يرصد الدكتور خليل فاضل عوالم بشرية تبدأ من الواقع تضيف إليه وتسرق منه، فقد إنغمس في جروح المجتمع وأوجاعه، يفتش في مشاكله، يعرضها ويحللها، وكأنه يعيش داخل كل بيت، في كل حارة وزقاق وقرية، يعرف هموم المواطن وأوجاعه.وهو ما ظهر جلياًَ في الإهداء الذي جاء فيه "إلى الغرقى في قاع البحر والنهر إلى الأشلاء والعظام المعجونة بحديد وزيت المركبات ودم الأسفلت، إلى المحترقين داخل القطارات والمسارح، إلى الموتى على شواطئ الهجرة وفي عربات الترحيلات إلى كل الموجوعين لفقدان هؤلاء، وإلى كل الموتى على قيد الحياة"
.إنه الإنسان المصرى البسيط الذي يعيش في ظل مجتمع تغيرت ملامحه، موزايك باهت من قيم وثقافة غير واضحة المعالم.
يسعى الكاتب من خلال 314 صفحة من القطع المتوسط، للتوصل إلى الأسباب والعوامل التي أدت إلى إستفحال الأزمة المصرية الإنسانية والأخلاقية والسلوكية والنفسية المستفحلة التي تهدد كيان المصريين والتي يطلق عليها فاضل إسم "التربص الإجتماعي".هذا التربص هو الذي جعل الشخص العادي يفقد الثقة في نفسه وأهله وأصدقائه حتى بات يعدّ أصابع يده بعد أن يمدها للسلام على آخر.
وهو التربّص الذي يتنكر خلف عبارات مثل "معلهش" و"حصل خير" و"خليها عليّ". يتعرض الكتاب في الفصل الأول "الشارع لنا" لظواهر أطفال الشوارع، الفساد الأخلاقي، الخوف من الحميمية، التربص بالآخر، يتحدث عن الشارع الذي إنتشر فيه التسيب والقبح والكلمات الصدئة، راصداًَ فقد المصريين لأغلى ما إمتلكوه وأشهر ما عرف عنهم، وهو الإقتراب من الآخر ومبادلته المشاعر الصادقة والذي حل محله الخوف والفساد الأخلاقي والتربص الإجتماعي والنفور والتوجس وسلوكيات الآكل والمأكول.
وأصبح الناس يخافون من الحميمية العادية أكثر من خوفهم من الجنس وممارسة الحب، فهناك من يفضلون المتعة الذاتية مع النفس عن الحميمية مع الآخر فيصبح الإنسان في حالة توتر مزعجة مما يؤدي به إلى التصرف كشخصية تتجنب النجاح وكأنه محكوم بمنطقة راحة غير مرئية، راحة من التفاعل مع الآخر، تفادي الغم والهم وعذاب الأيام..
يتحدث الدكتور فاضل عن المثقف (الإليت elite) هذا المصطلح الذي تحول عبر سخرية المصريين إلى (الأليط) أي المثقف المتعالي، قائلاًَ إن البأس كل البأس في ألا يطابق المثقف بين ما يضمر وما يعلن، ألا يسمي الأشياء والمواقف بأسمائها فلا يزايد أحد على أحد، ولا أظن المصريين إلا من الذكاء بحيث يمكنهم من التعرف على المثقف الأليط من المثقف العضوي الذي تعنيه بلاده وطموحاتها وهزائمها بقدر ما تعنيه طموحاته وهزائمه، من زاوية أنهما شيء واحد، وكما نرى جميعاًَ فإن نموذج الأليط يسود الحياة السياسية والثقافية حولنا إذ يمكن فرز نخبة لم تجن مصر ولا المصريين من نخبويتهم شيئاًَ.
يتعرض الكاتب في الفصل الثاني "الأسرة وأحوالها" للأب الحاضر الغائب، وإكتئاب المرأة المصرية، المراهقة والمراهقين، عواصف السنة الأولى زواج، قلة ممارسة الجنس وراء الخلافات الزوجية، ولماذا تخلع بعض النسوة أزواجهن؟، كيف نخبر أطفالنا بالطلاق، الزواج العرفي، طلاق الأقباط والعنوسة.
يتحدث عن الأب "حبة اللقاح" الذي ليس له وظيفة أسرية سوى بذر بذرة الحمل من أجل ذرية صالحة أو طالحة، يبدأ أبوته قبل ولادة أطفاله وبعدئذ ينهيها، مؤكداًَ أننا أصبحنا مجتمعاًَ يفتقد إلى الأب بمعناه الأرحب والأشمل، مجتمع يفتقد إلى الحضور النفسي والتربوي والوجداني والمادي للأب بل النوعي المتميز مقارنة بأجيال مضت.
ويرتبط بهذه الظاهرة إنتشار ما يسميه فاضل ب "تربية الخمس دقائق"، إذ لم يعد وقت الأب والأم يتسع لتربية الأبناء لأكثر من ذلك
.والطريف أن وقت الأبناء كذلك لم يعد يتسع لأكثر من ذلك للتربية، فالتعليم يستغرق الوقت كله
.يقول فاضل: «إن موت النظام التعليمي في مصر هو محصلة حتمية لحال المجتمع، الجميع يسعى إلى إصابة الهدف بقليل من الجهد وكثير من الغش، ومن ثم يتولد لدى الجميع الإستعداد للقفز فوق الأسوار وفوق الآخرين".
يتناول المؤلف أيضاًَ مشاكل الزواج في مصر وطلاق الأقباط، والأسباب التي تدفع بالمرأة المصرية لطلب الطلاق أو الخلع معلنة أن (ضل حيطة ولا ضل رجل)، وقال إن الشجار المزمن بين شركاء العمر مجرد واجهة لأمور أخرى، بمعنى أن يكون هناك سبب آخر غير الأمور المادية وتدخلات الأهل أو ضغط العمل ومذاكرة الأولاد والدروس الخصوصية، وأن السبب الأهم بل ربما يكون السبب الوحيد هو الإدعاء بأن العمل والبيت والأولاد لا يتركون أي وقت للتواصل الحميم والإفتقاد إلى دفء عش الزوجية.
في هذا السياق يعتبر فاضل أن الأسرة هي المحور الذي يدور حوله "وجع المصريين"، فهي المنظومة المصرية التي صدمت وجرحت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي
.ويرى أن الأسرة المصرية أصبحت نرجسية للغاية لخوفها الشديد على نفسها وأولادها، فعقمتهم ولفتهم في ورق "سيلوفان" وأقامت سوراً حديدياً على باب الشقة.
في (التعليم والتربية) يناقش العنف المدرسي، وبعبع الثانوية العامة، والآثار النفسية للمدارس الأمريكية، وأشار الكاتب إلى محنة التعليم في ظل أزمة متفاقمة تكاد تصيب مثلثاً، أضلاعه المدرس والطالب والأهل، بالإضافة إلى كثافة الفصول اللامعقولة، مشيراً إلى الثانوية العامة ووسواس الإمتحانات، موضحاً أن القصور في عموم مصر يأتي في أن الإمتحان صار الهدف والأمل والمفصل وعنق الزجاجة، ولا شىء قبله أو بعده!
وفتح د.فاضل ملف المدارس الأمريكية في مصر، وخطورة تواجد مؤسسات ثقافية أمريكية وغيرها على أرض الوطن، حيث تغزو المناهج الأمريكية الطلاب المصريين في بيئتهم، في حين أنهم يأتون من بيئة وثقافة وحضارة مختلفة.. وأضاف أنه كان من الطبيعي أن ينتج عن ذلك الإهتراء التعليمي ما يسمى بـ "عرض الثانوية العامة" الذي جعل عيادات العلاج النفسي متخمة بطلاب قبل ملاقاة "بعبع الثانوية" وبعدها، بالإضافة إلى وسواس الإمتحانات القهري وغيرها من الأوجاع التي تنقل المؤلف إلى فصل بالغ الخطورة والطرافة في آن، وهو «أوجاع أجساد المصريين».
ويمكن لأي مراقب أن يعرف ويتأكد إن حياة غالبية المصريين تتمحور حول الصحة والمرض، والطبيب والأدوية.
وهي دائرة يرى فاضل إنها مقصودة إلى حد كبير، إذ يجد البعض في المرض "ونساً" له حيث يلتف حوله الأهل والأصدقاء
.وأكد أن المصريين يحتاجون إلى معلمين لفن الحياة أكثر منا إلى أطباء
. يعتبر فاضل صحة المصريين النفسية قضية أمن قومي، خصوصاً ان الواقع المصري الحالي يدفع إلى الجنون، ما يعني ان «الوطن في حاجة إلى علاج نفسي حقيقي حتى يصحّ المواطنون».
ولذلك خصص الفصل الخامس لمناقشة: "من الجنون إلى الإنتحار، نفسيتنا قضية أمن قومي، معنى الجنون الإجتماعي، لماذا ينتحر المصريون، والمصريين والاكتئاب".
وراى أن الموت يمثل محوراً مهماً في حياة المصريين عامة، تتداخل فيه عوامل شتى منها الإيمان بالحياة والآخرون والإعتقاد في عذاب القبر لكن أكثر الأسباب شيوعاًَ هو البحث عن حل والتوقف عن الشعور والتعامل مع الحياة.
يتناول الفصل الأخير "إدمان المخدرات" الإدمان والناس في برّ مصر، المخدرات، تجارتها، العلاقة بين الخلل الأسري والسلوك الإدماني، ولماذا ينتكس المدمنون.. وبسرعة؟قال الدكتور خليل فاضل إن المشكلة تفاقمت وتطورت من مجرد التجريب والتعاطي والإدمان إلى انها صارت كمدغ اللبان كأكل الخبز، وتتورط فيها أمور كثيرة من أبرزها الفساد والهجرة والتربية والتعليم والإنفتاح على العالم والإنترنت والطفرة الإجتماعية.
بعد كل هذا.. لماذا نحب مصر؟
سؤال أجاب عليه فاضل في خاتمة الكتاب مستشهداً بصديقه الكويتي الذي قال له "مصر قاسية عليكم وإنتم اللي بتحبوها، هي ليست لكم وليست لأحد غيركم يا مصريين" فمصر هي الحب الأول، الحب الذي لا يطاق، والبريق الذي لا يحتمل.
يذكر أن الدكتور خليل فاضل هو باحث وكاتب وطبيب نفسي وصاحب تجربة فريدة في المسرح النفسي (السيكودراما).
عرض: إسحق إبراهيم
No comments:
Post a Comment