Wednesday, July 02, 2008

عند أولاد عمرو...اختلف الأمر

عند أولاد عمرو... اختلف الأمر»، دائما ما كان يقول أبي عند وصفه مجرى النيل ومجريات الدنيا. و«أولاد عمرو» هذه قرية من قرى محافظة قنا يتغير فيها مجرى النيل، فبدلاً من أن يمر الماء نحو الشمال في مساره الطبيعي، وهو قادم من الجنوب من أعالي فكتوريا، حيث يصب في البحر المتوسط في النهاية، نجد الماء يمر غرباً ثم ينحني جنوبا مرة أخرى، وكأنه عائد إلى إفريقيا مرة أخرى، وتلك هي نقطة «أولاد عمرو»، التي فيها اختلف الأمر، وتحول مجرى النيل عكس ما هو سائر، يتعرج النيل فيها لفترة ثم ما يلبث أن يعود إلى مجراه الطبيعي متجهاً من الجنوب إلى الشمال.
دائماً ما أتذكر نقطة «أولاد عمرو» التي مشى فيها النيل عكس التيار عند حلول شهر يوليو، واقترابنا من ذكرى ثورة 1952، أفكر دائماً في هذا الشهر عما إذا كانت تلك الثورة مسارا جديدا للجمهورية، أم أنها ما هي إلا نقطة «أولاد عمرو»، لحظة تحول فيها اتجاه مجرى النيل ثم ما يلبث أن يعود إلى مجراه الطبيعي؟! .
هل الجمهورية هي نظام حكم دائم في مصر وطبيعي أم أنها استثناء، وأن ما هو طبيعي هو الملكية، والفرعونية، وشيخ القبيلة، أو سلطة الرجل الواحد.
أعرف أن الموضوع برمته حساس، وأن كلامنا في العالم العربي، وفي مصر خصوصاً، يتعرج ويتلوى حتى يتجنب مواجهة الحقائق، ولكن السؤال الجوهري في نظرية الحكم في العالم العربي، هو هل الجمهوريات في العالم مجرد انحناءه للنهر في محافظة قنا في جنوب مصر، وهي مجرد نقطة عند «أولاد عمرو»، اختلف فيها الأمر ثم يعود بعدها النيل والحكم إلى مجراهما الطبيعيين، وهو النظام الملكي، أو الفرعوني، أو نظام المماليك، أو الحكم العشائري الوراثي؟! أم أن الجمهوريات أمر سياسي مستمر ومستقر؟ .
الناظر إلى تحول سورية، مثلاً، من الجمهورية إلى التوريث ربما يقول إن الأمر فعلاً عندنا هو نظام وراثي، وإن مرحلة الجمهورية ما هي إلا انحناءة في النهر، والناظر إلى اتجاه انتقال السلطة في ليبيا واليمن، والحديث غير المتقطع عن التوريث في مصر أيضاً، قد تقنعه «نظرية أولاد عمرو» في تفسير سير السلطة والحكم، وكذلك مجرى النيل في البلدان العربية، كلها وليس بعضها. وان كان الأمر يسير حسب نظرية أولاد عمرو فإن مستقبل الديمقراطية في العراق قد يكون أيضا مجرد انحناءة في النهر. الحالة المصرية أو ما ذكرت من حالات غير كافية للتعميم أو للتعتيم، ولكن ما يتراءى حولنا يشير إلى أن الأمر الجمهوري مجرد انحناءة نهر. انتقلت السلطة في مصر، مثلاً، بعد الثورة من محمد نجيب إلى جمال عبدالناصر، ثم إلى السادات الذي انتهت مدة ولايته بنهاية حياته، ثم إلى الرئيس مبارك الذي ما إن بلغ السبعين عاماً حتى دخلت مصر في حديث التوريث.
إذن الثورة، وعلى ما يبدو في مخيلة الشعب السياسية والاجتماعية، هي مجرد انحراف تاريخي عن المسار، وأن الحكم كالنيل يسير من الجنوب إلى الشمال، في توارث ملكي منذ الفراعنة حتى أسرة محمد علي، التي كان آخرها الملك فاروق وولي عهده الأمير أحمد فؤاد، وأن النظام الثوري الجمهوري ما هو إلا انحراف النيل وانحناؤه عند «أولاد عمرو» التي اختلف فيها الأمر، ولكي يسير الأمر في مجراه الطبيعي، لابد من العودة إلى النظام الملكي مرة أخرى، أو النظام شبه الملكي، أو سَمْهِّ ما شئت، لكن للنيل مجرى وللحكم مجرى، ويسري على الحكم في الشرق ما يسري على جريان مياه النيل، ولا ينطبق ذلك على الجمهوريات فقط، ولكن حتى الملكيات أو الإمارات التي تتحول إلى الديمقراطية، ولها برلمانات، ونجد أن هذه البرلمانات والحكومات غير قادرة على إدارة أوضاعها، وسنرى أن أقصى ما يطالب به المثقف، ولنأخذ هنا الكويت مثالاً، هو أن يتدخل أمير البلاد لحسم الخلاف بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. إذن الملك، والأمير، والرئيس، والقيادة القوية في قمة الهرم السياسي هي التي تحسم الأمور، وهي الحَكَم ما بين السلطات.
أما البرلمانات، ومهما قال العرب، فهي نبت غير عربي يحتاج إلى أوقات طويلة كي يتثبت في التربة، وحتى الآن الأمر مشكوك فيه، ولك في مجلس «الشغب»، وحرف الغين هنا مقصود، في مصر خير مثال. «نظرية أولاد عمرو» وانحناءة النيل، التي تقول إن الثورات والجمهوريات عندنا هي مجرد عارض تاريخي، وان الأصل في حكم المنطقة هي الملكيات، هي نظرية صادمة، وفيها من المواجهة والتعميم ما يصدم علماء السياسة والاجتماع، وخصوصاً الثوريين والطليعيين منهم، ولكن الهدف من طرح كهذا هو تفجير الحوار الدائر، حوار لا يستند إلى حقائق التاريخ أو الجغرافيا، بقدر ما هو يسجل لأمنيات ومواقف أكثر من كونه قراءة لواقع.
هل الجمهوريات عندنا هي الاستمرار والملكية وهي مرحلة انقطاع، أم أن الملكية هي الأصل،
وبذا تكون ثورة يوليو بإنجازاتها كلها وزخمها هي مجرد انحناءة في النهر عند «أولاد عمرو»، وهناك اختلف الأمر؟
بقلم: مأمون فندي
صحيفة "الجريدة" الكويتية

No comments: