عندما وصفت الوضع الراهن في مصر بأنه «هزيمة بلا حرب»، استندت - لتفسير هذا الوصف - إلي مظهرين أساسيين،
أولهما: عجز النظام السياسي عن القيام بوظائفه الأساسية في مجالات التعليم والصحة والإسكان وحماية البيئة.. الخ.
وثانيهما: التدهور أو التشوه في بنيان السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والانحراف في بعض ممارساتها. فهاتان السمتان كفيلتان بالجزم بأن النظام السياسي الراهن، والقائم في مصر منذ الخمسينيات، قد وصل إلي نهايته بفعل آلياته الذاتية بدون أن تطلق عليه رصاصة واحدة من عدو خارجي، تماما مثلما سقط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية بلا حرب.
غير أن هذه الحقيقة تتأكد أكثر وأكثر من خلال عنصر ثالث حاسم وأكثر خطورة هو العنصر المعنوي.
فالهزيمة في الحرب تتأكد وتثبت عندما تنكسر إرادة الخصم وتتحطم روحه المعنوية.
وهنا يطرح السؤال الصريح والقاسي، الذي لا مفر من مواجهته بشجاعة: هل انكسرت إرادتنا نحن المصريين؟
هل هبطت بشدة روحنا المعنوية بحيث استسلمنا للهزيمة وتعايشنا معها؟
ذلك هو - في الواقع - أخطر وأفدح ما تنطوي عليه حالة الهزيمة (بلا حرب) التي تعيشها مصر الآن
.إن هذا الانكسار، والتدهور المعنوي، هو نتاج منطقي للطابع السلطوي اللاديمقراطي للنظام، ولما أشرنا إليه من الفشل في أداء وظائفه، وتدهور وتشوه هياكله ومؤسساته. غير أنه يرتبط أيضا بطبيعة وممارسات باقي مؤسسات النظام السياسي التي تؤثر - بشكل مباشر أو غير مباشر - علي ثقافة المواطن، ووعيه، وروحه المعنوية وتسهم من ثَمَّ في ميوله للمشاركة والمبادرة
.فلا شك (كما أكدنا سابقا) في أن القيود علي تشكيل ونشاط الأحزاب السياسية، وحظر العمل السياسي في الجامعات والمؤسسات التعليمية في مصر، كانا أكبر جريمة في حق المواطن المصري، وأكبر كابح لنموه ونضجه السياسي وروحه المعنوية.
غير أن هناك جرائم وممارسات أخري لا تقل أثرا وخطورة، تكالبت كلها لتقييد المواطن المصري، وخنق قدراته الإبداعية وتغييب وعيه.فالقيود القانونية والإدارية والأمنية لعبت دورا حاسما في كبت وتقييد مؤسسات المجتمع المدني، سواء كانت جمعيات أو نقابات أو اتحادات.. الخ.
ومع أن مصر كانت في مقدمة الدول العربية والإسلامية التي عرفت مجتمعا مدنيا حيويا كان أحد مقومات نهضتها الحديثة، وقام علي العمل الطوعي الحقيقي، ولعب دورا مهما في تقديم الخدمات التعليمية والعلاجية والخيرية، إلا أن تلك المؤسسات كانت محل التحكم والسيطرة الثقيلة من جهاز الدولة بعد عام ١٩٥٢ بما في ذلك الاتحادات الرياضية والنوادي الاجتماعية، وقتلت مع تلك الممارسات روح المبادرة والعمل الطوعي لصالح روح التزلف والارتزاق
.والصحافة المصرية تدهورت تحت وطأة التأميم وتداعياته علي مر السنوات، بحيث أصبحت الآن المؤسسات - التي كانت علي رأس المؤسسات الثقافية والإعلامية ليس فقط في مصر، وإنما في العالم العربي كله- مؤسسات حكومية مترهلة، مثقلة بأعبائها وديونها، مُشكِّلة - في معظمها - عبئا علي الدولة! وتحولت من منابر للفكر والإبداع والتنوير، إلي ما يكاد يكون مجرد منصات دعائية وإعلانية.
ومن حسن الحظ أن واقع الصحافة الحكومية المكبلة - لم يمنع أبدا وجود صحفيين أكفاء وأحرار، ثم لم يحل - مؤخرا - دون ظهور نوعية جديدة من الصحافة المستقلة: الحقيقية والواعدة.
ولم يكن الإعلام المصري (الإذاعي والتليفزيوني) أفضل حظا من الصحافة. فبالرغم من ثقل واتساع الرصيد الثقافي والإعلامي المصري، والذي شكل أساسا لريادة ثقافية وإعلامية مصرية لا شك فيها، لسنوات طويلة، فإن هذا الرصيد للأسف تآكل بشدة، ونهشته أمراض البيروقراطية، والسيطرة الأمنية، والتوجيه الحكومي ضيق الأفق، وتوارت المحطات الإذاعية والقنوات التليفزيونية المصرية لتُخلي مكانها ليس فقط لعشرات من القنوات الفتية الجديدة، التي جمعت بين قوة التمويل وحرية التعبير، وإنما أيضا لغيرها من القنوات والوسائط الإعلامية المحملة بكل صور التخلف والجهل والعبث.
غير أن الكارثة الكبري - في هذا السياق - إنما تتمثل في التدهور الذي أصاب الوسائط الثقافية المصرية، بدءا من الكتاب وحتي الفيلم والمسرحية والمسلسل الإذاعي والتليفزيوني. ولن نعيد هنا التذكير أيضا بالدور المصري الثقافي والتنويري، عربيا وإسلاميا، ولا بريادة المسرح المصري والسينما المصرية. وفي حين أن يد الدولة الثقيلة التي قبضت علي هذه الوسائط في ظل نظام يوليو ارتبطت - لمرحلة قصيرة - بدور تنويري وتثقيفي للدولة، إلا أنها سرعان ما تخلت عن هذا الدور، لتترك المواطن المصري مستباحا لكل صور التشويه الثقافي والفكري، وبدا وكأن النظام السياسي في مصر قد عقد صفقة ضمنية احتكر بمقتضاها السياسة، تاركا لآخرين - في المقابل - ثقافة الشعب وقيمه يعبثون بها كما يشاءون.
فإذا أضفنا إلي هذا كله ما سبق أن ذكرناه حول محنة (أو كارثة) التعليم بمصر، فضلا عن الآثار السلبية للهجرة المؤقتة للعمل في بلاد النفط، وللتفاوت الطبقي والاجتماعي غير المسبوق الذي أخذت تعرفه مصر.. فلن يكون من الغريب - بعد ذلك - أن نشاهد ملامح التدهور في ثقافة المصريين، ووعيهم وروحهم المعنوية، كأبرز ملامح «الهزيمة بلا حرب»، والتي نلاحظها اليوم في مظاهر تثير الأسي، بل الفزع.فهل من المبالغة القول إن هناك الآن حالة من القلق أو الخوف تسيطر علي أغلب المصريين إزاء المستقبل، ويعبر عنها بأشكال متفاوتة؟
إن الخوف من السلطة، وكراهيتها، والتشكك إزاءها هي أحد «ثوابت» الثقافة السياسية للمصريين، وفق ما رصدته الدراسات العلمية للشخصية المصرية، منذ زمن بعيد. وهذه السمة هي نتاج مباشر للفرعونية السياسية، والاستبداد السياسي الذي طبع تاريخ مصر.
غير أن هناك اليوم مظاهر إضافية للخوف والقلق، لا شك أن في مقدمتها عدم اليقين إزاء المستقبل، بما في ذلك مستقبل الأوضاع السياسية الراهنة. إن أحدا في مصر لا يستطيع مثلا أن يتنبأ - علي وجه اليقين - بما يمكن أن يحدث غدا إذا حدث أي فراغ مفاجئ عند رأس السلطة السياسية. ولم يكن من الغريب أن اقترن هذا الشعور بالخوف، والقلق من المستقبل، بتنامي مظاهر «التدين» الشكلي، علي نحو غير مسبوق، فضلا عن شيوع روح التواكل، وتعليق المستقبل علي «مشيئة الله» وستره، عوضا عن العمل الجاد علي الإسهام في صنع ذلك المستقبل، ثم تعايش هذا التدين الشكلي أو المظهري مع مظاهر فريدة وجديدة للفساد والتحلل بما لم يعرفها المجتمع المصري من قبل.
وهل من المبالغة القول إن هناك الآن تفاقما في مشاعر اللامبالاة وعدم الإحساس بالواجب أو الالتزام؟ هناك بالقطع استثناءات، ونماذج مشرفة من الرجال والنساء لا شك في ذلك، ولكنني أتحدث عن ملايين المواطنين العاديين، الذين كانوا ضحايا تدهور التعليم ونقص الرعاية الصحية وافتقاد المسكن الكريم أو البيئة النظيفة، والذين ينتشرون في صعيد مصر ودلتاها وفي ثنايا العاصمة، والذين يعانون من البطالة أو شظف العيش. هل نحن في حاجة إلي إثبات مظاهر الإهمال المذهلة في كل نواحي حياتنا؟
إن نظرة واحدة - علي سبيل المثال - إلي شوارع القاهرة، بل وسط القاهرة نفسها: شوارعها، ميادينها، عماراتها، ومحالها.. (ولا أقول شوارع ومساكن المدن والقري المنتشرة في ربوع مصر!) توحي بدلالات لا شك فيها. وهل نحن في حاجة إلي التذكير بالعزوف شبه الكامل عن المشاركة السياسية في الانتخابات المختلفة، اللهم إلا من خلال الحشد والإغراءات المادية؟ هل نحن في حاجة إلي التذكير بالعجز المشين عن العمل الجماعي المنظم، والإسراف في الفردية والأنانية التي تسود في لحظات الخوف والإحساس بالخطر وانعدام الأمان؟
هل نبالغ إذا أشرنا إلي التزايد المخيف في مشاعر اللاانتماء للوطن والاغتراب، والرغبة في تركه وهجره؟
إنه ذلك الشعور الذي يجمع بين أبناء الطبقات العليا المرفهة الذين يحرصون علي أن يولد أبناؤهم في الخارج (في أمريكا أو كندا أو أوروبا؟!) ليحصلوا علي جنسياتها، وبين أبناء الطبقات الفقيرة الذين لا يبالون بأن يموت أبناؤهم في الخارج وعلي شواطئ أوروبا وأمريكا، أملا في الحصول علي عمل ودخل معقول. إنه أيضا الشعور بفقدان الطموح، أو الرغبة في الإنجاز والتفوق.
ألا يلفت النظر - مثلا- إقبال طلاب الثانوية علي دراسة المواد الاجتماعية، وعزوفهم عن دراسة العلوم والرياضيات علي العكس مما كان سائدا من قبل، بحثا عن الأسهل وتجنبا للأصعب والأعمق؟
إنه كذلك الشعور بالانتماء فقط للمصالح والمنافع الشخصية والضيقة، وليس إلي المجموع أو الوطن، والذي يجعل المواطن المصري، غنيا كان أو فقيرا، قاطنا في أحد الأبراج الفاخرة أو البيوت المتواضعة، يشعر بأن مجال عنايته واهتمامه يقف عند عتبة شقته. أما البناء كله، أو الشارع، أو الحي، فهو لا يعنيه في شيء، قذرا كان أو نظيفا، ملوثا أو نقيا، منضبطا أو تسوده الفوضي والإهمال
.صورة سوداوية نعم! ولكنها تعكس جوهر الهزيمة بلا حرب.. هزيمة الإنسان، وقهر روحه وإرادته المصرى اليوم
أولهما: عجز النظام السياسي عن القيام بوظائفه الأساسية في مجالات التعليم والصحة والإسكان وحماية البيئة.. الخ.
وثانيهما: التدهور أو التشوه في بنيان السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والانحراف في بعض ممارساتها. فهاتان السمتان كفيلتان بالجزم بأن النظام السياسي الراهن، والقائم في مصر منذ الخمسينيات، قد وصل إلي نهايته بفعل آلياته الذاتية بدون أن تطلق عليه رصاصة واحدة من عدو خارجي، تماما مثلما سقط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية بلا حرب.
غير أن هذه الحقيقة تتأكد أكثر وأكثر من خلال عنصر ثالث حاسم وأكثر خطورة هو العنصر المعنوي.
فالهزيمة في الحرب تتأكد وتثبت عندما تنكسر إرادة الخصم وتتحطم روحه المعنوية.
وهنا يطرح السؤال الصريح والقاسي، الذي لا مفر من مواجهته بشجاعة: هل انكسرت إرادتنا نحن المصريين؟
هل هبطت بشدة روحنا المعنوية بحيث استسلمنا للهزيمة وتعايشنا معها؟
ذلك هو - في الواقع - أخطر وأفدح ما تنطوي عليه حالة الهزيمة (بلا حرب) التي تعيشها مصر الآن
.إن هذا الانكسار، والتدهور المعنوي، هو نتاج منطقي للطابع السلطوي اللاديمقراطي للنظام، ولما أشرنا إليه من الفشل في أداء وظائفه، وتدهور وتشوه هياكله ومؤسساته. غير أنه يرتبط أيضا بطبيعة وممارسات باقي مؤسسات النظام السياسي التي تؤثر - بشكل مباشر أو غير مباشر - علي ثقافة المواطن، ووعيه، وروحه المعنوية وتسهم من ثَمَّ في ميوله للمشاركة والمبادرة
.فلا شك (كما أكدنا سابقا) في أن القيود علي تشكيل ونشاط الأحزاب السياسية، وحظر العمل السياسي في الجامعات والمؤسسات التعليمية في مصر، كانا أكبر جريمة في حق المواطن المصري، وأكبر كابح لنموه ونضجه السياسي وروحه المعنوية.
غير أن هناك جرائم وممارسات أخري لا تقل أثرا وخطورة، تكالبت كلها لتقييد المواطن المصري، وخنق قدراته الإبداعية وتغييب وعيه.فالقيود القانونية والإدارية والأمنية لعبت دورا حاسما في كبت وتقييد مؤسسات المجتمع المدني، سواء كانت جمعيات أو نقابات أو اتحادات.. الخ.
ومع أن مصر كانت في مقدمة الدول العربية والإسلامية التي عرفت مجتمعا مدنيا حيويا كان أحد مقومات نهضتها الحديثة، وقام علي العمل الطوعي الحقيقي، ولعب دورا مهما في تقديم الخدمات التعليمية والعلاجية والخيرية، إلا أن تلك المؤسسات كانت محل التحكم والسيطرة الثقيلة من جهاز الدولة بعد عام ١٩٥٢ بما في ذلك الاتحادات الرياضية والنوادي الاجتماعية، وقتلت مع تلك الممارسات روح المبادرة والعمل الطوعي لصالح روح التزلف والارتزاق
.والصحافة المصرية تدهورت تحت وطأة التأميم وتداعياته علي مر السنوات، بحيث أصبحت الآن المؤسسات - التي كانت علي رأس المؤسسات الثقافية والإعلامية ليس فقط في مصر، وإنما في العالم العربي كله- مؤسسات حكومية مترهلة، مثقلة بأعبائها وديونها، مُشكِّلة - في معظمها - عبئا علي الدولة! وتحولت من منابر للفكر والإبداع والتنوير، إلي ما يكاد يكون مجرد منصات دعائية وإعلانية.
ومن حسن الحظ أن واقع الصحافة الحكومية المكبلة - لم يمنع أبدا وجود صحفيين أكفاء وأحرار، ثم لم يحل - مؤخرا - دون ظهور نوعية جديدة من الصحافة المستقلة: الحقيقية والواعدة.
ولم يكن الإعلام المصري (الإذاعي والتليفزيوني) أفضل حظا من الصحافة. فبالرغم من ثقل واتساع الرصيد الثقافي والإعلامي المصري، والذي شكل أساسا لريادة ثقافية وإعلامية مصرية لا شك فيها، لسنوات طويلة، فإن هذا الرصيد للأسف تآكل بشدة، ونهشته أمراض البيروقراطية، والسيطرة الأمنية، والتوجيه الحكومي ضيق الأفق، وتوارت المحطات الإذاعية والقنوات التليفزيونية المصرية لتُخلي مكانها ليس فقط لعشرات من القنوات الفتية الجديدة، التي جمعت بين قوة التمويل وحرية التعبير، وإنما أيضا لغيرها من القنوات والوسائط الإعلامية المحملة بكل صور التخلف والجهل والعبث.
غير أن الكارثة الكبري - في هذا السياق - إنما تتمثل في التدهور الذي أصاب الوسائط الثقافية المصرية، بدءا من الكتاب وحتي الفيلم والمسرحية والمسلسل الإذاعي والتليفزيوني. ولن نعيد هنا التذكير أيضا بالدور المصري الثقافي والتنويري، عربيا وإسلاميا، ولا بريادة المسرح المصري والسينما المصرية. وفي حين أن يد الدولة الثقيلة التي قبضت علي هذه الوسائط في ظل نظام يوليو ارتبطت - لمرحلة قصيرة - بدور تنويري وتثقيفي للدولة، إلا أنها سرعان ما تخلت عن هذا الدور، لتترك المواطن المصري مستباحا لكل صور التشويه الثقافي والفكري، وبدا وكأن النظام السياسي في مصر قد عقد صفقة ضمنية احتكر بمقتضاها السياسة، تاركا لآخرين - في المقابل - ثقافة الشعب وقيمه يعبثون بها كما يشاءون.
فإذا أضفنا إلي هذا كله ما سبق أن ذكرناه حول محنة (أو كارثة) التعليم بمصر، فضلا عن الآثار السلبية للهجرة المؤقتة للعمل في بلاد النفط، وللتفاوت الطبقي والاجتماعي غير المسبوق الذي أخذت تعرفه مصر.. فلن يكون من الغريب - بعد ذلك - أن نشاهد ملامح التدهور في ثقافة المصريين، ووعيهم وروحهم المعنوية، كأبرز ملامح «الهزيمة بلا حرب»، والتي نلاحظها اليوم في مظاهر تثير الأسي، بل الفزع.فهل من المبالغة القول إن هناك الآن حالة من القلق أو الخوف تسيطر علي أغلب المصريين إزاء المستقبل، ويعبر عنها بأشكال متفاوتة؟
إن الخوف من السلطة، وكراهيتها، والتشكك إزاءها هي أحد «ثوابت» الثقافة السياسية للمصريين، وفق ما رصدته الدراسات العلمية للشخصية المصرية، منذ زمن بعيد. وهذه السمة هي نتاج مباشر للفرعونية السياسية، والاستبداد السياسي الذي طبع تاريخ مصر.
غير أن هناك اليوم مظاهر إضافية للخوف والقلق، لا شك أن في مقدمتها عدم اليقين إزاء المستقبل، بما في ذلك مستقبل الأوضاع السياسية الراهنة. إن أحدا في مصر لا يستطيع مثلا أن يتنبأ - علي وجه اليقين - بما يمكن أن يحدث غدا إذا حدث أي فراغ مفاجئ عند رأس السلطة السياسية. ولم يكن من الغريب أن اقترن هذا الشعور بالخوف، والقلق من المستقبل، بتنامي مظاهر «التدين» الشكلي، علي نحو غير مسبوق، فضلا عن شيوع روح التواكل، وتعليق المستقبل علي «مشيئة الله» وستره، عوضا عن العمل الجاد علي الإسهام في صنع ذلك المستقبل، ثم تعايش هذا التدين الشكلي أو المظهري مع مظاهر فريدة وجديدة للفساد والتحلل بما لم يعرفها المجتمع المصري من قبل.
وهل من المبالغة القول إن هناك الآن تفاقما في مشاعر اللامبالاة وعدم الإحساس بالواجب أو الالتزام؟ هناك بالقطع استثناءات، ونماذج مشرفة من الرجال والنساء لا شك في ذلك، ولكنني أتحدث عن ملايين المواطنين العاديين، الذين كانوا ضحايا تدهور التعليم ونقص الرعاية الصحية وافتقاد المسكن الكريم أو البيئة النظيفة، والذين ينتشرون في صعيد مصر ودلتاها وفي ثنايا العاصمة، والذين يعانون من البطالة أو شظف العيش. هل نحن في حاجة إلي إثبات مظاهر الإهمال المذهلة في كل نواحي حياتنا؟
إن نظرة واحدة - علي سبيل المثال - إلي شوارع القاهرة، بل وسط القاهرة نفسها: شوارعها، ميادينها، عماراتها، ومحالها.. (ولا أقول شوارع ومساكن المدن والقري المنتشرة في ربوع مصر!) توحي بدلالات لا شك فيها. وهل نحن في حاجة إلي التذكير بالعزوف شبه الكامل عن المشاركة السياسية في الانتخابات المختلفة، اللهم إلا من خلال الحشد والإغراءات المادية؟ هل نحن في حاجة إلي التذكير بالعجز المشين عن العمل الجماعي المنظم، والإسراف في الفردية والأنانية التي تسود في لحظات الخوف والإحساس بالخطر وانعدام الأمان؟
هل نبالغ إذا أشرنا إلي التزايد المخيف في مشاعر اللاانتماء للوطن والاغتراب، والرغبة في تركه وهجره؟
إنه ذلك الشعور الذي يجمع بين أبناء الطبقات العليا المرفهة الذين يحرصون علي أن يولد أبناؤهم في الخارج (في أمريكا أو كندا أو أوروبا؟!) ليحصلوا علي جنسياتها، وبين أبناء الطبقات الفقيرة الذين لا يبالون بأن يموت أبناؤهم في الخارج وعلي شواطئ أوروبا وأمريكا، أملا في الحصول علي عمل ودخل معقول. إنه أيضا الشعور بفقدان الطموح، أو الرغبة في الإنجاز والتفوق.
ألا يلفت النظر - مثلا- إقبال طلاب الثانوية علي دراسة المواد الاجتماعية، وعزوفهم عن دراسة العلوم والرياضيات علي العكس مما كان سائدا من قبل، بحثا عن الأسهل وتجنبا للأصعب والأعمق؟
إنه كذلك الشعور بالانتماء فقط للمصالح والمنافع الشخصية والضيقة، وليس إلي المجموع أو الوطن، والذي يجعل المواطن المصري، غنيا كان أو فقيرا، قاطنا في أحد الأبراج الفاخرة أو البيوت المتواضعة، يشعر بأن مجال عنايته واهتمامه يقف عند عتبة شقته. أما البناء كله، أو الشارع، أو الحي، فهو لا يعنيه في شيء، قذرا كان أو نظيفا، ملوثا أو نقيا، منضبطا أو تسوده الفوضي والإهمال
.صورة سوداوية نعم! ولكنها تعكس جوهر الهزيمة بلا حرب.. هزيمة الإنسان، وقهر روحه وإرادته المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment