حينما يغلب الدور السياسي والأيديولوجي على الإبداع، لا يعرف الناس سوى الوجه السياسي، وساعتها ينسى الناس المبدع لحساب السياسي. هذا ما حدث تماما لشهدي عطية أحد كوادر اليسارالمصري، وشهيد الطغيان والتعذيب. عُرف شهدي عطية الشافعي سياسيا ومناضلا، انتمى إلى الفكر اليساري وأصدر كتابين متأثرا بهذا الفكر، واعتقل عام 1959 مع عشرات من كتاب اليسار، ومات تحت التعذيب في 15 حزيران (يونيو) 1960 وكان موته سببا في أن يأمر الرئيس عبدالناصر بوقف التعذيب نهائيا لكافة المعتقلين. الجميع يعرف عن شهدي عطية نضاله السياسي، وكتاباته الفكرية والسياسية والاقتصادية، ولكن لا أحد يعرف أنه كان قاصا وروائيا. هذا ما كشفه لنا الشاعر شعبان يوسف حين أعد للنشر رواية لشهدي عطية بعنوان 'حارة أم الحسيني'، كما تضمن الكتاب الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة بالإضافة للرواية قصتين أخريين. وقد أوضح شعبان يوسف في مقدمته الطويلة الوجه الآخر لشهدي عطية، أقصد وجهه المبدع، فالجميع لا يعرف عنه سوى وجهه الفكري والسياسي، وقد غُيب الإبداع طوال الوقت لصالح السياسة والإيديولوجيا. دارت مقدمة شعبان يوسف حول المشروع الابداعي لشهدي عطية، وكيف بدأ كتابة الرواية، ونشرها في جريدة المساء عام 1956، ورغم أن الجريدة أغفلت اسمه بناء على طلبه، لكنها قدمت للرواية وعرّفت بصاحبها مثلما أشادت بموهبته، أما القصتان فقد نشرتا قبل الرواية بعشرين عاماً كاملة. تدور الرواية حول شخصية رئيسية وهو سيد نزح مع أهله من ريف الزقازيق إلى حارة أم الحسيني بالإسكندرية، وهنا يقدم لنا عطية نموذجا لحارة مصرية بتفاصيلها وناسها ومشاكلها في لغة بسيطة وحوار عامي قادر على حمل حيوات هؤلاء الفقراء والعمالية. لقد انتصر الكاتب لشخوصه ضد رداءة الحياة والفقر والتهميش. انتصر لهم بمستويات عدة، إما باللغة التي أنطق بها شخوصه، وهي العامية المصرية التي جاءت في ذلك الوقت الذي كان يكتب فيه نجيب محفوظ حواره باللغة الفصيحة، يأتي عطية لينطق شخوصه بالعامية المصرية. كذا جاء الانتصار الآخر حين قال فيما يشبه الخطاب الأيديولوجي الجهوري أن 'إحنا الصنايعية إحنا كل حاجة، بعد كده البيوت دي مين اللي بيبنيها، إحنا الصنايعية، شوف الهدوم اللي كل الناس بتلبسها، مين اللي بينسجها ويغزلها، برضه إحنا الصنايعية لا تقولي بتوع مدارس ولا أفندية ولا باشوات، إحنا كل حاجة إحنا وبس'. نلحظ النبرة العالية في تمجيد الطبقة . كذلك جاء الانتصار الثالث حين صور العلاقات الدقيقة والعميقة بين أبناء هذه الطبقة بين أبنائها وبعضهم البعض، وبينهم وبين الآخرين، تظهر هذه العلاقات حين يأتي الخبر لأم سيد من زوجها حسنين أفندي البشري أن خليل بك جاءه بنفسه وشخصه يسلم عليه في مكتبته ويبدي رغبته في رؤية ابنة أخيه ... وانقلبت أم سيد إلى مركز نشاط ضخم .. وبلغ الخير الحارة بأجمعها .ولم تتأخر جارة واحدة في أن تعير أم سيد أنفس ما عندها، أكوابا وصحونا ومائدة طعام .. وجاءت الجارات جميعهن، يساعدن أم سيد يوم الطبيخ'. استخدم المؤلف تقنية الراوي العليم الذي يسيطر على مقدرات السرد، يسرد تفاصيل وعلائق وحكايات تصور علاقة الإنسان بجغرافية المكان الهامشي، وهو الحارة المصرية. كما أن الزمن جاء في الرواية زمنا متراتبا ناميا باتجاه الأمام، فمنطلق السرد يبدأ بدخول عائلة سيد، أمه وأبيه وأخته، إلى الحارة قادمين من الزقازيق. ويستمر السرد في التدفق حتى يكبر سيد، ويفشل في الدراسة، لكنه يعمل نجارا، ويهتف لصالح الصنايعية، وهنا شعرت أن هذا صوت المؤلف وليس صوت السارد، المؤلف شهدي عطية الذي ينتصر للهامش على حساب المتن. ويبدو من النص أنه كتب قبل عام 1952، ففيه حديث عن مظاهرات عام 1922، وهتاف طلاب المدارس 'يحيا سعد' لكن لا ذكر لما جرى بعد ذلك من أحداث، خاصة ما جرى عامي 1952 و 1953 حيث خلع الملك وإلغاء الأحزاب وإلغاء دستور 1923. ورغم جودة هذه الرواية فنيا إلا أن النقاد لم يلتفتوا إليها حتى أن رفعت السعيد تعرض لهذه الرواية في إحدى الندوات بالقول إنها 'ذات طابع سياسي محض ولا يعتد بها أدبيا' لكن الباحث شعبان يوسف له رأي آخر مناقض تماما لرأي رفعت السعيد، لذا عكف على إنتاج شهدي الأدبي وصدر في كتاب عن المجلس الأعلى المصري للثقافة بعنوان 'حارة أم الحسيني وقصص أخرى' . ويصف شعبان يوسف الرواية بأنها: 'أكثر تعبيرا وانعكاسا لتيار الواقعية الجديد، والذي بدأت تنمو ملامحه نقدا أو تنظيرا وإبداعا، فكان في الشعر صلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وفؤاد حداد، وكان في القصة القصيرة يوسف إدريس ومحمد صدقي وبدر نشأت ومصطفى محمود وفي الرواية عبد الرحمن الشرقاوي، وفي المسرح نعمان عاشور، ولطفي الخولي وسعد الدين وهبة، وأزعم أن رواية 'حارة أم الحسيني'، كانت إحدى الركائز الإبداعية التي عبرت بقوة عن هذا الاتجاه، وربما كانت تطبيقا جدليا له، وانعكاسا رفيعا وشفافا لمبادئه، بعيدا عن المباشرة المقيتة، والتي سرعان ما تغزو الواقعيين'. كذلك تضمن الكتاب قصتين لشهدي عطية، القصة الأولى 'من الجامعة إلى الوظيفة' يحكي فيها عن موظف يبدأ حياته الوظيفية، وعلاقته بتلك الحياة وعلاقته برؤسائه، وتظهر فيها قدرة شهدي على السرد، واستخدامه للوصف والتشكيل البصري، كما يأتي فيها الحوار بالفصحى الرصينة البليغة. كما جاءت القصة الثانية تحت اسم 'جمال رخيص'، وفيها يظهر السارد في مونولوغ داخلي طويل يعبر عن علاقته بجسده وبالعالم، وتمنيه الحب، ثم يلتقي فجأة على الشاطئ بفتاة جميلة يحاول أن يقيم علاقة معها، وفي هذه القصة أيضا أفاد المؤلف من تقنية السارد العليم، وأكثر من الوصف بلغة سردية راقية، كذلك جاء الحوار بالفصحى الرصينة، وهذا يؤكد على الفكرة التي طرحت في بداية المقال من أن استخدامه للعامية المصرية، لم يكن عن عدم قدرة بقدر ما كان عن قصد لينتصر للمهمشين الذين احتلوا السرد في حارة أم الحسيني. وفي النهاية لا أجد إلا الشكر للشاعر شعبان يوسف الذي يمارس دورا أظن أن التاريخ وحده سيكشف عن أهمية هذا الدور، وهو تذكره الدائم للمنسيين، والذين سقطوا من ذاكرة الواقع والتاريخ، ونفض الغبار عنهم وتقديمهم بوجوه مجلوة لامعة. ورغم شهرة شهدي عطية التي طبقت الآفاق بسبب كتاباته الفكرية، وبسبب استشهاده الذي مثل نقطة ومن أول السطر كما يقولون في علاقة اليسار المصري والشيوعيين بالنظام آنذاك إلا أن الكثيرين لا يعرفون الوجه المبدع من وجوه شهدي عطية. الكتاب: حارة أم الحسيني المؤلف: شهدي عطية المعد: شعبان يوسف دار النشر: المجلس الأعلى للثقافة المصرية سنة النشر: 2010 ناقدة وروائية مصر
No comments:
Post a Comment