عانت البشرية من الحربين الكونيتين ( الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية ) مآسي فظيعة وكوارث خطيرة هددت مستقبل الانسان ووجوده على هذا الكوكب، وقد شعر المجتمع الدولي، بعد تشكيل منظمة الأمم المتحدة، بأهمية وضع لائحة قواعد أساسية لحقوق الانسان تلزم جميع الأطراف الموقعه عليها بأحترامها طواعية من أجل تجنب الحروب وبناء مستقبل آمن ومزدهر للبشرية في ظل السلام الذي هو قانون الحياة الأساس. ومن هنا أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعلان العالمي لحقوق الانسان في 10 ديسمبر من عام 1948 والذي أعتبر خطوة هامة نحو صياغة وثيقة دولية لحقوق الانسان وتكون لها قوة ملزمة ومعنوية، وقد صادقت عليها جميع الدول في العالم تقريبا عدا بعض الدول ومنها المملكة العربية السعودية التي رفضت التوقيع عليها بحجة إنها تتعارض مع الشريعة الأسلامية. وقد تبع ذلك في عام 1976 إصدار وثائق هامة أخرى هي الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ثم الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية، والبروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية الأخيرة تعزيزا لهذه الحقوق ودعما لها حيث لم تعد الانتهاكات الواقعه على حقوق الإنسان قضية داخلية تمس الوضع الداخلي للدول وإنما قضية مهمة تمس المجتمع الدولي وأمنه وإستقراره وتمس السلام العالمي أيضا، مما دفع المجتمع الدولي الى التدخل لحماية هذه الحقوق في مناطق ساخنة متعددة منها في يوغسلافيا سابقا وفي افريقيا وفي العراق عام 1991 ودارفور في السودان وغيرها، أي إن قضية احترام حقوق الانسان صارت تقيد من مبدأ السيادة المطلقة للدول. وعلى الرغم من صدور هذا الأعلان العالمي والملاحق التي تبعته والعديد من الاتفاقيات الدولية التي تحرم إنتهاكات حقوق الانسان وتدعم قيم الاعلان مثل إتفافية سيداو واتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقية منع تقادم جرائم الحرب وإتفاقية جنيف لعام 1951 المعدلة الخاصة باللجوء وغيرها، إلا أن الحروب لم تتوقف في العالم، وبقيت الإنتهاكات لحقوق الإنسان مستمرة من كثير من الحكومات وأجهزتها القمعية، كما حصلت كوارث إقليمية وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط كان في مقدمتها الحروب العربية – الاسرائيلية والحرب العراقية – الايرانية التي دامت 8 سنوات وما تبعها من إحتلال نظام صدام لدولة الكويت مما ادى الى نشوب حرب عاصفة الصحراء عام 1991 ومن بعدها الحرب على العراق في عام 2003، وهذه كلها سببت أنتهاكات لحقوق الانسان و دمارا وخرابا كبيرين بالاضافة الى إزهاق أرواح ملايين البشر وأدت الى الاصابة بالإعاقات الجسدية والأمراض النفسية لملايين أخرى ما تزال تعاني حتى الأن من أثر هذه الصراعات المسلحة التي سببت الآلام والمأسي لأنها تهدد الحق في الحياة والحق في السلامة البدنية والنفسية للبشر. إحتل العراق، وكذلك البلدان العربية والأسلامية، المرتبة الأولى من بين دول العالم في إنتهاكات حقوق الانسان طبقا لتقارير منظمة العفو الدولية ومراصد حقوق الأنسان، وفي – تقديرنا – فأن هذا يرجع الى عاملين جوهريين وهما: العامل الأول- وجود ثقافة الكراهية بسبب التعصب والتطرف وبخاصة في المناهج الدراسية التعليمية. إذ أن وجود مثل هذه الثقافة في المراحل الدراسية المختلفة في العراق وفي العديد من البلدان في الشرق الاوسط وغيرها من الدول العربية والاسلامية تعني تواصل إهدار حقوق الأنسان ومعاييرها الدولية المتعارف عليها التي يجب أن تكون هي الأساس في التربية والتعليم وليس عبارات الأنتقام والثأر والجهاد وتكفير الآخر والعنصرية أوالتمييز بين البشر على أساس الجنس أواللون أوالأصل أوالدين أوالمذهب، وهذه المفاهيم هي السائده الآن في كتب ( التربية الاسلامية ) والتاريخ والجغرافية والتربية الوطنية وغيرها من الكتب المدرسية، وحتى في مناهج الجامعات في كثير من البلدان، هذا فضلا عن نشر ثقافة الكراهية والتطرف في خطب أغلب المساجد والجوامع عند تأدية صلاة الجمعة من كل إسبوع. والمفروض أن تبنى أسس إنسانية جديدة تزرع في نفوس البشر في هذه البلدان، ومنها مثلا مفاهيم التسامح والحوار ونبذ التطرف والتعصب وإحترام حقوق الإنسان مثل الحق في الحياة والحق في السلامة الجسدية والحق في الإختلاف وإحترام جميع الديانات والمذاهب والمعتقدات و أماكن العبادة وحرية التفكير والتعبير وتحريم تكفير الآخر وإحترام حقوق المرأه وحقوق الطفل وحقوق أصحاب الحاجات الخاصة الذين يعانون من العوق البدني، وغيرها من القيم الأنسانية النبيلة، مع محاسبة من ينتهك هذه المفاهيم حسب القانون، وبدون ذلك لن يكون هناك سلام بين الشعوب وبخاصة في المناطق الساخنة التي يزداد فيها التوتر الديني والعرقي والمذهبي والفكري. العامل الثاني – غياب الديمقراطية وإنعدام الشفافية وضعف دور القانون في البلدان الاسلامية والعربية، ذلك لأن الحكم الشمولي للحزب الواحد أو للقائد الأوحد ونظام عبادة الشخصية للحاكم التي تسود معظم هذه البلدان ترتفع في ظلها وتيرة إنتهاكات حقوق الإنسان مع غياب لتطبيق القانون، سواء أكان نظام الحكم جمهوريا أم ملكيا، وتشهد على ذلك تقارير منظمة العفو الدولية والمنظمات الدولية والجهات الناشطة في ميدان حقوق الأنسان. ففي العراق مثلا، تدهورت أوضاع حقوق الأنسان بصورة خطيرة جدا طيلة أربعة عقود في ظل حكم حزب البعث ونظام صدام بحيث صار الوضع في العراق نموذجا سيئا للدول التي أرتكبت فيها أبشع الجرائم ضد حقوق الأنسان مما دفع بالأمم المتحدة الى التدخل لحماية هذه الحقوق وبخاصة في كوردستان لحماية الكورد وفي الوسط والجنوب لحماية الشيعة غير ان هذا لم يكن كافيا لوقف تدهور أوضاع حقوق الانسان بوجه عام. واذا كانت العدالة قد تحقق منها جانب بسيط بعد زوال النظام في 9 نيسان من عام 2003 من خلال محاكمة بعض رموزهذا النظام ومعاقبتهم إلا أن هناك الكثير من المجرمين ما يزالون دون حساب رغم الجرائم التي ارتكبوها، وهذا ضرر كبير بجوهر العدل والعدالة، كما إن هذه الإنتهاكات لحقوق الانسان استمرت وبشدة رغم سقوط النظام الدكتاتوري، حيث تعرض أتباع الديانات من المسيحيين والصابئة المندائية والأزيديين وأطراف عديدة إخرى الى جرائم بشعه لا يمكن السكوت عليها، وجرت عمليات القتل على الهوية والتعذيب في السجون والإعتقالات العشوائية وبروز ظاهرة البغاء وتجارة البشر وانتشار ظاهرة قتل النساء بدواعي غسل العار وإضطهاد لشرائح كثيرة في المجتمع مما شكل تدهور خطير لوضع حقوق الأنسان في العراق. وفي مصر مايزال التطرف الديني قويا، ويمارس المتطرفون جرائم عمدية ضد أتباع الديانات الأخرى منهم الأقباط الذين يعانون كثيرا من الاضطهاد وانتهاك حقوقهم ومن الجرائم التي ترتكب ضدهم، وكذلك الحال ضد البهائية ولم تكن المرأة بعيدة عن هذه الجرائم فقد نالها الكثير سواء بوجود ظاهرة التحرش الجنسي دون عقاب ام بأنتشار قضية ختان الاناث في الريف المصري بشكل واسع أم غيرها من عشرات الانواع من الانتهاكات لحقوق البشر. وفي سوريا مثلا يتعرض الشعب الكوردي الى حملات الإبادة العنصرية من حكم يتسلح بفكر عروبي متطرف ينتهك حقوق القوميات وأتباع الديانات وحقوق المرأة والناشطين في ميدان حقوق الانسان وأصحاب الرأي الذين يقبعون في السجون بلا محاكمة او بمحاكمات صورية بعيده عن الضمانات الدولية للمحاكمة العادلة. وكذلك الحال في ايران وتركيا حيث تمارسان سياسة عنصرية ضد الشعب الكوردي وتشنان حربا عدوانية ضده. وهناك بعض الدول العربية والإسلامية صار لها سجل خطير في مجال انتهاكات حقوق الأنسان عامة وحقوق المرأة خاصة منها على سبيل المثال العراق وسوريا والسعودية وايران وافغانستان والصومال والسودان وفي بعض الدول من القارة الافريقية التي شاعت فيها الاعتداءات الجنسية ضد الاطفال والتجارة بالبشر مثل الكونغو. وعلى صعيد حقوق المرأه مثلا، فأن جميع الأدلة تشير الى أن هناك سياسة منهجية متخلفة تمارس ضد حقوقها تتمثل في التمييز في مجال العمل، حيث لا تسمح الكثير من الدول العربية والإسلامية للمرأة أن تتولى منصب القضاء على سبيل المثال، فالرجال يحتكرون المناصب القضائية، وإن وجد للمرأة دور في بعض هذه الدول فأن مشاركتها تكون شكلية ومحدودة، وهو خرق فاضح للإعلان العالمي لحقوق الانسان وللإتفاقيات الملحقة به والاتفاقيات ذات الصلة بوضع المرأة مثل اتفاقية سيداو المتعلقة بالقضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة. ولا تزال قوانين العقوبات في كثير من البلدان العربية والاسلامية تكرس العنف والتمييز ضد المرأة والطفل، وتعتبر ضرب الزوج لزوجته وضرب الأولاد تأديبا يدخل ضمن أسباب الإباحة التي تمنع من العقاب، كما ورد مثلا في المادة 41 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل، بينما يعد هذا السلوك في البلدان المتحضرة جريمة يعاقب عليها القانون لأنها تمس حق الأنسان في السلامة البدنية والمعنوية. كما إن تحجيم دور المرأة السياسي صار منهجا في تلك الدول ومنها في العراق والسعودية وايران وغيرها، مع تقييد فرص التعليم العالي لها. ومن الجرائم الخطيرة ضد حقوق الأنسان الواقعه على المرأة في البلدان العربية والاسلامية أرتكاب جريمة تزويج الصغيرات، وختان الأناث، وتعدد الزوجات، وممارسة الأضطهاد النفسي والبدني والفكري على المرأة، والمنع من السفر إلا مع ذكر من المحارم، وغيرها من الممارسات التي تجسد عملية التمييز ضد المرأة. يتضح من ذلك، إن هذه الإنتهاكات ضد حقوق الانسان تزداد بصورة كبيرة جدا في ظل الأنظمة غير الديمقراطية والتي تفتقد للشفافية ويضعف فيها دور القانون، غير إن هذا لا يعني عدم وجود إنتهاكات لحقوق الانسان في ظل الانظمة الديمقراطية، حيث أن هذه الانتهاكات موجوده في جميع دول العالم، ولكن من ينتهك هذه الحقوق في البلدان الديمقراطية يتعرض للمسؤولية والعقاب، بينما تبقى هذه الانتهاكات لحقوق الانسان المرتكبة من الاشخاص ومن مؤسسات الدولة في الدول الغير ديمقراطية بعيدة عن المحاسبة، ويفلت المجرمون غالبا من العقاب، وهنا مصدر الخطر على حقوق الانسان وعلى السلام بين الشعوب. وبمناسبة الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الانسان، نأمل أن يكون العام القادم أكثر إحتراما لهذه الحقوق من الحكومات والأشخاص، وأن تكون هناك محاسبة جاده وفعلية لكل من ينتهك هذه الحقوق حاكما كان أم محكوما إذ لا يجوز للحاكم التذرع بالحصانه مثلا للتخلص من المسؤولية، ونأمل أيضا ان يزول التمييز بين البشر على اساس الجنس، كما نأمل تكريم الناشطات والناشطين في ميدان حقوق الانسان، وأن يكون هناك إحتفاليات يكرم فيها ضحايا هذه الأنتهاكات، و أن تتعزز عملية نشر ثقافة حقوق الانسان بدلا من ثقافة الكراهية والتعصب والتطرف، وأن تتوقف عمليات التعذيب للبشر التي صارت منهجا في السجون والمعتقلات في كثير من البلدان، وأن يصار الى الحد من جرائم الأضطهاد وأن تحترم كل البلدان معايير الإعلان العالمي لحقوق الانسان من أجل التعايش المشترك والأستقرار، وبدون ذلك لن تسلم البشرية من كوارث الحروب التي ما تزال ويلاتها مستمره حتى الآن.
الدكتور منذر الفضل
نقلا عن موقع ايلاف
No comments:
Post a Comment