Friday, June 25, 2010

حول كتاب حدتو ذاكرة وطن

دراسات- حول كتاب "حدتو ذاكرة وطن" ... بقلم : سمير كرم :

حول كتاب "حدتو ذاكرة وطن"
منشور في صحيفة الأهالي
بعد الشيوعيين حان دور غيرهم
في دراسة الحركة الشيوعية المصرية
سمير كرم
لا يزال الشيوعيون المصريون يتولون كتابة تاريخ الحركة الشيوعية المصرية بأنفسهم أحيانا في صورة تاريخ مسرود، وأحيانا في صورة تاريخ موثق، وفي أحيان أخرى في صورة ذكريات ومذكرات عما جرى ولا تزال تعيه ذاكرتهم.
وهذا معناه أنه لم تبدأ بعد مرحلة يتقدم فيها لدراسة هذا التاريخ أولئك الذين لم ينتموا لهذه الحركة ولم يؤدوا أدوارا فيها. لم يدخل تاريخ الحركة الشيوعية المصرية بعد ضمن اهتمامات من يعدون رسائل الماجستير والدكتوراه أو الذين يتخذون تدوين التاريخ من وجهة نظر محددة وبمنهج واضح. وقد تكون لهذه الحقيقة أسبابها المنهجية أو الفكرية أو العقائدية.. لكن الأمر المؤكد أنه ليس من بين أسباب عدم إقدام غير الشيوعيين في مصر على دراسة تاريخ الحركة الشيوعية المصرية ادعاء بأنه ليس فيها ما يهم من دروس وعبر، من نجاحات وإحباطات، من تجارب في الماضي لها انعكاساتها الفكرية على المستقبل.
هذه مرحلة لم تأت بعد لكنها بالتأكيد ستأتي. كل ما نرجوه ألا يتأخر انطلاق الاهتمام بالحركة الشيوعية المصرية كتاريخ لا ينفصل عن تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي إلى وقت لا تكون الحياة قد امتدت فيه بالمناضلين الشيوعيين المصريين الذين تتلمذوا تنظيميا وفكريا على يد المؤسسين. فستظل شهادة هؤلاء فيما سيكتب من دراسات بأقلام غير شيوعية عنصرا حيويا مهما في استقبال هذه الكتابات بالنقد الموضوعي.
بدأت بهذه المقدمة لأن الكتاب الذي أود تقديمه اليوم "حدتو ذاكرة وطن" في اعتقادي، وبعد قراءة ثانية متأنية، يفتح المجال واسعا أمام الدارسين غير الشيوعيين لخوض هذا الميدان الخصب والوعر في آن معا بما يحتويه من تاريخ وذكريات ووثائق وانطباعات.
حدتـو
وصحيح أن كتاب الدكتور القصير يتناول تنظيما أساسيا واحدا من بين تنظيمات كثيرة انتظمت فيها الحركة الشيوعية المصرية، هو تنظيم "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" "حدتو" إلا أنه استطاع أن يضع الحركة الشيوعية المصرية ككل في حسابه من خلال دعوة "حدتو" إلى دعمها من أجل الإسهام في تكوين الوجدان العام الثقافي والفكري للشعب المصري على مدى عقود طويلة، وبسبب إسهام "حدتو" الفعلي الجاد والمتواصل في النضال ضد الصهيونية والاستعمار الانجليزي ثم الأمريكي ومن أجل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية تجمع العرب واليهود، وأيضا بسبب الأدوار المؤثرة في حياة مصر السياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية بين العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين وضباط الجيش وفي حياة الصحافة المصرية والإبداع الفني أدبا وفنا تشكيليا.
ولعل اهتمام المؤلف الفائق بدراسة وتوثيق علاقة "حدتو" كتنظيم شيوعي سري بحركة الضباط الأحرار كتنظيم وطني سري بعد ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة جمال عبدالناصر يشكل بحد ذاته واحدا من أهم أركان هذا الكتاب. وعلى الرغم من أن هذه العلاقة المثمرة النضالية بين "حدتو" و"الضباط الأحرار" في أحرج الأقات من تاريخ مصر في بداية النصف الثاني من القرن العشرين قد عولجت وباستفاضة في عديد من الكتب التي ألفها أيضا شيوعيون مصريون فإنها تكتسب في هذا الكتاب طابعا جعلها متغلغلة في هذه الحقبة من نضال الشعب المصري وإنجازاته. وستظل هذه العلاقة بين "حدتو" والضباط الأحرار من أهم وأجدر الموضوعات بالدراسة من جانب المؤرخين المصريين الجادين الذين لا يستسلمون لعقدة الخوف من تناول نضال الشيوعيين المصريين جنبا إلى جنب مع ضباط الثورة.
كذلك فإن من أهم ما يميز هذا الكتاب أنه يعبر بلغة موضوعية وبعمق وجداني في آن واحد عن شعور عميق بالانتماء والولاء لتنظيم "حدتو" على الرغم من انقضاء أكثر من نصف قرن على علاقته به.. ولا يرجع هذا إلى خصال المؤلف النوعية وحدها.. إنه يرجع إلى "خصال" حركة "حدتو" إذا جاز التعبير وإلى الأدوار البالغة الأهمية في أدق لحظات تاريخ ثورة يوليو والتي قامت بها هذه الحركة بإخلاص وتفان. يقول أحمد القصير "غني عن التنويه بأن كوادر أساسية من "حدتو" اشتركوا بأدوار قيادية في قيام ثورة يوليو، وفي مقدمة هؤلاء أحمد حمروش وخالد محي الدين ويوسف صديق الذي استولى ليلة 23 يوليو 1952 على قيادة الجيش وحسم نجاح الحركة. أما أحمد حمروش فقد تولى ليلة 23 يولية تأمين حامية الجيش بالاسكندرية بتكليف من عبدالناصر. ولذلك انفردت "حدتو" بتاييد الثورة منذ لحظة قيامها. وفضلا عن ذلك أسهمت "حدتو" عن طريق خالد محي الدين في صدور بعض التشريعات بعد قيام الثورة مثل منع الفصل التعسفي والإصلاح الزراعي".
دفاعا عن الديمقراطية
ويقول المؤلف: بذلت حدتو جهودا في عامي 1953 و 1954 من أجل الديمقراطية وعودة الحياة النيابية وظهر مفعولها من خلال الجبهة الوطنية الديمقراطية التي شكلتها عام 1953. وقد بدأت منشورات هذه الجبهة في الظهور آنذاك في كل من القاهرة والاسكندرية تدعو إلى إلغاء الأحكام العرفية وإنهاء الحكم العسكري... غير أن حدتو عادت إلى موقف التحالف مع ثورة يوليو بعد حدوث تطورات سياسة مثل اشتراك عبدالناصر في مؤتمر باندونج وقيامه بعقد صفقة الأسلحة التشيكية. كما شاركت حدتو بدور بارز في تنظيم المقاومة الشعبية في بورسعيد أيام العدوان الثلاثي على مصر والاحتلال البريطاني الفرنسي للمدينة عام 1956. وكانت تلك المشاركة باسم الحزب الشيوعي المصري الموحد الذي يشكل الامتداد التاريخي لحدتو. ودخل بورسعيد سرا آنذاك عدد من كوادر حدتو وشاركوا مع زملائهم الحزبيين من أبناء بورسعيد في تنظيم المقاومة.
ويؤكد المؤلف في هذا السياق أن التعرض للتاريخ السياسي لحدتو ليس بالأمر السهل. فقد كانت منظمة سرية يطاردها البوليس، ويلاحق أعضاءها، ويصادر وثائقها ومطبوعاتها. وهي مطبوعات ووثائق سياسية فكرية تصدر سرا. لذلك تحتاج دراسة ذلك التاريخ إلى جهد خاص وإلى تدقيق وإلى عدم الجري وراء الأقاويل والروايات العارية من كل سند.
فهل قام المؤلف بهذا الجهد الذي يشير إليه أو ببعضه؟ نعم. وهذا أيضا من أهم مزايا كتابه. وقد خصص الفصل السابع "الأخير" منه لوثائق من أرشيف "حدتو"، ولكنه كان في مرحلة أكبر كثيرا في كتابة الفصل "الثالث".
قال "حرصت عام 1992 عند اطلاعي على أرشيف مجموعة روما بباريس التابعة لحدتو على الحصول على نسخ من المطبوعات الحزبية التي تتعلق بمفاوضات الوحدة التي أدت إلى إعلان الحزب الشيوعي المصري في 8 يناير 1958. ونعني بذلك المفاوضات التي أفضت إلى تأسيس ذلك الحزب نتيجة الوحدة بين الحزب الشيوعي المصري الموحد أي حدتو وتنظيمين آخرين هما الحزب الشيوعي المصري ويسمى الراية وحزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري".
أدبـاء وفنانـون
ويشكل الفصل الخامس من هذا الكتاب بعنوان "أدباء حدتو طلائع مغردة بالوطن، فؤاد حداد وصلاح جاهين" إضافة عميقة الأثر وجدانيا. إذ أنه يقدم هذين الشاعرين العملاقين من خلال غنائياتهما للوطن والعمال والفلاحين والنضال والسلام. إننا نرى في هذا الفصل كلا من حداد وجاهين كمناضلين "حدتوين" ساهما في صقل وجدان شعبنا في أزمات المعارك الكبرى التي خاضها دفاعا عن استقلاله وعن ثورته وعن مبادئه الاشتراكية.
نعي يليق بشهدي وحدتو حزب شهدي
ولا يقل عن هذا في تأثيره الوجداني معالجة الدكتور أحمد القصير لما تعرض له "سيد شهداء الحركة الوطنية في القرن العشرين" شهدي عطية "صاحب القامة السياسية والفكرية العالية". ولا أظن أن أحدا سبق المؤلف في نشر نعي شهدي عطية الذي نشر إثر استشهاده تحت وطأة التعذيب في المعتقل. وقد نشر في الأهرام يوم 20 يونيو 1960.
شهدي عطية الشافعي
عطية الشافعي وأسرته ينعون بعد أن واروا عزيزهم فخر الشباب الأستاذ شهدي عطية الشافعي مقره الأخير ويقولون لمن واساهم فيه:
لن نشكركم. فالشكر لكم في هذا الموقف نكران لوفائكم. وشهدي وذكراه أمانه في ضمائركم. أما أنت يا عزيزنا الغائب فإننا نرثيك بهذا:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر
تردى ثياب الموت حمرا فما دجى لها الليل إلا وهى سندس خضر
وقد كان فوت الموت سهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنما هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
ووصف المؤلف هذا النعي بأنه نعي يليق بشهدي وحدتو حزب شهدي. ليس ثمة كتاب يستطيع أن يقول كل شئ عن الحركة الشيوعية المصرية ولا عن تنظيم واحد منها وأن كان حدتو أحد أعظمها فكرا ونضالا. لا يزال في الحركة متسع للدراسات للتعمق والاستنتاج. ويمثل كتاب "حدتو ذاكرة وطن" عامل تشجيع وتحفيز وتبصير بطريق هذه الدراسات. وهذه مهمة لم تكن سهلة أبدا.

No comments: