أعتقد أننا أمام تيارين فكريين عريضين يستحقان التوقف والتأمل، ولسنا أمام حوار بين رجلين، شاهدته في التليفزيون. ولنبدأ الحكاية من أولها بدعوة من الجيل الشاب في الأسرة تابعت حلقة من البرنامج الأسبوعي الرمضاني الذي يقدمه المهندس نجيب ساويرس علي قناة «أو. تي. في» مساء الجمعة، وكان الضيف فيها الصحفي ومقدم البرامج التليفزيونية اللامع الأستاذ محمود سعد.
كان الحوار ينساب في تلقائية كأنه دردشة مطمئنة بين صديقين في الشؤون العامة. ورغم أن نجيب كان يمسك بالمفاتيح علي هيئة أسئلة، إلا أن تدفق الحديث بين الضيف والمضيف والتعليقات المتبادلة جعله حواراً مشتركاً يقدم فيه كل طرف رؤيته في السؤال المطروح، دون أن يتوقف دور طرف علي توجيه الأسئلة ودور الآخر علي الإجابة.
كثيراً ما علق نجيب علي حديث محمود بقوله: أنا زيك لتظهر وحدة الرأي والرؤية في بعض الموضوعات مثل الموقف من المرأة الجميلة المفتقرة إلي لباقة اللغة وذكاء التفكير، وهنا أدركت لماذا يقبل شبابنا علي هذا النوع من الحوارات السلسلة الجذابة التي تتخلص من كل ادعاء وأي تكلف.
كان السؤال الأكبر والأهم الذي طرحه نجيب علي محمود متعلقاً برؤية محمود للواقع المصري العام وهل هو راض عنه، وما إذا كان يحمل تقدماً عن أوضاع سابقة. سجل محمود سعد إجابته الأولي في كلمات قليلة دالة وموجزة حيث رأي أن الوضع يفتقر إلي العدالة والأمان ويتفشي فيه الفساد، وقال إنه صارح رئيس الوزراء الدكتور نظيف برؤيته وقال له إن البلد فوضي وكل واحد بيعمل اللي هو عاوزه طبقاً لفلوسه ونفوذه وعلاقاته السياسية.
هنا علق نجيب قائلاً إن حقيقة الأمر ليست كما يظن الناس وضرب المثل بنفسه عندما قال إن لديه مصالح كثيرة تتعطل وكأنه أراد القول إن الفلوس أو الثروة لا تحدد للشخص سلوكه ولكنها الشخصية بتكوينها الفكري والأخلاقي. اشتق نجيب من إجابة محمود سؤالاً يقول: هل أنت متفائل أم متشائم تجاه الوضع ثم حدد موقفه من السؤال قائلاً: أنا شخصياً متفائل. وأجاب محمود أنه يتمني أن يكون متفائلاً تجاه الوضع ولكنه لا يجد أسباباً للتفاؤل.
وهنا علق نجيب قائلاً إن أسباب تفاؤله الشخصي ترجع إلي طبيعة مصر كبلد عريق صاحب تاريخ ثري متعدد التجارب، وبالتالي فإنه يري أن نهوض مصر أمر حتمي لا شك في حصوله. وأجاب محمود بقوله: طبعاً المهم هل ستنهض ونحن موجودون؟ وأجاب نجيب: هذا ما يجب أن نعمل عليه وعلي كل منا أن يبدأ بنفسه لنحقق النهضة.
من هذه النقطة انطلق نجيب ليؤسس لرؤيته المتفائلة فأبدي ملاحظة علي طريقة التفكير العام لدي المصريين قائلاً: عندي قناعة أن الناس في البلد دي بتنسي الحاجة اللي اتعملت والتقدم اللي حصل، وأضاف: يعني الناس اللي بتيجي من بره بيشوفوا الحاجات اللي اتعملت، بيشوفوا المطار والشوارع والإعمار اللي في البلد واحنا ناسيين الوضع القديم.
ناسيين مشكلة الاتصال بالتليفون والشوارع المزدحمة وناسيين إن الواحد عشان يسافر كان لازم ياخد تأشيرة خروج وناسيين إنه ما كانش عندنا في التليفزيون إلا القناة الأولي والثانية حتي الحرية اللي احنا فيها النهارده ناسيين إنها لم تكن موجودة قبل كده.
بهذا الحديث كان نجيب قد أسس لتفاؤله وحدد ملامح الإطار الفكري الذي ينطلق منه في النظر إلي الواقع الراهن وتقييمه، إنه ينطلق من نظرة نسبية تقيس هذا الواقع بما سبقه لتحدد ما إذا كان قد حدث فيه تقدم أم تخلف.
ورغم إعجابي بهذا المنهج الفكري وتطبيقي له شخصياً في كثير من القضايا بهدف تشجيع النفس والآخرين واستلهام الأمل من التقدم الذي تحقق حتي لا نصاب بنظرة سوداوية تظلم معها الدنيا في عيوننا ونسقط أسري لليأس والعجز.. فإن الإجابة التي قدمها محمود سعد علي طرح نجيب المتفائل جاءت عندي متممة للمنهج المذكور،لقد جاءت لتتمم ما قاله نجيب والذي وافق عليه وليس لتنقض أو تنفي.
قال محمود: نعم أوافقك هناك حاجات حصلت وإنجازات تمت، ولكن أيضاً هناك خراب حصل، شفت السكة الحديد اللي كانت أول سكة حديد في المنطقة والانهيار اللي حصل فيها.. شفت التدهور اللي في حجم البطالة.. شفت الظلم واتساع الفقر.. أنت تتحدث عن الأشياء الجميلة وأنا أرصد لك الأشياء الأخري.
أعترف لقرائي أنني كمشاهد لهذا الحوار قد وجدت ضالتي في رجلين، يمثل كل منهما تياراً فكرياً عريضاً في مصر يمكن لنا أن نصل بينهما ليتكامل منظور كل منهما مع الآخر في قياس الواقع وتحديد أمراضه وطرق النهوض به. ولو استطاع فريق من الكتاب أن يحقق هذه الوصلة بين التيارين فإن مصر ستكسب أمراً جوهرياً لا غني عنه لإطلاق النهضة.
ستكسب أن كل تيار قد تخلص من النظر إلي الواقع بعين واحدة وأصبح يري بالعينين معاً. فلا يغفل عن رؤية ما تحقق من تقدم جميل ومحمود، ولا يسهو عن رؤية ما طرأ من تدهور مرفوض ومذموم. هكذا يجتمع التياران في تيار واحد ناهض بمصر
بقلم د.إبراهيم البحراوي ٩/٩/٢٠٠٨
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment