إذا أردت أن تحصل علي شعبية وجماهيرية رخيصة ودون تكلفة أو جهد تبذله أو وقت تقضيه في الدراسة والبحث، ما عليك إلا أن تسب إسرائيل وتصفها بأحط الصفات، وتنزع عنها القدرة علي الفعل أحيانا، فهي أهون من بيت عنكبوت، وتجعل منها كيانا أسطوريا أحيانا أخري يقف وراء كل النكبات التي نمر بها، وأياديها خلف كل المصائب التي نتعرض لها بدءا من تفجيرات طابا وشرم الشيخ وصولا إلي أعمال القرصنة البحرية التي تجري عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، بهدف حرمان مصر من دخل قناة السويس.
وإذا دخلت في سجال مع طرف يعمل علي نشر المعرفة الدقيقة بإسرائيل ويقول لك منذ البداية عليك أن تعرف إسرائيل جيدا حتي تتخذ قرارا سليما إن سلما أو حربا، فما عليك ألا أن ترفع صوتك عاليا وتقول "تطبيع.. تطبيع" هنا سوف يتعاطف معك عدد كبير ممن تلتهب مشاعرهم تضامنا مع القضية الفلسطينية.
أذكر أننا عندما بدأنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، عام 1995 مع تولي د. عبد المنعم سعيد إدارة المركز، التفكير في إصدار مجلة مختارات إسرائيلية، أذكر أن عدداً من الصحفيين والناشطين في مجال العمل العام في مصر في ذلك الوقت، بدأوا في شن حملة علي المجلة والمركز بدعوي أن المجلة تعد نوعا من التطبيع مع العدو الصهيوني.
والمجلة ببساطة شديدة كانت عبارة عن ترجمة لمقالات صادرة في صحف ودوريات إسرائيلية عبرية، كانت تقدم لباحثي وخبراء مركز الدراسات في الأهرام بشكل أسبوعي لقراءة هذه المقالات حتي يكونوا علي دراية باتجاهات الصحافة العبرية والقضايا محل الاهتمام هناك وكيفية تناول مصر في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وفي عام 1995 كان قرار إدارة المركز بأن هذه المواد علي درجة عالية من الأهمية فلماذا لا تتاح للمثقفين والمتخصصين من خارج المركز، الفرصة للاطلاع عليها، مع تخصيص قسم في المجلة تحت عنوان " رؤي عربية" للرد علي ما يرد في هذه المقالات من أكاذيب أو معلومات مغلوطة. أذكر أن المجلة تعرضت في ذلك الوقت لحملة شديدة ركزت علي أنها تعد تطبيعا مع العدو الصهيوني.
وبمرور الوقت باتت المجلة من أهم مصادر المعلومات عن إسرائيل ولا تخلو أي رسالة علمية لنيل الماجستير أو الدكتوراه في أي جامعة عربية من مجلة مختارات إسرائيلية ضمن قائمة المصادر الرئيسية التي تم الاعتماد عليها، بل إن ما هاجموا مركز الدراسات بسبب إصدار المجلة اعتمدوا عليها كمصدر للمعلومات في مقالات لهم ومداخلات تليفزيونية، فقد أقروا بأن المجلة مصدر مهم للمعلومات بعد أن أقروا بأهمية المعلومة وقيمتها، وتوقفوا عن ممارسة نطريتهم المفضلة " التحليل بغض النظر عن المعلومات".
استعدت هذه الذكريات بمجملها بعد أن تكرر السيناريو تفصيلا عندما بدأ بث برنامج " إسرائيل من الداخل" علي قناة " أو تي في"، فالبرنامج هو المعادل البصري لمختارات إسرائيلية، بمعني أن البرنامج مخصص لتقديم المعرفة عن إسرائيل ويبدأ بجملة واضحة وحاسمة " سواء أردت أن تحارب إسرائيل أو تقيم معها سلاماً، فأنت في حاجة إلي معرفتها أولا" فالبرنامج يقدم تشريحا شاملا لإسرائيل دولة ومؤسسات وأفكاراً وتوجهات، يقدم إسرائيل كما هي في الواقع، دون تهويل أو تهوين، يقدم المجتمع الإسرائيلي كما هو نقاط القوة وجوانب الضعف، يشرح المجتمع الإسرائيلي ويقدم للمشاهد المصري حقائق قائمة لم يسبق له معرفتها مثل الأصولية اليهودية، النازيين الجدد، طبيعة النظام السياسي، إخفاقات جهاز الموساد، العلاقات الشائكة بين شرائح وأعراق المجتمع الإسرائيلي من يهود شرق وغرب، يهود سود وروس.....ويعتمد البرنامج علي تقديم معلومات موثقة عن القضية محور النقاش، ويستضيف متخصصين مصريين للحديث عن الموضوع، مع تقرير في كل حلقة عن الموضوع.
فجأة صرخ البعض تطبيع تطبيع... وكانت الحجة أن الحلقة تتضمن تقريرا من إسرائيل تقدمها مراسلة القناة ( من عرب 1948) عن الموضوع وتأخذ آراء بعض الإسرائيليين في الموضوع. ورغم إدراكي التام أن الحملة في جوهرها لا تخرج عن كونها نوعاً من الابتزاز الرخيص لشخص مالك القناة، ومزايدة من البعض الآخر علي مواقف سياسية، وتورط بعض ثالث في الأمر دون إلمام كاف بأبعاد الحملة التي جري استغلالها لاعتبارات منافسة مهنية، رغم ذلك أقول بأن التطبيع الحقيقي الشامل والمباشر تمارسه قنوات عديدة محل فخر هؤلاء المزايدوين، فهناك قنوات عربية مثل الجزيرة والعربية وأبو ظبي، قامت بتغطية الانتخابات الإسرائيلية والأحداث الكبري من داخل إسرائيل مباشرة وإقامت استوديو خاصاً بها في داخل إسرائيل، واستضافت محللين إسرائيليين في الاستوديو، بل إن التليفزيون المصري استضاف محللين عسكريين إسرائيليين مباشرة عبر الأقمار الاصطناعية -الستالايت- ودخل في حوارات معهم عرضوا فيها وجهات النظر الإسرائيلية بشكل تفصيلي.
والسؤال هنا هل إعداد تقرير عن مدي حقيقة وجود مطبخ إسرائيلي من عدمه هو الذي يمثل خطرا داهما علي المقاطعة الشاملة التي تفرضها مصر والدول العربية علي إسرائيل، وهل في السؤال عن مدي وجود مطبخ يهودي هو الذي يكسر الحصار الحديدي المفروض عربيا علي إسرائيل ؟
إنها مزايدة مريضة من أشخاص ينتمون لمدرسة التحليل دون معلومات، لأن لا معلومات لديهم، ولأنهم لا يطيقون رؤية الحقائق كما هي ويتصورون في مخيلتهم ما يعتقدون أنه واقع، إضافة إلي انضمام شخصيات معروف عنها ممارسة الابتزاز لهذه الحملة للظفر بما اعتادوا الحصول عليه من جراء الابتزاز.
.التطبيع الحقيقي يمارس ليل نهار من جانب عواصم عربية لا تربطها علاقات دبلوماسية بإسرائيل، فالرياض استضافت فريدمان، ورتبت له جولة وأهدته مبادرة السلام " السعودية" التي باتت عربية، ومؤتمر الحوار بين الأديان الذي دعا إليه عاهل السعودية وعقد في مقر الأمم المتحدة بنيويورك الأسبوع قبل الماضي شارك فيه الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز ورئيس الوزراء إيهود أولمرت، وسوريا تتحاور مع إسرائيل عبر تركيا، ووزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني تجلس مع وزراء الخارجية العرب بمن فيهم السوري في "الاتحاد من أجل المتوسط".. .وبرنامج إسرائيل من الداخل نوع من التطبيع ويمثل الخطر الشديد علي جبهة الصمود والتصدي العربي ضد التطبيع مع العدو الصهيوني!
بقلم / د. عماد جاد
نقلا عن جريدة البديل
No comments:
Post a Comment