجون - تضم سجنا رئيسيا كبيرا وعدة سجون فرعية، بمستعمراتها السكنية، ومبانيها الإدارية، وملحقاتها من الورش والمرافق، التي «يصنّع» فيها المذنبون المحكوم عليهم بعقوبة السجن مع الشغل ويحيط بها الجبل، الذي ينفذ فيه المحكوم عليهم بالسجن مع الأشغال الشاقة، عقوبة تكسير أحجار البازلت السوداء الصلدة، لكي تستخدم فيما بعد في رصف الطرق داخل المدن وفيما بينها. وتبدأ المنطقة بأبنية صغيرة متفرقة هي الفيلات التي يقيم فيها ضباط سجونها مع أسرهم .. يتلوها مبني الليمان الذي يقع علي بعد عدة مئات من الأمتار منه مبني «الأوردي» بجدرانه الصفراء الشاهقة الارتفاع التي لا يظهر منها من الخارج سوي أربع منصات خشبية، تحتل زواياه الأربع ، ويقف علي كل واحدة منها، حارس مدجج بمدفع رشاش، يتجه بفوهته نحو الفناء الذي تتناثر به ستة عنابر مستطيلة، ليظل المقيمون به من المساجين تحت وطأة الإحساس بأنهم في مرمي النيران من كل اتجاه .. وفي كل لحظة. في الظروف العادية ، يقوم «الأوردي» بوظيفة ملحق الليمان .. إذ كان يخصص لإقامة فريق من المسجونين، يجمع بينهم شكل من أشكال الوحدة، قد تكون وحدة العمل في أحد مرافق السجن، كالمصبنة، أو المغسلة، أو المزرعة.. وقد تكون وحدة الإصابة بمرض من الأمراض المعدية ، كالدرن أو الجرب.. ممن تتطلب الظروف عزلهم في هذا المبني الصغير، لتسهيل الإشراف عليهم، أو لمعاملتهم معاملة خاصة ، تختلف عن معاملة القسم الأكبر من المسجونين الذين يقيمون في الليمان. وكان «الأوردي» معروفا حتي عام 1955، بسجن «كسر الحديد» إذ كان ينقل اليه المسجونون المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، بعد قضاء نصف المدة، حيث يكسر الحديد الذي يغللهم، كجزء من العقوبة وكإجراء احترازي حتي لا يهرب أحدهم من السجن، فيتولي «حداد الأوردي» كسر سلسلتين من الحديد، ثُبّت طرف كل واحدة منهما باسورة حديدية، تحيط بكاحل إحدي القدمين لينتهي عند طرفها الآخر بثقل كروي من الحديد، يتدرج وزنه بحسب مدة «العقوبة» ويكسر - كذلك - سلسلتين من الحديد تمتد كل واحدة منهما من أسورة حديدية ثبتت بكل معصم من معصمي اليدين، إلي طوق حديدي يحيط بخصره، ليكون «كسر الحديد» تلك إشارة إلي أن عقوبة الاشغال الشاقة- التي كانت تشمل كذلك الصعود إلي الجبل لتكسير البازلت- قد انتهت، فينقل السجين للعمل في إحدي ورش السجن العادية.. كورشة الترزية أو السمكرة .. أو الفرن وهي طقوس اختفت جميعها عندما ألغيت عقوبة التقييد بالسلاسل عام 1955 . أما في ذلك الصباح - 15 يونية (حزيران) 1960 - ولثمانية أشهر سابقة، فإن «الأوردي» كان مخصصا لمهمته «المقدسة» التي حفرت اسمه بالسياط والشوم وحتي بالدم علي صفحات التاريخ وهي أن يكون المرحلة الثالثة - والأكثر قسوة ودموية - في عملية تصفية الشيوعيين المصريين، وإجبارهم بالقهر والتعذيب علي التخلي عن أفكارهم، وحل تنظيماتهم، وبذلك تتخلص حركة «القومية العربية» من أعدائها الداخليين، بعد أن تخلصت من أعدائها الخارجيين، وحسمت المعركة مع الاستعمار لصالحها. وعندما فتح السجانون في ذلك الصباح أبواب عنابر «الأوردي» في وقت أكثر تبكيرا من المعتاد ، واقتيد المقيمون فيها - وكانوا حوالي 300 معتقل - إلي طابور التمام الصباحي بأقدامهم الحافية وملابس السجن الممزقة، وملامح الإجهاد التي طالت أجسادهم ووجوههم، لكنها لم تطل أرواحهم، لم يدهشوا حين لاحظوا أن وجبة الضرب والشتائم قد استغرقت وقتا أقل: لم ينزل الشوم علي ظهورهم، وقلت ألفاظ السباب السوقية القذرة التي كانت تطول أباءهم وامهاتهم، وفيهم أساتذة جامعيون، وقادة نقابيون وصحفيون وكتاب وشعراء ومحامون وضباط سابقون في القوات المسلحة والشرطة ورجال قضاء وأطباء ومهندسون وكلهم مناضلون شارك معظمهم في تحدي طغيان النظام الملكي، وتظاهروا ضده، وذاقوا سجونه ومعتقلاته. لم يأمرهم أحد بأن يلفوا حول أنفسهم ورؤوسهم محنية ،ليتيحوا لجلاديهم أن يعذبوهم دون أن يبذلوا مجهودا في البحث عن الأماكن التي يشرفونهم بضربها، وعندما ظهر «اللواء إسماعيل همت» - وكيل مصلحة السجون - في فناء المعتقل مع مأمور الأوردي- الرائد «حسن منير» - أسرع السجانة يدخلونهم إلي العنابر .. ويأمرونهم بالوقوف ووجوههم إلي الحائط .. دون حركة أو كلام . وهكذا اكتملت الشواهد التي كانت قد تجمعت لتؤكد أن هناك فوجا جديدا من المعتقلين في طريقه إلي «الأوردي»، ففي ظهر اليوم السابق استدعت الإدارة عددا من المعتقلين وكلَّفتهم بتمهيد طريق طوله كيلو متر واحد، ليربط بين «الأوردي» وبين الطريق الرئيسي، فيحل محل الطريق الآخر الذي كان قد أغلق لأسباب فنية .. وطلبوا إليهم أن يحددوا- بالجير الأبيض - حدود الطريق ومنحدراته ومنعطفاته، وبينما هم يعملون أقبلت عربة يجرها ثوران، تحمل علي ظهرها العروسة الخشبية الضخمة التي يشد إليها المسجونون لجلدهم، فاستقرت في الساحة التي تقع بين باب السجن من الخارج، وبين الشرفة الأرضية التي تمتد أمام مبني إدارته، واكتشف أحدهم أن سيارة قد أفرغت حمولتها من العصي المصنوعة من جريد النخيل في الساحة، وفي منتصف الليل فتحوا العنابر، وأخلوا عنبر 2 من سكانه ، ووزعوهم علي العنابر الباقية. ولم يكن لذلك كله إلا معني واحد، هو أن فوج المعتقلين القادم سيصل في الليل، لذلك مُهِّد الطريق وحدِّد بالجير الأبيض، أما «العروسة» و«الشوم» و«همت» فكانت شواهد مجربة علي أن تشريفة ضخمة - كالتي أعدت لهم حين افتتحوا الأوردي - في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1959 - قد أعدت أيضا لاستقبال القادمين الجدد. خفقت قلوب الجميع رهبة وخوفا وغضبا كظيما: سيكرر الكلاب مع القادمين طقوس الدخول إلي جنة «الأوردي» ومراسم الانضمام إلي المسلخ، حيث يخير الإنسان بين أمنه ورأيه، وبين كرامته وموقفه، سيتحاور العقل مع العضلات، والفكر مع السياط، ويقف الإنسان داخل كل منهم وحيدا أمام القسوة المجردة، والجلافة البدائية والشر المطلق. سينهال هذا الفريق من ضباط «الأوردي» وجنوده- الذين اختيروا بعناية من أسوأ العاملين في مصلحة السجون ، ممن تمتلئ ملفاتهم بالجزاءات- علي ظهور القادمين وعلي قلوبهم بالسياط فيشفوا نفوسهم المريضة بامتهانهم. ولأن لديهم وجبة جديدة من الضحايا يتلمظون لالتهامها، فإنهم لم يهتموا بالفرائس القديمة، أعادوها للعنابر، لكي تتعذب في وقفتها بالاستماع إلي أصوات الصارخين بالعذاب، وتتابع مراسم التشريفة بآذانها، فتتداخل خلاياها، وتتعذب - بالمتابعة - عذابا أكبر ممن ينهال الشوم علي أجسادهم. ولم يكن التكهن بهوية القادمين صعبا: لقد استنتجوا أنهم «شهدي عطية الشافعي» و 39 من رفاقه من أعضاء «منظمة حدتو» الذين كانوا يحاكمون - علي امتداد الشهور الأربعة السابقة - أمام محكمة عسكرية عليا، رأسها الفريق «هلال عبدالله هلال» وعقدت جلساتها في الإسكندرية ، وانتهت المحاكمة قبل حوالي أسبوعين .. في 2يونية (حزيران) 1960. وكان استنتاجهم صحيحا: غادر «شهدي» ورفاقه «سجن الحضرة» في الإسكندرية عند الفجر، في سيارتين كل منهما علي شكل زنزانة .. تتقدمهما سيارة تضم «العقيد الحلواني» - مأمور سجن الحضرة - والرائد «صلاح طه» - بإدارة العلاقات العامة بمصلحة السجون- وتتلوهما سيارات الحراسة .. وفي السادسة صباحا دخل الموكب منطقة ليمان «أبي زعبل»، وتوقف علي مبعدة عدة مئات من الأمتار من باب «الأوردي»، وظلت أبواب زنزانة السيارتين مغلقة عليهم ، حتي وصل «اللواء إسماعيل همت» - المشرف علي التشريفة - فأمروا بإنزالهم ، وأجلسوهم في صفوف يضم كل منها ثلاثة منهم .. وأمروهم بأن ينظروا إلي الأرض، وألا يرفع أحدهم رأسه إلي أعلي ، حتي لا يري ما يجري حوله. في واحد من هذه الصفوف.. كان «شهدي عطية الشافعي» يجلس بقامته الطويلة وملامح وجهه التي كان قريبة الشبه من ملامح وجه «عبدالناصر»، وإلي جواره زميلاه «نور سليمان» و«سعد عبدالمتعال» ولم يكن أحد منهم يعرف أن «شهدي» يعيش ساعات عمره الأخيرة ، وأنه سيلقي حتفه علي يد «الحكومة الوطنية» التي لم تكن قد مضت سوي أيام قليلة، علي هتافه بحياتها في آخر جلسة من جلسات المحاكمة، عندما وقف ليتكلم - باسم زملائه المتهمين معه في القضية - فطالب بالإفراج عنه وعنهم «ليساهموا في بناء الوطن كجنود مخلصين لحكومتنا الوطنية، ولرئيسنا جمال عبدالناصر»! ... وما قدر كان. 2 في تلك السنة - 1960- كان «شهدي عطية الشافعي» في منتصف العام التاسع والأربعين من عمره، الذي شهد كثيرا من التجارب ، منذ ولادته في 20 يناير 1911 لأسرة فقيرة ، ونشأته بين الفقراء، التي منحته عددا من الصفات النادرة، كان من بينها قدرته غير المعتادة علي اقتحام الآخرين، واجتذابهم إليه، عبر تعاطف حقيقي، وغير مصنوع معهم، يغذيه حس شعبي غلاب، أتاح له دائما، أن يكون قادرا علي اجتذاب الرجال وإدارتهم. وبين أواخر العشرينات، وأوائل الثلاثينات، أمضي «شهدي عطية» سنوات دراسته الثانوية والجامعية ، في مناخ المقاومة الباسلة التي خاضتها القوي الوطنية بقيادة «حزب الوفد المصري» ضد ديكتاتورية «محمد محمود» التي استمرت ستة عشر شهرا - بين 2 يونيو «حزيران» 1928 و 2 أكتوبر «تشرين أول» 1929 - عطل خلالهما دستور 1923، وأوقف اجتماعات مجلسي البرلمان، ثم ضد ديكتاتورية «إسماعيل صدقي» التي استمرت - مع توابعها - خمس سنوات ونصف بين 2 يونيو «حزيران» 1930 حتي 12 ديسمبر «كانون الأول» 1935، ألغي خلالها دستور 1923 واستبدله بدستور 1930، الذي وسع من نطاق سلطة الملك والحكومة، وقلص من سلطات البرلمان في الرقابة والتشريع، وهي مقاومة شهدت اشكالا مبتكرة من النضال، وصلت إلي حدّ استقالة عدد ملحوظ من عمد البلاد ومشايخها، وإلي تهديد ملاك الأراضي بالكف عن دفع الضرائب، وتواصلت علي الرغم من العنف الدموي الذي واجهتها به الحكومة في العهدين الديكتاتوريين وشملت قمع مظاهرات العمال والطلاب وتعطيل عشرات الصحف. ولم يكن النضال ضد الديكتاتورية بعيدا عن القضية المركزية التي كانت تشغل المصريين آنذاك .. وهي قضية الجلاء، أو تحرير مصر من الاحتلال الإنجليزي الذي كان لا يزال قائما منذ عام 1882 . ومع أن ثورة 1919، كانت قد حققت جانبا من أهدافها، فألغيت الحماية البريطانية علي مصر، التي تمتعت بدرجة من الاستقلال الذاتي، أتاح لها أن تقيم حكما برلمانيا دستوريا، وأن تدير علاقتها بالدول الأجنبية بنفسها، إلا أن القوي الوطنية، لم تكف عن السعي لاستكمال الاستقلال ..واستكمال الديمقراطية. وما لبثت القوي الاستعمارية وحلفاؤها في الداخل، أن تنبهت إلي أن الشعب المصري، يستغل ما حصل عليه من حريات ديمقراطية يصونها دستور 1923، في دعم التيار الوطني المتشدد الذي كان يمثله حزب الوفد، وتمكينه من الحصول علي الأغلبية البرلمانية في كل انتخابات ومن ثم تشكيل الحكومة، لتحول هذه الحكومة دون توقيع معاهدة بين البلدين تضفي شرعية علي الاحتلال، مقابل تنازلات شكلية ، فلجأت إلي أسلوب الانقلابات الدستورية، في محاولة منها لإقصاء المتشددين، وإتاحة الفرصة للمعتدلين، لعلهم يوقعون المعاهدة ويسلمون البضاعة. وفي كل مرة، كانت المحاولة تفشل، ويتصدي الشعب بقيادة الوفد، لكن مشروع للمعاهدة توقعه حكومات الانقلابات الدستورية، ويصر علي ألاّ يبدي رأيا فيه إلاّ تحت القبة، وعبر ممثلين حقيقيين للشعب، يختارهم في انتخابات حرَّة نزيهة. كان «شهدي عطية» أحد أفراد هذا الجيل من طلاب الجامعات، الذي صوره «نجيب محفوظ» في روايته «القاهرة الجديدة» إذ كان كلاهما طالبا في قسم الاجتماع والفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول «القاهرة الآن» خلال الفترة بين عامي 1928 و1932 وهي السنة التي أنهي فيها الاثنان دراستهما الجامعية، ليأخذ «نجيب محفوظ» طريقه إلي وزارة الأوقاف التي ظل يعمل بها لسنوات طويلة بينما استكمل «شهدي» دراسته وحصل علي دبلوم في التربية حتي يتأهل للعمل بالتدريس ثم التحق بعمل في «بلدية الإسكندرية» قبل أن يعين مدرسا للغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية. وكما اتجه «نجيب محفوظ» فور تخرجه في الجامعة، للكتابة في المجلات الثقافية، التي كانت شائعة في تلك المرحلة من عمره ومنها «المجلة الجديدة» التي كان يصدرها «سلامة موسي» و«الرسالة» التي كان يصدرها «أحمد حسن الزيات»، فقد اتجه «شهدي عطية» الشاب، إلي نفس الهدف، بين عامي 1933 و 1934 فنشر مقالاته التي لم - تزد علي خمسة - علي صفحات «الرسالة» كان الطابع الغالب عليها هو المزج بين الأدب والفكر .. وبعد انقطاع عن النشر، استمر ما يقرب من عام ونصف العام، انتقل «شهدي عطية» الشاب بقلمه من «الرسالة» إلي «مجلتي» لصاحبها ومحررها وطابعها وناشرها «أحمد الصاوي محمد» - فنشر علي صفحاتها- خلال عام 1936 قصتين قصيرتين. وعلي عكس «علي طه» - بطل رواية «القاهرة الجديدة» التي أرخ فيها زميله وابن دفعته «نجيب محفوظ» لسيرة الجيل، فإن كتابات «شهدي عطية» الشاب الفكرية والأدبية، لا تكشف عن أنه كان مثل «علي طه» اشتراكيا طوباويا، ولا تنبيء عما تطور إليه موقفه الفكري والعملي فيما تلا ذلك من سنوات. أول هذه المقالات - وقد نشرته «الرسالة» في عددها رقم 19 الذي صدر في 5 أكتوبر 1933 - بعنوان «مستقبل الإنسانية للكاتب الاجتماعي هـ.ج ويلز» وهو - كما وصفه الكاتب «تحليل وتعليق» - يستعرض فيه «شهدي عطية» الشاب ظاهرة الروائي والمفكر الإنجليزي «هـ.ج ويلز» - 1866 / 1947 - الذي درس الهندسة والجبر والميكانيكا، ومع ذلك عرفه العالم باعتباره روائيا يحلق علي أجنحة الخيال، ليكتب روايات عن سبل الوصول إلي القمر والمريخ ، وجمع بين إيمان لا يعتوره شك، بنظرية «دارون» في النشوء والارتقاء ، وبين روايات الخيال العلمي، التي يتصادم الخيال فيها أحيانا مع حقائق العلم الذي درسه.. والعقل الذي يقدسه. وفي اطروحته عن «مستقبل الإنسانية» التي يحللها ويعلق عليها «شهدي عطية الشافعي» ينطلق «ويلز» من قانون تنازع البقاء الذي استخلصه «دارون» من دراسته لتطور الكائنات الحية، وخلاصته أن ازدحام الكون بملايين المخلوقات، مع ثبات موارده ، سوف يقود هذه الكائنات، إلي قتال وحشي، لا يبقي منها حيا إلا أقواها وأصلحها، وهو ما دفع «ويلز» لكي يتساءل: تري أي فئة من البشر، سيقدر لها البقاء في المستقبل .. وايها محكوم عليه بالفناء؟ وفي إجابته علي هذا السؤال ، يبدو «ويلز» متفائلا بأن الإنسان هو الذي سيفوز في تنازع البقاء بفضل ما حققه من انجازات مكنته من السيطرة علي الطبيعة، واخضاعها لإرادته ، وهو ما يؤشر ، إلي أن إنسان الغد سيكون إنسانا جبارا بكل معني الجبروت.. لكن «ويلز» لا يبدو متفائلا بالقدر نفسه، فيما يتلعق بمستقبل المجتمع الإنساني، فهو يتوقع أن تزداد الفروق بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال اتساعا في المستقبل، إلي أن تنقسم المجتمعات البشرية إلي طائفتين متفاوتتين في الجسم والعقل والصحة والسعادة ، تسمو إحداها - وهي تضم أصحاب رؤوس الأموال - إلي أكثر مما يمكن أن يسمو إليه إنسان، فتكون نوعا بذاته، وتنحط الأخري - وهي الطبقة العاملة - إلي أدني الإنسانية، تتشوه جسومها وتتخلف عقولها .. ويتساءل «ويلز» أهذا هو الفصل الأخير من رواية الإنسانية أم سيكون ذلك بداية لثورة يثورها العمال الذين يسكنون تحت الأرض، ليخلصوا العالم من ربقة العبودية الثقيلة؟! وقد يبدو غريبا - في ضوء تطور أفكار «شهدي عطية الشافعي» بعد ذلك - أنه انطلق في معارضته لرؤية «ويلز» لمستقبل المجتمع الإنساني، من أنه «تأثر بآراء ماركس، الذي زعم بأن المال يتجمع في أيدي أفراد قلائل، بينما هناك ملايين العمال محرمون، وتنبأ بثورة هائلة تقوم بها الأغلبية الساحقة من الطبقات الفقيرة، فيذبحون فيها الأقلية الضئيلة من أصحاب رؤوس الأموال» وهي أفكار كان «الشافعي» الشاب يري آنذاك، أن كلا من «ماركس» و«ويلز» قد تجاهلا عاملا مهما له آثاره الخطيرة «هو التوازن الدقيق الذي نشاهده في قوي الطبيعة .. فلا يرتقع جزء من الأرض إلا إذا انخفض آخر.. ولا يهدم بناء إلاّ وقام بناء». وبتطبيق نظرية توازن الطبيعة، علي ما ذهب إليه «ويلز» نقلا عن «ماركس» وصف «الشافعي» ما قاله به «ماركس» عن تجمع المال في أيدي قليلة، بأنه «نظرية لن يتاح لها أن تتحقق» أما السبب فلأن «الثروات اليوم تتجه إلي التوازن وعامل اليوم يساهم في الشركات، والمال يتوزع بين الأفراد، والأزمات المتلاحقة تهدد بيوت المال الضخمة، وكبار الأغنياء أكثر مما تقلل ثروة الفقير أو العامل الأجير» ولذلك فهو لا يصدق ما ذهب إليه «ويلز» عن أن الإنسانية سوف تنقسم إلي طائفتين أو طبقتين متباينتين، لأن الشواهد تدل علي غير ذلك «فالعامل في رقي عقلي يساعده ما يجد من ساعات فراغ كان لا يجدها بالأمس ويعاونه اتساع مجال الثقافة وانتشار التعليم انتشارا سريعا» وفضلا عن ذلك «فإن الفروق الاجتماعية في طريقها إلي الزوال، فالكل قد تساوو في الحقوق والواجبات والكل قد يتساوون غدا في العلم والثروة، ونظام الطبقات الذي كان يضع فواصل من حديد بين الشريف والحقير هو في سبيله إلي الانهيار إن لم يكن قد انهار من زمان». شيء آخر - غير تأثره بـ«مزاعم» ماركس - جعل «شهدي عطية» الشاب يختلف مع مقولات «هـ ج. ويلز» الاجتماعية، هو تنبؤه بأن نجاح الإنسان في قهر الطبيعة، سوف يتجه به إلي مادية لا يخضع فيها لقانون ولا يؤمن بدين، ولا يعترف بخالق، مما يفتح الباب واسعا، أمام قانون تنازع البقاء، بين أناس ماديين جشعين بلا أخلاق، فلا يبقي منهم فرد، ولا يبقي للإنسانية وجود، وهي نبوءة يعارضها «شهدي» الذي يري أن الإنسانية تتجه إلي مستقبل أكثر استنارة، وأقل حيوانية، وأنزع إلي الكمال وأعرف بمواطن الضعف وينتهي من ذلك إلي أن كتابات «ويلز» الاجتماعية، لا تستحق البقاء .. علي الرغم من أنها الأبرز فيما كتبه. وخلاصة المقال تكشف عن أن «شهدي عطية الشافعي» الشاب كان مفتونا مثل «ويلز» - بنظرية «دارون» في التطور، وبروايات الخيال العلمي التي كتبها وتنبأ فيها بأن الإنسان سوف يواصل سعيه للسيطرة علي الطبيعة، والتحرر من قوانينها، ولكنه كان يرفض الاستخلاصات الاجتماعية التي قادته إليها نظرية «دارون» وبالذات نظرية صراع الطبقات، أو تنازع البقاء بين الرأسماليين والعمال - التي تأثر فيها بـ«كارل ماركس - وأن أفكاره الاجتماعية آنذاك كانت أسيرة رؤية أخلاقية مثالية، ولم تكن قد تبلورت لتصل حتي إلي المستوي المتواضع، الذي وصلت إليه أفكار زميله في قسم الاجتماع والفلسفة بكلية الآداب «علي طه» بطل رواية «القاهرة الجديدة». ما يؤكد ذلك، أن «شهدي عطية» عاد بعد سبعة أشهر، من نشر مقاله عن «ويلز» لينشر علي صفحات «الرسالة» في 26 مارس «أذار» و2 أبريل «نيسان» 1934 - مقالين عن «اجتماعيات تولستوي» أو بمعني أدق عن «أفكار تولستوي الاجتماعية» عرض فيها، بشكل يبدو محايدا، وإن كان لا يخلو من التعاطف، لما وجهه الروائي الروسي الشهير «ليو تولستوي» (1910/1828) من انتقادات عنيفة إلي الحضارة الأوروبية التي حققت تقدما ماديا مذهلا ، صحبته اشكال لا حصر لها من التعاسة شملت معظم البشر، إلاّ هؤلاء الذين يحتكرون السلطة ويتولون مقاليد أمور العالم تحرر العمال من القنانة، ليخضعوا لنظام عبودي :يستغلهم فيه أصحاب رؤوس الأموال، وصعدت الطبقة الوسطي، لكن صعودها توقف بسبب المعايير غير الموضوعية، التي تحول بينها وبين الوصول إلي قمة الهرم الاجتماعي، وخضع الجميع لنظام اجتماعي في كل بلد، ونظام سياسي دولي يقوم علي القوة والعنف، فالحكومات تحتكر القوة وتفرض علي رعاياها طاعتها عبر قوات الشرطة، وأصحاب رؤوس الأموال يمارسون العنف ضد العمال، ويمارسه الرجل ضد المرأة، لينتهي «تولستوي» من ذلك كله، إلي الحكم بأن «المدنية الحديثة تندثر بمسوح كهنونية لتخفي فجورها وشراستها فهي إن استعبدت الأمم فلكي تأخذ بيدها إلي الرقي.. وهي إن لجأت إلي القوة في هذا السبيل، فذلك عمل نبيل». أما وقد «أصبحت النظم الخالية من سياسية واجتماعية واقتصادية نظما عتيقة لا تشرف الإنسانية في قليل أو كثير «فإن «تولستوي» يدعو إلي وحدة إنسانية يتحول في ظلها العالم إلي دولة واحدة تحكمه حكومة عالمية، تلغي فيه الحروب، وتختفي فيه الوطنية لتحل محلها الإنسانية، وتتنازل فيه الدول عن بعض حقوقها لتعيش في هدوء وسلام. ذلك هدف يري «تولستوي» أنه ممكن التحقيق، لكنه يستبعد بشكل مطلق .. العنف كوسيلة لتحقيق أي أهداف إنسانية عليا، فالشر لا يجب أن يقابل بالشر، وهو يرفض قانون تنازع البقاء - الذي أخذ به «دارون» و«ويلز» - ويراه سخيفا.. ويدعو بدلا من ذلك إلي إصلاح الفرد والارتفاع بعقليته والسمو بنفسيته ليقتنع بأن سعادته تكمن في خدمة أكبر مجموعة من إنسانية، وبذلك تنهار - الوطنية التي تراق من أجلها الدماء ، وهي مهمة لا يحتاج - فيما يري - إلا ّ إلي بضعة أفراد، بل فرد جريء يرشدها إلي طريق العمل، حتي تقوم قومة رجل واحد، يحقق حلم العالم الواحد والحكومة الواحدة. ويختم «شهدي عطية الشافعي» عرضه لأفكار «تولستوي» بعبارات يبدو فيها محايدا، ولكنه يكشف عن درجة ملحوظة من التعاطف معها.. فهو يري أن صاحبها «قد توصل إليها.. ونادي بها في إخلاص وإيمان.. وبعد تفكير طويل.. وتدبر ليس بالقليل، وقد توافق علي دعوته، وقد لا توافق وقد تحسبها الحكمة بعينها أو خيالا متطرفا .. ولكن لا يسعك إلا أن تجد في دعوته الحق أو بعض الحق»! كان «شهدي عطية الشافعي» في تلك المرحلة من عمره، أشبه برحالة يستكشف الخريطة الفكرية لعالم الثلاثينات ، عبر دراسته للفلسفة وعلم الاجتماع ، ويجمع في فكرة يبين كثير من المتناقضات ، فيتحمس لنظرية النشوء والارتقاء ويؤمن بقدرة الإنسان علي التحكم في الطبيعة ويرفض الفلسفات التي استندت إلي النظرية ذاتها، لتصوغ رؤية لتطور المجتمع، ويجنح إلي رؤية مغرقة في المثالية تراهن علي الفرد لأعلي الجماعة وتري أن عددا محدودا من الناس، يمكن أن يغيروا العالم إذا ما سعوا لإيقاظ ضمير الفرد، فيوحدوه في عالم واحد وحكومة عالمية واحدة. ولابد أن شغفه الشديد بقراءة الأدب، الذي يتبدي في اهتمامه بروايات الخيال العلمي التي كتبها «هـ.ج. ويلز» وبأعمال «تولستوي» الروائية كان وراء نزعته الإنسانية خلال هذه المرحلة من عمره، التي ستقوده فيما بعد إلي الطريق الذي سار فيه وتحمل اشواكه وقاده إلي اللحظة التي جلس فيها أمام باب «سجن الأوردي»، يحيط به الجلادون الذين كان مقدرا له أن يفقد حياته علي أيديهم في ذلك الصباح من يونيو 1960 . 3 في المفصل بين.. الكتابات الفكرية لـ«شهدي عطية» الشاب، وكتاباته الأدبية، وبعد ستة أشهر من نشر مقاليه عن «تولستوي»، نشرت له «الرسالة» آخر ما نشر له علي صفحاتها، وهو مقاله «بين توفيق الحكيم وأهل الكهف» - الذي نشر في 3 أغسطس «آب» 1934 - وقد قدم له «شهدي عطية» بعبارات تقول (قرأت أهل الكهف لـ«توفيق الحكيم» وأحببتها حبا يفوق حب الناس لها، ولكن ناحية منها لم ترضني، وليس ذلك بجريرة المؤلف ولكنه شعور نفسي تملكني)، ومع أنه مقال في النقد الأدبي، إلاّ أن «شهدي عطية» اختار أن يصوغه في قالب أدبي، علي شكل حواريه، تدور أحداثها في إحدي جنات الخلد حيث يجلس ثلاثة رجال متكئون علي الأرائك، وأمامهم أباريق وأكواب من ذهب وفضة، والأطيار من حولهم تشدو، ومن الحوار بينهم نكتشف أنهم هم أنفسهم، أهل الكهف، أو الرجال الثلاثة، الذين اعتنقوا المسيحية، في عهد الإمبراطور اليوناني الوثني، «دقلديانوس»، وهربوا من حرب الإبادة التي شنتها ضد المسيحيين، إلي كهف وبينهم في حوارهم، لبثوا فيه ثلاثمائة عام، ليستيقظوا فإذا الدنيا قد تغيرت، وإذا المسيحية قد انتشرت، وإذا بحاكم المدينة مسيحي مثلهم، أما الآن فقد رحلوا عن العالم، وصعدوا إلي الجنة، يقارنون بين ما يتمتعون به في جنات الخلد، وفيما كان عليه حالهم في ذلك الكهف، حين يدخل عليهم رجل يرتدي لباسا، أفرنجيا ويضع فوق رأسه طربوش، ينبئهم بأنه «توفيق الحكيم» الذي كتب سيرتهم في قصة حوت «فن باريس وفلسفة أثينا وحكمة الروم.. واستكشفت خبايا نفوسهم».. ويدور بينهم وبينه حوار يجابه خلاله «الحكيم» أولهم وهو «مرنوش» بالحقيقة التي تقول إنه كان ساعد «دقيانوس» في مذابحه ضد المسيحيين، إلي أن التقي بامرأة مسيحية، أحبها فاعتنق المسيحية من أجل أن يتزوجها سرا، وينجب منها ولدا، ثم فر إلي الكهف لينجو من «دقيانوس» وشروره ويواجه الثاني «مشلينيا» بأنه أحب «بريسكا» وأحبته بل عبدته، واعتنقت المسيحية من أجله، ثم اكتشف أمره فهرب إلي الكهف ليختفي فيه، ويعترض الاثنان علي تشكيكه في إيمانهما وفي دوافع هربهما إلي الكهف، ويضيقان به أشد الضيق خاصة حين يتوجه إلي ثالثهما، وهو الراعي «يمليخا» الذي قادهما إلي الكهف ليختفيا فيه، فيعتبره المؤمن الوحيد بينهم لأنه آمن في إخلاص وأحب الله في قوة إذ كان قلبه خليا لا يضيره أن يمنح الله قلبه.. ويثور أبطال أهل الكهف علي مؤلف المسرحية، لأنه بما كتبه عنهم قد مسخهم وأنكر عليهم مسيحيتهم ويصرخ «يمليخا» في وجهه علي الرغم من أنه الوحيد الذي اعتبره «الحكيم» مؤمنا ويقول له: نحن لسنا من ذكرت.. ولعل في جوارنا أهل كهف آخرين فابحث عنهم.. وجوهر النقد الذي يوجهه شهدي عطية الشافعي لمسرحية «توفيق الحكيم»، «عن أهل الكهف» هو انه اصطنع لأبطالها دوافع أخري غير الدوافع التي وردت في أصلها التاريخي. |
بقلم : صلاح عيسي |
This blog is dedicated to Egypt .... home I adore and to all sincere Egyptians who are looking forwards to live in free democratic secular nation كل زوار الموقع مدعوون الى نشر آراءهم و تعليقاتهم
Friday, June 25, 2010
صلاح عيسى يكتب «حكايات من دفتر الوطن» الحلقة الأولي
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment