أكثر ما يثير الشفقة علي الحالة البرلمانية في مصر، بمناسبة نهاية دورة انعقاد مجلس الشعب، أن نواب الحزب الوطني تقاسموا مع نواب كتلة الإخوان المسلمين حالة واحدة فقط هي (السمع والطاعة) للقيادة العليا، لا صوت يعلو فوق صوت الالتزام الحزبي بين نواب الوطني ولا قيمة أهم من النزول علي رغبة أمراء الكتلة بين نواب الإخوان، أنت لم تسمع مثلا عن خلاف حقيقي وديمقراطي في الرأي جري بين أعضاء الحزب الوطني، كل من انحرف عن الطاعة أقالوه من الحزب، وكل الخلافات الشكلية في المناقشات العلنية للقوانين لم تنعكس أبدا علي التصويت، فحين يرفع أمين التنظيم يده بالموافقة تسقط وجهات النظر الأخري ويسمو الرأي الأعلي للحزب فوق الجميع.
أنت لم تسمع أيضا عن تباينات سياسية جرت بين أعضاء كتلة الإخوان المسلمين، الكل علي قلب رجل واحد، صنف واحد، مزاج واحد، بلا ألوان أو تفاصيل أو وجهات نظر أو زاويا أخري للرؤية ومعالجة الموضوعات، وحين يرفع أمير الكتلة يده بالمعارضة تنطلق الأصوات الأخري بالصراخ الغاضب في سيمفونية للسمع والطاعة والالتزام في المنشط والمكره.
مأساتنا في هذا الركود القائم علي هيمنة منطق السمع والطاعة، فالحالة السياسية والبرلمانية داخل الحزب الحاكم وبين صفوف قوي المعارضة لا تنتج ألوانا من الناس أو بدائل للأفكار، بل تنتج قطيعا متجانسا من السياسيين تعلو لديهم مصالحهم داخل الحزب أو الجماعة علي رغبتهم في الاختلاف والإبداع الفردي، الرؤوس تحت سيف الالتزام إما رغبة في إرضاء (أمين التنظيم) أو رغبة في طاعة (أمير) الكتلة وفي الحالتين لا يكون للبرلمان أي دور في إثراء ديمقراطية حقيقية، أو إحياء روح الرأي والرأي الآخر، فالخلافات ممنوعة في السر، ومحكومة بطاعة القيادات في العلن. سيقول الحزب وتقول الكتلة إن (المناقشات تجري في الكواليس وداخل الاجتماعات الخاصة التي نتبادل فيها الرأي بعيدا عن الأضواء حتي نصل إلي قرارات جماعية ليكون التصويت حزمة واحدة، وفي هذه الاجتماعات تعرض كل الآراء ويلتزم الجميع برأي الأغلبية)،
والسؤال: هل تعلو آراء أو أفكار داخل هذه الاجتماعات السرية علي آراء القيادات الكبري والتاريخية والتنظيمية والمقدسة في الحزب والجماعة، وهل تقبل تلك القيادات أن يشق النواب عصا الطاعة في السر، بينما يلتزمون به كفريق من الكشافة الهواة في العلن؟ الحقيقة الموجعة أن التدريب السياسي في مصر يعتمد علي تأهيل النواب والسياسيين علي السمع والطاعة لا علي الإبداع والتفرد والتميز، والدليل ساطع من داخل قاعة مجلس الشعب، قل لي مثلا من هو الرجل الثاني أو الثالث في التأثير بين نواب الأغلبية من أعضاء الوطني، أحمد عز في الصدارة يمارس مهام أمين التنظيم، لاعب منفرد، حتي مع وجود زعيم للأغلبية (علي الورق) اسمه الدكتور عبد الأحد جمال الدين، القيادات التي كانت ملء السمع والبصر في الماضي صارت مجرد أرقام في إحصاءات التصويت، كمال الشاذلي، بكل بريقه السياسي في الماضي ينتظر اليوم كالآخرين ساعة الصفر حين يرفع الرجل الأول يده بالموافقة، فيوافق الجميع بالسمع والطاعة، الشاذلي كان يمارس دورا مشابها من قبل، والآن لا أمل في إبداعه الخاص، ولا فرصة للتميز أو التباين في الرأي، فهو يعلم كم يكون العقاب قاسيا والخطر كبيرا حين تشرد الناقة عن القطيع. الصور متطابقة في الكتلة، مع فرق صغير عن الحزب، أن القيادة الحقيقية للكتلة ليست من بين أعضاء البرلمان، إنها في مكان آخر، تحدد الأجندة وتفرض إيقاع التصويت، واللاعبون علي المسرح ينفذون حرفيا نصا جاهزا، سمعا وطاعة في خدمة الإسلام والمسلمين، والأوصياء علينا وعلي الإسلام وعلي المسلمين. ولأن السمع والطاعة هو القاعدة السياسية الأولي فإن نواب المجلس يظهرون وكأنهم صفوف من زجاجات المياه الغازية التي خرجت لفورها من ماكينة إنتاج عملاقة، متشابهة ومتراصة في صناديق من البلاستيك، لا فروق، لا ألوان، لا أفكار. هل تظن أنت أن أحلامنا في التطور يمكن أن تتحقق علي هذا النحو؟ هل تظن أن تغييرا جادا يمكن أن يتفجر من بين الصفوف ؟ هل تعتقد أن نجوما جددا يمكن أن يظهروا خارج السياق وبعيدا عن قطعان السمع والطاعة ؟ .
من جانبي، لا أظن.
المصرى اليوم 2/7/2008
No comments:
Post a Comment