تعرفت على المكان وأنا طالبة بالجامعة، فكل كتاب لا يتوافر مع بائع الصحف والكتب أمام الجامعة كان معناه أننا لن نجده إلا «عند مدبولى». وكان الأصدقاء يتطوعون للقيام بهذه المهمة، حتى سألت فى يوم ما «هو فين مدبولى؟» فكانت أول رحلة لى لتلك المكتبة، رحلة تحولت إلى شبه دورية، ثم أسبوعية، ثم كادت أن تصبح يومية. وتطور الأمر، فكلما أسافر أعود إلى القاهرة لتكون مكتبة مدبولى هى أول مكان أذهب إليه لأتابع ما فاتنى. فى كل تلك الرحلة كنت أسمع عن الحاج مدبولى، كيف بدأ، كيف كافح، كيف.. كيف.. حتى أصبحت رحلته موضوعا للكثير من التحقيقات الصحفية والأفلام التسجيلية، ورغم كل ذلك لم أكن قد التقيت به ولا مرة واحدة. منذ سنوات ليست بالبعيدة توجهت إلى تلك المكتبة - كالمعتاد - لأبحث عن رواية ما نشرت فى بيروت، وقد وجدتها على ما أذكر، ولم أكن أعرف حينها فى المكان سوى أشرف، ولم يكن سوى أشرف يعرفنى. حملت الكتاب وتوجهت إلى مكان الدفع فجاءنى أحد الشباب المتحمسين، ونظر لى ثم أشار لكتاب «فن الحلويات» وقال «كتاب ممتاز، ولدينا مجموعة أخرى». احترت تماما فى رد الفعل الذى يجب أن أقوم به، ولم يسعفنى خيالى، إلا بكلمة واحدة «ليه؟» وهو ما جعل ذلك الشاب ينظر لى بمنتهى الدهشة، استغرق الأمر بأكمله ثوان، حتى سمعت صوتا عميقا هادئا يقول «سيبها، سيبها، معلش» وأخذ الكتاب من يدى، أخبرنى بسعره، دفعت وشكرته، وحين هممت بالمغادرة قال بوضوح «مع السلامة». كان هذا هو الحاج مدبولى. لكن حتى تلك اللحظة لم أكن متأكدة، وفى المرة التالية همست لأشرف «مين اللى قاعد هناك ده؟» فابتسم مندهشا قليلا وقال «الحاج!»، مرة تلو الأخرى حتى تجرأت وقلت له «إزيك يا حاج؟» ولم يزد الحوار مطلقا عن ذلك، فى كل مرة كان هادئا، بشوشا بطريقته، مرحبا بايماءاته. ثم أتيحت لى فرصة التعرف على جانب آخر فى شخصيته، الجانب المهنى الممتزج بالإنسانى. كان ذلك حين تمكنت من طباعة رواية «خيانة القاهرة» عنده. وكانت المرة الأولى التى تقيم فيها مكتبة مدبولى حفل توقيع، والحقيقة أنه كان يوما رائعا بكل المقاييس، فقد جاء الكثير من الأصدقاء والمعارف فى ذلك اليوم من أجل المكان فى حد ذاته، ومن أجل ما يفرضه من الالتفات لكل ما يدور حوله، ولكل ما هو متعلق به. لم يكن الحاج مدبولى موجودا بمصر، فقد كان فى أحد معارض الكتاب بالعالم العربى، وقرب انتهاء حفل التوقيع قال لى كل فرد بالمكتبة إن الحاج قد اتصل تليفونيا ليهنئنى وليطمئن على سير الحفل. كانت لفتة فى غاية الرقة، لفتة أسرتنى رغم الحوارات المختصرة للغاية. بعد أن استنفدت عدد النسخ المتفق عليه من الرواية، كنت أذهب لأشترى المزيد، وفى كل مرة تصادف فيها وجود الحاج مدبولى، كان يرفض أن يجعلنى أدفع ثمن النسخ، وفى كل مرة كنت أخرج وقد تعلمت شيئا جديدا، لا يقصد الآخرون مطلقا أن يعلمونا إياه. كانت آخر مرة التقيت فيها الحاج مدبولى قبل عيد الفطر مباشرة، سلمت على جميع من فى المكتبة لأننى كنت على وشك السفر وتمنيت للحاج عيدا سعيدا، وغادرت، ولم أتوقع أن أسمع عن رحيله قبل عيد الأضحى. منذ أن علمت وأنا أتساءل عن الكيفية التى سأعاود بها دخول المكان فى غياب الحاج مدبولى. كنت فى الكثير من المرات أذهب ولا أجده، لكن كان معروفا أنه موجود، فى الخارج أو فى الداخل، المهم أنه موجود. لم تكن فكرة الغياب الكامل قد طرأت على ذهنى، وها هو الغياب التام يعلن عن نفسه كعادته، بشكل مفاجئ ومباغت فلا يمهلنا وقتا للتفكير. كيف نتعامل معه؟ رحمك الله يا حاج مدبولى وجزاك خيرا على الكثير مما فعلته، وعلى الأسماء التى بدأت معك صغيرة ثم كبرت، وعلى اتساقك الرائع مع ذاتك. نقلا عن جريدة المصري اليوم
* المقال / الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن اتجاهات الموقع، ومن منطلق حرية الرأي والتعبير نترك مساحة حرية أكثر للكاتب حتى يعبر عن رأيه
بقلم: د.شيرين أبو النجا
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment