لكل لفظة في أى لغة مدلول محدد، يتصوره الذهن ويعرف معناه، لكن في عصر بذاته محدد زمنياً ومكانياً أيضاً بذاته له سماته المميزة. لأن اللفظ يكتسب مدلوله من الخبرة بالمكان والزمان والبيئة ودرجة التحضر ومكونات المجتمع وأنماطه الإقتصادية.
فإذا تغير المكان والزمان واستمرت اللفظة قائمة لم تندثر فإنها لابد وأن تكتسب مدلولاً جديداً يليق بهذه المتغيرات.فاللفظة حقيبة نضع فيها ما نشاء وما نحتاج إليه من أفكار ومعان ودلالات ومفاهيم، ويمكنا الإضافة إليها وكذلك يمكنا الحذف منها وفق أليات المتغير الموضوعي، وربما تستمر اللفظة هي هي لكن مضمونها لابد أن يتغير، كذلك دلالاتها وما نفهمه منها، كذلك يمكن أن تختفي هذه الحقيبة بالمرة وأن تظهر حقائب أخري جديدة.
وعليه فإن أى نص تم تدوينه في زمن ومكان بعينه، فقد تمت صياغته وصبه في قالب زمكانه، فينطبع بطابع ثقافة مجتمعه، وتقاليده، وعاداته، وسلوكيات أهل زمانه وقيمهم وقواعدهم الحقوقية.
ولا يمكن إدراك الفهم الحقيقي لدلالات أى نص بإستخدام ثقافة مختلفة عادة ما تؤدي إلى نتائج زائفة ومضللة، لأن النص هو حفرية لغوية تحمل صورة حية لمجتمعها الذي صاغها ومحيطها البيئي وزمانها.
ومع التطور تظهر ألفاظ وتعابير جديدة، مع ظهور الجديد دائماً في حياة البشر من كشوف ومخترعات وعلوم طبيعية وإنسانية وقيمية وقانونية وأخلاقية.. إلخ.
وتحمل هذه الألفاظ الجديدة تاريخ ميلادها بدلالات زمن نحتها أو تخليقها، لتضاف من بعد إلى المعجم اللغوي لأصحابها ومخزونهم المعرفي. وتظل مستمرة لتحمل دلالات جديدة او تتغير أو تختفي من اللغة.مع التسارع الهائل في الكشوف والمتغير التطوري الصاعد للبشرية، حدث ذات التسارع على مستوى اللغة ميلاداً وموتاً وتطوراً
.ففي مصر كانت هناك ألفاظ أساسية يعرفها الجميع لارتباطها بطبيعة البلد الزراعية زماناً ومكاناً وبيئة، ظلت معلومة حتى لأبناء جيلي، لتختفي من بعد مع ظهور الميكنة الزراعية المتطورة، وذلك مثل كلمات الشادوف والطنبور والنورج، لن تجد من يعرفها من أبناء القرية المصرية اليوم، فقد اختفى اللفظ باختفاء الشيئ، فكان الشادوف والطنبور لرفع المياه اعتمادا على القوة العضلية وهو ما لم تعد له حاجة مع اخنراع مكائن الرفع، واختفت كلمة النورج باختفاء النورج الذى كان ألة بدائية تفصل القشور عن الحبوب، لكن زمن النورج والشادوف والطنبور لم يكن أحد يعلم معنى كلمة تليفزيون او كمبيوتر أو ريموت كنترول أو تليفون محمول لأنها لم تكن قد وجدت بعد.
وغير أسماءالأشياء هناك التعبيرات ذات الدلالات المعنوية المفهومية ، وذلك مثل (علاقة شريفة) بين ذكر وأنثى، فهى عندنا تعنى عقد نكاح علني بين الزوج (الذي عليه دفع أجر المرأة مهراً مفروض شرعاً) وبين ولي المرأة.
بينما ذات التعبير في مكان آخر بالغرب في ذات الزمان يحمل دلالة مختلفة تماماً، فهو تراض بين ذكر وأنثى ولا دور للمجتمع ولاللدين بالمنع أو بالسماح أو لتشريف العلاقة أو لتبخيسها، لأن الدلالة الجديدة ليست حلالاً أو حراماً بقدر ما هى شأن شخصي لا دخل للدين أو المجتمع بها، بل إن مهمة المجتمع حمايتها ورعايتها، فدلالة العلاقة الشريفة في الغرب تقوم علي حرية الاختيار والتراضي التي هي عندهم قدس الأقداس.
و قياساً علي ما سلف لا يعود هناك أى معنى للقاعدة الفقهية التي تقول: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، والتي ربما جازت في التعميم علي زمانها، لكنها لا تصح بالتعميم علي كل مكان حتى في زمنها.
وطالما أن الإسلام قد ظهر في جزيرة العرب وبلغتهم في القرن السابع الميلادي، وحتى نفهم مقاصده الحقيقية، فلابد أن نتعامل مع الألفاظ بدلالات زمنها، كما كان يفهمها أهل مكانها البيئي وظرفهم الإجتماعي والاقتصادي وليس كما يشرحها لنا وعاظ أيامنا ليحملوها بدلالات لم يقصدها السلف ولا أرادته اللغة بل ولم تعرفه اللفظة أصلاً.
لمزيد من التدقيق نضرب أمثلة أخرى، فكلمة الناس الواردة على تكرار في القرآن والحديث والرسائل المدونة والنصوص الأخرى المختلفة لأهل ذلك الزمان، كانت تعنى بالناس العرب وحدهم
. ومع ازدياد عدد المسلمين أصبحت تخص العرب المسلمين وحدهم، وهو موقف نفسي ينعكس في اللفظ، وشأن مكرر ومعلوم حتى عند أقدم الشعوب المتحضرة، فالمصري القديم مثلاً كان يقصد بلفظ الناس المصريين وحدهم، وما عداهم أنواع أدنى من الكائنات الشبه إنسانية، وفي زمن الإمبراطورية المصرية تم السماح للأجانب بالتجارة في مصر والسكنى فيها مما دفع الحكيم، نفررحو، وهو يتنبأ بنهاية العالم ومجئ يوم الدينونة للقول: "انظروا إن نهاية الأيام تقترب، ألا ترون الأجانب في مصر قد أصبحوا من الناس ؟!".
وهو نفس الموقف الذي تبناه الرومان فكانوا هم الناس وما عداهم برابرة، اعتزازاً بتطورهم الحقوقي والقانوني، وهو ما كان يدفعهم لرؤية المجتمعات التي بلا قانون دستورى في حكم التجمعات الحيواني المتوحشة
. وكلمة مثل (الأرض) كانت تستخدم في بلاد العرب الوعرة للدلالة علي جزيرة العرب بالذات، وأحياناً تتم إضافة دول العالم المعروف لبدو الجزيرة، وفي هذا الحال كان يفضل العربي لفظ (العالم والعالمين).
لكنه لم يكن يعلم ما يعلمه تلميذ الإبتدائي اليوم، وما تستحضره لفظة الأرض من دلالات ومعان، فهي اليوم تستدعي النظام الكوكبي مقارناً بالنظام النجمي الشمسي، مقارناً بنظام المجرات النجمية، وخصائص كل منها، وأن الأرض ضمن تسع كواكب هي المجموعةالشمسية، وأن للأرض خصائص أخرى فهي تتكون من خمسة قارات وست محيطات و.. إلخ... إلخ.
مثال أخر من لون المعاني المجردة، لفظ (القدرة)، كانت تعبر عند العربي عن القوة المادية البدنية بإطلاق، ففي رسالة الغفران التي وصلتنى بعد إعلان توقفي عن كتابة كفرياتي في روزاليوسف تحت التهديد بالقتل، جاء القول: "وحسبك أنك نجوت من قتل محقق، أى والله، بعد أن أعددنا البيان الذي كنا سننشره علي الأنترنت بعد قتلك. وقد اعترض بعض الأخوة علي إيقاف العملية، علي اعتبار أن الزنديق لا تقبل توبته وإن تاب، ولكن الأمير حفظه الله حسم هذا الخلاف بترجيح أن المرتد إن تاب قبل القدرة عليه و تقبل توبته، لقوله سبحانه: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" انتهى ..... وهو ما يقوم علي عدم قبول الله إيمان فرعون عند الغرق وهو تحت القدرة، والمعنى أني قد تبت قبل أن يصل السلاح إلي عنقي، أو علي الأقل قبل خطفي
. كانت القدرة هى القوة المادية بإطلاق، بينما اليوم أصبحت القدرة مخزناً لقوانين العلم وإصطلاحاته، فهي الفولت في الكهرباء، وهى الحصان أو الطن في المحركات، وهى الأمبير، وهى الأوم والوات في الصوتيات، وهى الريختر في الزلزال، وهى الأوزان الذرية... إلخ، لكن أصحاب التهديد الإرهابى الذين ردوا علي توقفي عن النشربرسالة الغفران، يحفظون اللفظ في لفائف دلالاته القديمة ليحمل ذات الدلالات القديمة، وهو إسلوب مفهوم متسق، لا يعمد للتزوير والخداع والمراوغة اللفظية، وهو خطاب يقف في مكانه الطبيعي داخل منظومته دون تناقض، لأنه يحدد إدراكه وفق ما تمت كتابته بفكر وعقل من كتبه يوم كتبه.
المشكلة فيمن يزورون علينا وعلي المسلمين كذباً ونفاقاً، ويقدمون لنا ألفاظاً وتعابيرا من الماضي محملة بدلالات من فكر وعلم وتقاليد وعادات وقوانين اليوم.
المثير للرعب أن هذا الخطاب المخاتل يجد صدى لدى من يملكون القوة في العالم اليوم من دول عظمى، وتنطلي عليهم خديعته لأنهم خارج كل تعقيدات الفرق الفقهية المتراكمة عبر الزمن، ومن ثم لا يملكون أدوات النفاذ للدلالات الحقيقة لما يطرحه الإسلام السياسي علي عالمنا اليوم، فيتصورون ذلك إعتدالاً بعكس التطرف الدموي، ويفهمون عنهم أنهم قوم وسطيون يدعون للمحبة والتسامح والمساواة، ويتلهفون علي الديموقراطية تلهفاً، بينما شاعرهم الأمجد يشرح شأن العرب قائلاً: نحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر.
لكن هذا الفريق المعتدل الوسطي الديموقراطي هو نفسه من يحدثنا عن المقاومة الشريفة في العراق الحزين، المقاومة بتفجير الأجساد، سواء كان الجسد جسد المفجر، أو جسد الأم الممزق وجسد طفلها الرضيع في حضنها يرضع ثدياً ممزقا، سواء كان يهودياً أو مسلماً أو من أى ملة أو أى لون.
ويقول لنا المعتدلون أن هذه المقاومة دفاع شرعي عن الوطن ؟! فأى وطن يقصدون؟!
يقولون إنهم يفعلون فى العراق فعل فرنسا (مقاومة وطنية) عندما إحتلها النازي؟
ولكن هل في الإسلام أى مفهوم عن الوطن كما هو حال فرنسا؟!
إن الإسلام لم يكن فيه معنى للوطن كما نفهمه اليوم، ولا حتى كما فهمه العراقي القديم، أو الشامي أو المصري القديم، لأن الإسلام هو الوطن ولا يعترف بالأوطان لأنه إنما المسلمون أمة لا اله إلا الله أينما كانوا بدون حدود وطنية. وحتى هذه اللحظة الراهنة لا يعترف هؤلاء بالوطن والمواطنة جميعاً علي إتفاق، من ابن قرضاوي إلي ابن عاكف إلي ابن هويدي إلي ابن باز، فلماذا إذن المقاومة؟!
أم الصواب أن يتم الإعتراف أولاً بالوطن وإعلاء شأن الوطنية علي بقية القيم أرضية كانت أم سماوية حتى يمكن الحديث بعد ذلك عن المقاومة الوطنية.
ورغم ذلك يستخدمون اللفظ المستحدث (المقاومة) للدلالة علي جرائم حرب وإبادة جماعية بكل معنى الكلمة.
فهى حرب بربرية يخوضها الإسلام السياسي والوهابي والشيعي ضد كل الدنيا بمنطق ما وراء ألف واربعمائة عام مضت, علي أرض العراق ضد العراقيين جميعاً.
ويمارسة الشيشان فى قتل اطفال أوستيا ، ويستخدمة الإسلام البدوى ضد الإسلام الزراعى فى دارفور
.الملحظ الطريف أنهم وهم يتحدثون عن المقاومة في العراق لا يصفونها أبداً بالوطنية، إنما هي المقاومة الشريفة، هى المقاومة الباسلة، هى المقاومة الإستشهادية، هم أسود الله، أما المتكرر المعتاد فهو المقاومة الإسلامية، وهو ما يعني فورا أن الموتى من المسلمين علي أيدي هذه المقاومة الإسلامية هم من غير المسلمين.. هذا قول المعتدلين.
أما الأكثر طرافة هبتهم هبة رجلٍ واحد للحديث عن الحريات وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والمساواة والديموقراطية والعدل، وترديدهم ذلك من باب التأكيد أنهم قد آمنوا بهذه القيم الإنسانية الراقية، وأنهم سيشاركون في عملية الإصلاح، وهو ما يعني أن هناك فساداً يعرفه الجميع، لأن الجميع يدعون إلي الأصلاح، نحن، وهم، والدول الأجنبية، وحتى حكوماتنا تدعو للإصلاح؛ ولا نفهم لمن نوجه دعوتنا بالإصلاح، العالم كله يدعونا للإصلاح، وهذه الدعوة المخجلة المهينة موجهة للمسلمين دون شعوب العالم.
والملاحظ أن المشايخ أو الكهنة والدولة التي هى الحكومة، والحكومة التى هى الدولة (هذا حظ بلادنا)، والإخوان المسلمين، وجميع الأحزاب والهيئات يطلبون جميعاً الإصلاح، كما لو أن أحداً قد منعهم قبل ذلك من الإصلاح عبر زمننا الطويل الأسود من قرن الخروب، كما لو أن هناك من أعترض محاولة تطبيق أياً من تلك الألفاظ المحترمة التى يلوكونها منذ فجر الخلافة، وحتى يومنا الهباب الحالي، ولو مرة يتيمة واحدة.
مشكلتنا إذن هى مع فريق النصابين المشتغلين بالدين علينا، الذين يقومون بإستحضار الألفاظ من أكفان 1425عاما مضت ثم يحملونها بدلالات ومفاهيم زماننا، رغم أن دلالات لفظنا الحفري لا علاقة لها بدلالات اليوم، بل يصل التباعد بينهما إلي درجة النقيض الكامل.
إنهم يعيدون فرش بيت أجدادنا المهجور العتيق ، الذي تسكنه العناكب والخفافيش والجن والسعالي والغيلان والبراق وناقة صالح ونملة سليمان وصاحب الصيحة ومصاصى الدماء ، يعيدون فرشة من أرقى بيوت الخبرة الفرنسية .....من بيت ديكارت, وبيت روسو, وبيت فوليتر، ومن كبريات دور الحقوق والأمريكية المؤسسية كديكور حداثي متفوق، تقف جميعاً في خدمة حرية المواطن الفرد. ثم يقولون لنا أن هذا هو ميراث أجدادنا.
يقول الغرب: ديموقراطية نقول: عندنا شورى
, يقول الغرب: إنتخابات حرة نقول: عندنا بيعة،
يكتشفوا فاكسينات للقضاء علي معظم الأمراض القاتلة، نعيد نحن اكتشاف بول الناقة كسبق علمي لأنه فاكسين لكل ما اكتشف وما لم يكتشف بعد، فاكسين رباني...لم يصنعه بشر.
هذا رغم أن المسلم زمن الدعوة لم يفهم من الشورى ما نفهمه اليوم من الديوقراطية، لأن الديوقراطية بمعناها المعاصر هي شأن معاصر لم تكن له دلالات معلومة من المخزون الثقافي البشري قبل اكتشاف العقد الإجتماعي والمبادئ الحقوقية ثم الديموقراطية المعاصرة، نعم كان لها جذورها الأولي عند الرومان وقبلهم عند اليونان، إلا أن الإسلام ونصوصه لم يأتيا بذكر لهذه الديموقراطيات الأولى بالمرة.
وضمن هذا الفريق المتفلسف مجموعة لا تملك معها إلا الشعور بإحتقار وإزدراء حقيقيين، وهم من يطلعون علينا كل يوم بتفسير عصري جديد للقرآن والحديث، مع كل إضافة علمية أو مع أى كشف جديد.
يريدون تكريس وهم سار مسرى الحقائق بين المسلمين وهو صلاحية مأثورهم للعمل فى كل زمان ومكان.
بينما ما يفعلونه هو إعادة ترجمة اللفظ القديم وتحميله بثقافة ومعارف زماننا، التى لم تكن موجودة في مخزون المسلمين الثقافي قبل تلك الترجمة.
الغريب والمثير للدهشة والحزن والقرف والغثيان فى آن معاً، هو أنهم مثل الجميع يؤمنون بحقيقة التخلف الذي آلت إليه أمة محمد في قاع العالم، وأنهم مثل الجميع يؤمنون بضرورة إجراء إصلاحات تحديثية لمجتمعتنا علي كل المستويات، حتي يمكن لبعض أمة محمد أن يلحقوا بأخر قاطرة في قطار الحضارة.
وهو ما يعني أننا نعاني من تخلف علنيّ مهين مروع لم يعد بالإمكان تزيينه بمساحيق التجميل لشدة قبحه.
وصلنا معه إلي مرحلة لم تعد حتى تثير شفقة الضمير العالمي التى تثيرها لديه الحيوانات حتي غير الأليفة منها حرصاً على بقاء نوعها، لقد هبطنا عن ذلك الدرك مسافات.
هبطنا لدرجة السطو علي المنجز الإنساني بكل علمائه ومعاهده وأبحاثه والأموال المصروفة والجهود البشرية المبذولة بكل بساطه، بإعادة ترجمة اللفظ وتحميله بثقافات ومعارف زماننا غير الموجود من الأصل في مخزوننا الثقافي المتضمن في اللفظة القديمة. وهو تزوير مفضوح يبذلون فيه جهوداً جمة دون أى عائد أو ناتج يعود علي المواطن أو الوطن، سوى مزيد من غيابه في غياهب جهله المركب وليلة البهيم الطويل .
انظروا معي لفريق رجال الدين الذين قرروا دخول مباراة الإصلاح فاكتشفوا أن الديموقراطية ليست شيئاً سوى الشورى الإسلامية. وهو ما يستدعي التساؤل الساذج: إذا كانت الديموقراطية هي الشورى ؛ وكانت مبادئ الديموقراطية وقيمها ومؤسساتها معلومة لدى الصحابة، فلماذا لم يفعلوها ؟!
لماذا لم يقيموا مجتمعاً يقوم علي العقد الإجتماعي ويقنن للإنسان حقوقاً ويقيم لتلك الحقوق دستوراً وقانوناً ومؤسسات تحميها، ويقيم هيئة أمم متحدة ومحكمة عدل دولية كناتج ضروري للديموقراطية قبل أن يكتشفها أهل الطاغوت بخمسة عشر قرناً
. لماذا لم يفعلوها وينقلوا مجتمعهم وزمنهم كله نقلة عظيمة كانت كفيلة بجعل أمة المسلمين سيدة أمم العالم حتى اليوم؟ وكنا علمناها للغرب كما سبق وعلمناه الاسطرلاب والسيمياء والخوارزميات وبقية أشيائنا العجيبة ، ولتقدمت البشرية إلى مسافات لا تدركها المخيلة عما هى عليه اليوم. لماذا لم يفعلها الصحابة إذن؟
العجيب أن دعاة الإصلاح من مشايخنا يرون ان الإصلاح يكون بالعودة إلي ما كان سبباً في حاجتنا للإصلاح؛ بالعودة لخير القرون إلي زمن وإلى ناس قتلوا بعضهم بعضاً علي الدنيا، ولم يعرفوا كيف يصلحون مجتمعهم ومعهم رب السماء والصحابة والمبشرين بالجنة وأمهات المؤمنين بعد ذلك ظهيراً بدلاً من قتل بعضهم بعضاً .
لو كانت معلومة لديهم لفعلوها ولتفتحت أمام الإنسانية أفاق خقوق إنسانية وعلم عظيم مبكر، ولما لجأوا بصلاة الغيث لإنزال المطر حتي اليوم، بل لأنزلوه بالعلم قسراً وجبراً وبالكمية المطلوبة وفى المكان المطلوب كما فعل الكافرون.
ولما لجأوا لحل مشاكلهم بالصلاة والأدعية والقنوت والتهجد وتحريض رب السماء ليخرب لنا بيوتهم وتيتيم أطفالهم ويغنم المسلمين أموالهم كما هو حالنا حتي تاريخه.
ولو قلنا أن الديموقراطية كانت معلومة لديهم وأنها كانت من صلب دينهم ولم يطبقوها ، فسيكون ذلك ظلماً عظيماً لهم، وظلما عظيماً لديننا لمطالبته بما ليس فيه فنضعه أمام حائط المستحيل، خاصة مع فشل التطبيق المعلوم بدون تزويق في كتبنا التراثية على مدى القرون الماضية، ومع هذا الفشل يكمن السبب هو أنهم ما كانوا يعلمون معنى التعددية والحرية والحقوق، فأختفت كل الفرق الإسلامية لأن سادة الدين وسدنته حلفاء السلطان رفضوا أى فرقة ناجية حبيبة للة سواهم؛ لأنهم ببساطة لم يعرفوا معنى الحرية والتعدد الديموقراطي بالمرة.
وهذا أيضاً ظلم لعقولنا وإهانة لإنسانيتنا عندما يطلبون لنا تجربة أثبتت فشلها على مدار أربعة عشر قرناً ، فشلاً تاماً وكاملاً وذريعاً ومتواصلا بكل ألوان الفشل وتفاصيله ومعانيه، إنه ليس ظلماً لعقولنا فقط بل هو إهانة علنية لها.
وحتى عشية حضور العم سام إلى المنطقة مباركاً؛ كان الإسلاميون يصرون على الخلافة والقوة المجردة لاحتلال العالم. لكن بعد حضورخليفة العالم الحقيقي بما يملك من مؤهلات الخلافة، واحتلاله مقر الخلافة الإسلامية في بغداد، قام الإسلاميون يعيدون تنسيق ما بقي بأيديهم من أوراق لتتنفق ومطاليب سيد العالم الجديد .
فقاموا يعلنون أنهم هم أهل الإصلاح بل هم الإصلاح نفسه، وأصبحوا يحدثونا عن الديموقراطية كحل إسلامي مؤكد ؛ كما لو أن أحداً قد حاول منعهم من إقامتها، وهم رقود علي أنفاسنا عبر القرون المظلمة الماضية.
الغريب أنهم يهتفون بطلب اليوم الحرية لإنشاء أحزابهم الدينية وممارسة دعوتهم لكراهية الغير وقتلة كلما أمكن ، ويصادرون الحرية علناً، إنهم يطلبون الحرية لأنفسهم فقط دون بقية المواطنين، لأنهم لو كانوا أهلاً للحرية لأصدروا أبسط قررارت الحرية، بالأفراج عن الكتب والأفلام والمقالات والمجلات الممنوعة حتى الآن.
إنهم أكتر ضعفاً من مواجهة الكلمة، فتراهم كيف سيجعلون حياتنا فى ضوء فهمهم لمعنى الحرية إذا امتلكوا أقدارنا ؟ .
بقلم : سيد القمنى
فإذا تغير المكان والزمان واستمرت اللفظة قائمة لم تندثر فإنها لابد وأن تكتسب مدلولاً جديداً يليق بهذه المتغيرات.فاللفظة حقيبة نضع فيها ما نشاء وما نحتاج إليه من أفكار ومعان ودلالات ومفاهيم، ويمكنا الإضافة إليها وكذلك يمكنا الحذف منها وفق أليات المتغير الموضوعي، وربما تستمر اللفظة هي هي لكن مضمونها لابد أن يتغير، كذلك دلالاتها وما نفهمه منها، كذلك يمكن أن تختفي هذه الحقيبة بالمرة وأن تظهر حقائب أخري جديدة.
وعليه فإن أى نص تم تدوينه في زمن ومكان بعينه، فقد تمت صياغته وصبه في قالب زمكانه، فينطبع بطابع ثقافة مجتمعه، وتقاليده، وعاداته، وسلوكيات أهل زمانه وقيمهم وقواعدهم الحقوقية.
ولا يمكن إدراك الفهم الحقيقي لدلالات أى نص بإستخدام ثقافة مختلفة عادة ما تؤدي إلى نتائج زائفة ومضللة، لأن النص هو حفرية لغوية تحمل صورة حية لمجتمعها الذي صاغها ومحيطها البيئي وزمانها.
ومع التطور تظهر ألفاظ وتعابير جديدة، مع ظهور الجديد دائماً في حياة البشر من كشوف ومخترعات وعلوم طبيعية وإنسانية وقيمية وقانونية وأخلاقية.. إلخ.
وتحمل هذه الألفاظ الجديدة تاريخ ميلادها بدلالات زمن نحتها أو تخليقها، لتضاف من بعد إلى المعجم اللغوي لأصحابها ومخزونهم المعرفي. وتظل مستمرة لتحمل دلالات جديدة او تتغير أو تختفي من اللغة.مع التسارع الهائل في الكشوف والمتغير التطوري الصاعد للبشرية، حدث ذات التسارع على مستوى اللغة ميلاداً وموتاً وتطوراً
.ففي مصر كانت هناك ألفاظ أساسية يعرفها الجميع لارتباطها بطبيعة البلد الزراعية زماناً ومكاناً وبيئة، ظلت معلومة حتى لأبناء جيلي، لتختفي من بعد مع ظهور الميكنة الزراعية المتطورة، وذلك مثل كلمات الشادوف والطنبور والنورج، لن تجد من يعرفها من أبناء القرية المصرية اليوم، فقد اختفى اللفظ باختفاء الشيئ، فكان الشادوف والطنبور لرفع المياه اعتمادا على القوة العضلية وهو ما لم تعد له حاجة مع اخنراع مكائن الرفع، واختفت كلمة النورج باختفاء النورج الذى كان ألة بدائية تفصل القشور عن الحبوب، لكن زمن النورج والشادوف والطنبور لم يكن أحد يعلم معنى كلمة تليفزيون او كمبيوتر أو ريموت كنترول أو تليفون محمول لأنها لم تكن قد وجدت بعد.
وغير أسماءالأشياء هناك التعبيرات ذات الدلالات المعنوية المفهومية ، وذلك مثل (علاقة شريفة) بين ذكر وأنثى، فهى عندنا تعنى عقد نكاح علني بين الزوج (الذي عليه دفع أجر المرأة مهراً مفروض شرعاً) وبين ولي المرأة.
بينما ذات التعبير في مكان آخر بالغرب في ذات الزمان يحمل دلالة مختلفة تماماً، فهو تراض بين ذكر وأنثى ولا دور للمجتمع ولاللدين بالمنع أو بالسماح أو لتشريف العلاقة أو لتبخيسها، لأن الدلالة الجديدة ليست حلالاً أو حراماً بقدر ما هى شأن شخصي لا دخل للدين أو المجتمع بها، بل إن مهمة المجتمع حمايتها ورعايتها، فدلالة العلاقة الشريفة في الغرب تقوم علي حرية الاختيار والتراضي التي هي عندهم قدس الأقداس.
و قياساً علي ما سلف لا يعود هناك أى معنى للقاعدة الفقهية التي تقول: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، والتي ربما جازت في التعميم علي زمانها، لكنها لا تصح بالتعميم علي كل مكان حتى في زمنها.
وطالما أن الإسلام قد ظهر في جزيرة العرب وبلغتهم في القرن السابع الميلادي، وحتى نفهم مقاصده الحقيقية، فلابد أن نتعامل مع الألفاظ بدلالات زمنها، كما كان يفهمها أهل مكانها البيئي وظرفهم الإجتماعي والاقتصادي وليس كما يشرحها لنا وعاظ أيامنا ليحملوها بدلالات لم يقصدها السلف ولا أرادته اللغة بل ولم تعرفه اللفظة أصلاً.
لمزيد من التدقيق نضرب أمثلة أخرى، فكلمة الناس الواردة على تكرار في القرآن والحديث والرسائل المدونة والنصوص الأخرى المختلفة لأهل ذلك الزمان، كانت تعنى بالناس العرب وحدهم
. ومع ازدياد عدد المسلمين أصبحت تخص العرب المسلمين وحدهم، وهو موقف نفسي ينعكس في اللفظ، وشأن مكرر ومعلوم حتى عند أقدم الشعوب المتحضرة، فالمصري القديم مثلاً كان يقصد بلفظ الناس المصريين وحدهم، وما عداهم أنواع أدنى من الكائنات الشبه إنسانية، وفي زمن الإمبراطورية المصرية تم السماح للأجانب بالتجارة في مصر والسكنى فيها مما دفع الحكيم، نفررحو، وهو يتنبأ بنهاية العالم ومجئ يوم الدينونة للقول: "انظروا إن نهاية الأيام تقترب، ألا ترون الأجانب في مصر قد أصبحوا من الناس ؟!".
وهو نفس الموقف الذي تبناه الرومان فكانوا هم الناس وما عداهم برابرة، اعتزازاً بتطورهم الحقوقي والقانوني، وهو ما كان يدفعهم لرؤية المجتمعات التي بلا قانون دستورى في حكم التجمعات الحيواني المتوحشة
. وكلمة مثل (الأرض) كانت تستخدم في بلاد العرب الوعرة للدلالة علي جزيرة العرب بالذات، وأحياناً تتم إضافة دول العالم المعروف لبدو الجزيرة، وفي هذا الحال كان يفضل العربي لفظ (العالم والعالمين).
لكنه لم يكن يعلم ما يعلمه تلميذ الإبتدائي اليوم، وما تستحضره لفظة الأرض من دلالات ومعان، فهي اليوم تستدعي النظام الكوكبي مقارناً بالنظام النجمي الشمسي، مقارناً بنظام المجرات النجمية، وخصائص كل منها، وأن الأرض ضمن تسع كواكب هي المجموعةالشمسية، وأن للأرض خصائص أخرى فهي تتكون من خمسة قارات وست محيطات و.. إلخ... إلخ.
مثال أخر من لون المعاني المجردة، لفظ (القدرة)، كانت تعبر عند العربي عن القوة المادية البدنية بإطلاق، ففي رسالة الغفران التي وصلتنى بعد إعلان توقفي عن كتابة كفرياتي في روزاليوسف تحت التهديد بالقتل، جاء القول: "وحسبك أنك نجوت من قتل محقق، أى والله، بعد أن أعددنا البيان الذي كنا سننشره علي الأنترنت بعد قتلك. وقد اعترض بعض الأخوة علي إيقاف العملية، علي اعتبار أن الزنديق لا تقبل توبته وإن تاب، ولكن الأمير حفظه الله حسم هذا الخلاف بترجيح أن المرتد إن تاب قبل القدرة عليه و تقبل توبته، لقوله سبحانه: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم" انتهى ..... وهو ما يقوم علي عدم قبول الله إيمان فرعون عند الغرق وهو تحت القدرة، والمعنى أني قد تبت قبل أن يصل السلاح إلي عنقي، أو علي الأقل قبل خطفي
. كانت القدرة هى القوة المادية بإطلاق، بينما اليوم أصبحت القدرة مخزناً لقوانين العلم وإصطلاحاته، فهي الفولت في الكهرباء، وهى الحصان أو الطن في المحركات، وهى الأمبير، وهى الأوم والوات في الصوتيات، وهى الريختر في الزلزال، وهى الأوزان الذرية... إلخ، لكن أصحاب التهديد الإرهابى الذين ردوا علي توقفي عن النشربرسالة الغفران، يحفظون اللفظ في لفائف دلالاته القديمة ليحمل ذات الدلالات القديمة، وهو إسلوب مفهوم متسق، لا يعمد للتزوير والخداع والمراوغة اللفظية، وهو خطاب يقف في مكانه الطبيعي داخل منظومته دون تناقض، لأنه يحدد إدراكه وفق ما تمت كتابته بفكر وعقل من كتبه يوم كتبه.
المشكلة فيمن يزورون علينا وعلي المسلمين كذباً ونفاقاً، ويقدمون لنا ألفاظاً وتعابيرا من الماضي محملة بدلالات من فكر وعلم وتقاليد وعادات وقوانين اليوم.
المثير للرعب أن هذا الخطاب المخاتل يجد صدى لدى من يملكون القوة في العالم اليوم من دول عظمى، وتنطلي عليهم خديعته لأنهم خارج كل تعقيدات الفرق الفقهية المتراكمة عبر الزمن، ومن ثم لا يملكون أدوات النفاذ للدلالات الحقيقة لما يطرحه الإسلام السياسي علي عالمنا اليوم، فيتصورون ذلك إعتدالاً بعكس التطرف الدموي، ويفهمون عنهم أنهم قوم وسطيون يدعون للمحبة والتسامح والمساواة، ويتلهفون علي الديموقراطية تلهفاً، بينما شاعرهم الأمجد يشرح شأن العرب قائلاً: نحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر.
لكن هذا الفريق المعتدل الوسطي الديموقراطي هو نفسه من يحدثنا عن المقاومة الشريفة في العراق الحزين، المقاومة بتفجير الأجساد، سواء كان الجسد جسد المفجر، أو جسد الأم الممزق وجسد طفلها الرضيع في حضنها يرضع ثدياً ممزقا، سواء كان يهودياً أو مسلماً أو من أى ملة أو أى لون.
ويقول لنا المعتدلون أن هذه المقاومة دفاع شرعي عن الوطن ؟! فأى وطن يقصدون؟!
يقولون إنهم يفعلون فى العراق فعل فرنسا (مقاومة وطنية) عندما إحتلها النازي؟
ولكن هل في الإسلام أى مفهوم عن الوطن كما هو حال فرنسا؟!
إن الإسلام لم يكن فيه معنى للوطن كما نفهمه اليوم، ولا حتى كما فهمه العراقي القديم، أو الشامي أو المصري القديم، لأن الإسلام هو الوطن ولا يعترف بالأوطان لأنه إنما المسلمون أمة لا اله إلا الله أينما كانوا بدون حدود وطنية. وحتى هذه اللحظة الراهنة لا يعترف هؤلاء بالوطن والمواطنة جميعاً علي إتفاق، من ابن قرضاوي إلي ابن عاكف إلي ابن هويدي إلي ابن باز، فلماذا إذن المقاومة؟!
أم الصواب أن يتم الإعتراف أولاً بالوطن وإعلاء شأن الوطنية علي بقية القيم أرضية كانت أم سماوية حتى يمكن الحديث بعد ذلك عن المقاومة الوطنية.
ورغم ذلك يستخدمون اللفظ المستحدث (المقاومة) للدلالة علي جرائم حرب وإبادة جماعية بكل معنى الكلمة.
فهى حرب بربرية يخوضها الإسلام السياسي والوهابي والشيعي ضد كل الدنيا بمنطق ما وراء ألف واربعمائة عام مضت, علي أرض العراق ضد العراقيين جميعاً.
ويمارسة الشيشان فى قتل اطفال أوستيا ، ويستخدمة الإسلام البدوى ضد الإسلام الزراعى فى دارفور
.الملحظ الطريف أنهم وهم يتحدثون عن المقاومة في العراق لا يصفونها أبداً بالوطنية، إنما هي المقاومة الشريفة، هى المقاومة الباسلة، هى المقاومة الإستشهادية، هم أسود الله، أما المتكرر المعتاد فهو المقاومة الإسلامية، وهو ما يعني فورا أن الموتى من المسلمين علي أيدي هذه المقاومة الإسلامية هم من غير المسلمين.. هذا قول المعتدلين.
أما الأكثر طرافة هبتهم هبة رجلٍ واحد للحديث عن الحريات وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والمساواة والديموقراطية والعدل، وترديدهم ذلك من باب التأكيد أنهم قد آمنوا بهذه القيم الإنسانية الراقية، وأنهم سيشاركون في عملية الإصلاح، وهو ما يعني أن هناك فساداً يعرفه الجميع، لأن الجميع يدعون إلي الأصلاح، نحن، وهم، والدول الأجنبية، وحتى حكوماتنا تدعو للإصلاح؛ ولا نفهم لمن نوجه دعوتنا بالإصلاح، العالم كله يدعونا للإصلاح، وهذه الدعوة المخجلة المهينة موجهة للمسلمين دون شعوب العالم.
والملاحظ أن المشايخ أو الكهنة والدولة التي هى الحكومة، والحكومة التى هى الدولة (هذا حظ بلادنا)، والإخوان المسلمين، وجميع الأحزاب والهيئات يطلبون جميعاً الإصلاح، كما لو أن أحداً قد منعهم قبل ذلك من الإصلاح عبر زمننا الطويل الأسود من قرن الخروب، كما لو أن هناك من أعترض محاولة تطبيق أياً من تلك الألفاظ المحترمة التى يلوكونها منذ فجر الخلافة، وحتى يومنا الهباب الحالي، ولو مرة يتيمة واحدة.
مشكلتنا إذن هى مع فريق النصابين المشتغلين بالدين علينا، الذين يقومون بإستحضار الألفاظ من أكفان 1425عاما مضت ثم يحملونها بدلالات ومفاهيم زماننا، رغم أن دلالات لفظنا الحفري لا علاقة لها بدلالات اليوم، بل يصل التباعد بينهما إلي درجة النقيض الكامل.
إنهم يعيدون فرش بيت أجدادنا المهجور العتيق ، الذي تسكنه العناكب والخفافيش والجن والسعالي والغيلان والبراق وناقة صالح ونملة سليمان وصاحب الصيحة ومصاصى الدماء ، يعيدون فرشة من أرقى بيوت الخبرة الفرنسية .....من بيت ديكارت, وبيت روسو, وبيت فوليتر، ومن كبريات دور الحقوق والأمريكية المؤسسية كديكور حداثي متفوق، تقف جميعاً في خدمة حرية المواطن الفرد. ثم يقولون لنا أن هذا هو ميراث أجدادنا.
يقول الغرب: ديموقراطية نقول: عندنا شورى
, يقول الغرب: إنتخابات حرة نقول: عندنا بيعة،
يكتشفوا فاكسينات للقضاء علي معظم الأمراض القاتلة، نعيد نحن اكتشاف بول الناقة كسبق علمي لأنه فاكسين لكل ما اكتشف وما لم يكتشف بعد، فاكسين رباني...لم يصنعه بشر.
هذا رغم أن المسلم زمن الدعوة لم يفهم من الشورى ما نفهمه اليوم من الديوقراطية، لأن الديوقراطية بمعناها المعاصر هي شأن معاصر لم تكن له دلالات معلومة من المخزون الثقافي البشري قبل اكتشاف العقد الإجتماعي والمبادئ الحقوقية ثم الديموقراطية المعاصرة، نعم كان لها جذورها الأولي عند الرومان وقبلهم عند اليونان، إلا أن الإسلام ونصوصه لم يأتيا بذكر لهذه الديموقراطيات الأولى بالمرة.
وضمن هذا الفريق المتفلسف مجموعة لا تملك معها إلا الشعور بإحتقار وإزدراء حقيقيين، وهم من يطلعون علينا كل يوم بتفسير عصري جديد للقرآن والحديث، مع كل إضافة علمية أو مع أى كشف جديد.
يريدون تكريس وهم سار مسرى الحقائق بين المسلمين وهو صلاحية مأثورهم للعمل فى كل زمان ومكان.
بينما ما يفعلونه هو إعادة ترجمة اللفظ القديم وتحميله بثقافة ومعارف زماننا، التى لم تكن موجودة في مخزون المسلمين الثقافي قبل تلك الترجمة.
الغريب والمثير للدهشة والحزن والقرف والغثيان فى آن معاً، هو أنهم مثل الجميع يؤمنون بحقيقة التخلف الذي آلت إليه أمة محمد في قاع العالم، وأنهم مثل الجميع يؤمنون بضرورة إجراء إصلاحات تحديثية لمجتمعتنا علي كل المستويات، حتي يمكن لبعض أمة محمد أن يلحقوا بأخر قاطرة في قطار الحضارة.
وهو ما يعني أننا نعاني من تخلف علنيّ مهين مروع لم يعد بالإمكان تزيينه بمساحيق التجميل لشدة قبحه.
وصلنا معه إلي مرحلة لم تعد حتى تثير شفقة الضمير العالمي التى تثيرها لديه الحيوانات حتي غير الأليفة منها حرصاً على بقاء نوعها، لقد هبطنا عن ذلك الدرك مسافات.
هبطنا لدرجة السطو علي المنجز الإنساني بكل علمائه ومعاهده وأبحاثه والأموال المصروفة والجهود البشرية المبذولة بكل بساطه، بإعادة ترجمة اللفظ وتحميله بثقافات ومعارف زماننا غير الموجود من الأصل في مخزوننا الثقافي المتضمن في اللفظة القديمة. وهو تزوير مفضوح يبذلون فيه جهوداً جمة دون أى عائد أو ناتج يعود علي المواطن أو الوطن، سوى مزيد من غيابه في غياهب جهله المركب وليلة البهيم الطويل .
انظروا معي لفريق رجال الدين الذين قرروا دخول مباراة الإصلاح فاكتشفوا أن الديموقراطية ليست شيئاً سوى الشورى الإسلامية. وهو ما يستدعي التساؤل الساذج: إذا كانت الديموقراطية هي الشورى ؛ وكانت مبادئ الديموقراطية وقيمها ومؤسساتها معلومة لدى الصحابة، فلماذا لم يفعلوها ؟!
لماذا لم يقيموا مجتمعاً يقوم علي العقد الإجتماعي ويقنن للإنسان حقوقاً ويقيم لتلك الحقوق دستوراً وقانوناً ومؤسسات تحميها، ويقيم هيئة أمم متحدة ومحكمة عدل دولية كناتج ضروري للديموقراطية قبل أن يكتشفها أهل الطاغوت بخمسة عشر قرناً
. لماذا لم يفعلوها وينقلوا مجتمعهم وزمنهم كله نقلة عظيمة كانت كفيلة بجعل أمة المسلمين سيدة أمم العالم حتى اليوم؟ وكنا علمناها للغرب كما سبق وعلمناه الاسطرلاب والسيمياء والخوارزميات وبقية أشيائنا العجيبة ، ولتقدمت البشرية إلى مسافات لا تدركها المخيلة عما هى عليه اليوم. لماذا لم يفعلها الصحابة إذن؟
العجيب أن دعاة الإصلاح من مشايخنا يرون ان الإصلاح يكون بالعودة إلي ما كان سبباً في حاجتنا للإصلاح؛ بالعودة لخير القرون إلي زمن وإلى ناس قتلوا بعضهم بعضاً علي الدنيا، ولم يعرفوا كيف يصلحون مجتمعهم ومعهم رب السماء والصحابة والمبشرين بالجنة وأمهات المؤمنين بعد ذلك ظهيراً بدلاً من قتل بعضهم بعضاً .
لو كانت معلومة لديهم لفعلوها ولتفتحت أمام الإنسانية أفاق خقوق إنسانية وعلم عظيم مبكر، ولما لجأوا بصلاة الغيث لإنزال المطر حتي اليوم، بل لأنزلوه بالعلم قسراً وجبراً وبالكمية المطلوبة وفى المكان المطلوب كما فعل الكافرون.
ولما لجأوا لحل مشاكلهم بالصلاة والأدعية والقنوت والتهجد وتحريض رب السماء ليخرب لنا بيوتهم وتيتيم أطفالهم ويغنم المسلمين أموالهم كما هو حالنا حتي تاريخه.
ولو قلنا أن الديموقراطية كانت معلومة لديهم وأنها كانت من صلب دينهم ولم يطبقوها ، فسيكون ذلك ظلماً عظيماً لهم، وظلما عظيماً لديننا لمطالبته بما ليس فيه فنضعه أمام حائط المستحيل، خاصة مع فشل التطبيق المعلوم بدون تزويق في كتبنا التراثية على مدى القرون الماضية، ومع هذا الفشل يكمن السبب هو أنهم ما كانوا يعلمون معنى التعددية والحرية والحقوق، فأختفت كل الفرق الإسلامية لأن سادة الدين وسدنته حلفاء السلطان رفضوا أى فرقة ناجية حبيبة للة سواهم؛ لأنهم ببساطة لم يعرفوا معنى الحرية والتعدد الديموقراطي بالمرة.
وهذا أيضاً ظلم لعقولنا وإهانة لإنسانيتنا عندما يطلبون لنا تجربة أثبتت فشلها على مدار أربعة عشر قرناً ، فشلاً تاماً وكاملاً وذريعاً ومتواصلا بكل ألوان الفشل وتفاصيله ومعانيه، إنه ليس ظلماً لعقولنا فقط بل هو إهانة علنية لها.
وحتى عشية حضور العم سام إلى المنطقة مباركاً؛ كان الإسلاميون يصرون على الخلافة والقوة المجردة لاحتلال العالم. لكن بعد حضورخليفة العالم الحقيقي بما يملك من مؤهلات الخلافة، واحتلاله مقر الخلافة الإسلامية في بغداد، قام الإسلاميون يعيدون تنسيق ما بقي بأيديهم من أوراق لتتنفق ومطاليب سيد العالم الجديد .
فقاموا يعلنون أنهم هم أهل الإصلاح بل هم الإصلاح نفسه، وأصبحوا يحدثونا عن الديموقراطية كحل إسلامي مؤكد ؛ كما لو أن أحداً قد حاول منعهم من إقامتها، وهم رقود علي أنفاسنا عبر القرون المظلمة الماضية.
الغريب أنهم يهتفون بطلب اليوم الحرية لإنشاء أحزابهم الدينية وممارسة دعوتهم لكراهية الغير وقتلة كلما أمكن ، ويصادرون الحرية علناً، إنهم يطلبون الحرية لأنفسهم فقط دون بقية المواطنين، لأنهم لو كانوا أهلاً للحرية لأصدروا أبسط قررارت الحرية، بالأفراج عن الكتب والأفلام والمقالات والمجلات الممنوعة حتى الآن.
إنهم أكتر ضعفاً من مواجهة الكلمة، فتراهم كيف سيجعلون حياتنا فى ضوء فهمهم لمعنى الحرية إذا امتلكوا أقدارنا ؟ .
بقلم : سيد القمنى
يتلقى الكاتب المكالمات التليفونبة من الخامسة مساء إلى السابعة مساء بتوقيت القاهرة على تليفون رقم 0020189914505 عدا يومى الخميس والجمعة
نقلاً عن الحوار المتمدن
نقلاً عن الحوار المتمدن
No comments:
Post a Comment