Sunday, December 23, 2007

٢٠٠٧: عام الانتفاضات والعصيان المدني في مصر

قرب نهاية كل عام ميلادي، تتكاثر أسئلة الإعلاميين حول أهم أحداث العام، الذي تغرب آخر شموسه في غضون أيام أو ساعات..
وعلي المستوي الشخصي كان عام ٢٠٠٧ يكاد يكون نسخة مكررة من عام ٢٠٠٠، فمنذ سبع سنوات وقعت أحداث دامية في الكشح ، علقت عليها بما يمليه ضمير أي عالم اجتماعي ومدافع عن حقوق الإنسان، وهو ما لم يعجب مباحث أمن الدولة ، المسؤولة عن ملف ومأساة الأقباط في مصر، فبدأت حملة إعلامية ضارية من خلال صحفها الصفراء المعروفة، ورافقت ذلك حملة تهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور - ليس فقط ضد شخصي المتواضع، ولكن أيضاً ضد أفراد أسرتي........................... وبعد عدة شهور من بدء الحملة، رأت إدارة الأمن في الجامعة التي أعمل بها، أن ترفع الأمر إلي أعلي جهة مسؤولة عن الأمن في البلاد.. وأشير علي الجامعة وعلي أن نقابل رئيس جهاز أمن الدولة في ذلك الحين، وهو اللواء صلاح سلامة ، الذي كوفئ فيما بعد بتعيينه محافظاً لإحدي المحافظات الساحلية، وكان لقاء الرجل في أبريل ٢٠٠٠، مدعاة للتأمل والتفكير وقتها ومنذ ذلك الحين. فقد اعتبر صلاح سلامة ملفات بعينها لا يجوز لأي مواطن أن يقترب منها أو يخوض فيها، مادامت مباحث أمن الدولة مسؤولة عنها، إلا طبعاً بإذنها أو بأوامرها! وعلي سبيل المزاح والمداعبة والمناكفة، سألته: ألا توجد لديكم مباحث لكل شيء علي أرض مصر المحروسة، من مباحث السكك الحديدية، إلي مباحث السياحة، مروراً بمباحث التعليم والأموال العامة والسياحة؟،
وأجاب الرجل متأففاً: لنفترض ذلك، ما الذي ترمي إليه؟
قلت: طبقاً لمنطق مباحث أمن الدولة، فإن بقية الشعب ليس مسموحاً له بالحديث حول أي أمر عام.
ظل الضيق بادياً علي رئيس الجهاز الرهيب، وقال ما معناه لسنا هنا للدخول في متاهات فلسفية، فما شأنك والأقباط؟
رددت: وما شأنكم أنتم بهم؟
قال: نحن أمن الدولة،
قلت: «ونحن أمن المجتمع».. أنتم مباحث وأنا باحث. والفرق كما يبدو علي السطح هو حرف واحد، الميم..
ابتسم الرجل لأول مرة ثم طلب أن أستفيض في شرح الفرق.
قلت: أنتم ونحن نجمع بيانات عن الشأن العام، ونحن مثلكم نبوّب ونصنف ونحلل هذه البيانات. أما الفارق الكبير بعد ذلك فهو أنكم تحتفظون بها سرا لاستخدامها ضد المواطنين إذا أردتم إرهابهم أو النيل منهم أما نحن «الباحثين» فإننا نسارع بنشر ما نعرفه عن الموضوع..
بعد هذا الحديث بثلاثة شهور جاءت قوة من ذات الجهاز بقيادة ابن شقيق اللواء ذاته، واسمه العقيد أسامة سلامة، في منتصف ليلة ٣٠ يونيو ٢٠٠٠ إلي منزلي لإلقاء القبض علي.
. تم حبسي والتحقيق معي بواسطة نيابة أمن الدولة، ثم محاكمتي بواسطة محكمة أمن الدولة، وإدانتي أنا وكل الباحثين في مركز ابن خلدون، وكان نصيبي سبع سنوات، وتراوحت عقوبات زملائي بين سنة وخمس سنوات، أي أنه في الجولتين الأولي والثانية من هذه المواجهات، انتصرت «المباحث» علي «الباحثين»،
ولكن مع الجولة الثالثة كان التقاضي قد وصل إلي محكمة النقض ، أعلي محاكم الديار المصرية، والأكثر استقلالاً، حيث إن قضاتها يتم اختيارهم بواسطة الانتخاب الحر من زملائهم في الجمعية العمومية لقضاة الاستئناف.. وهذه هي المحكمة التي أنصفت الخلدونيين جميعاً وبرأتهم من كل التهم التي لفقتها الأجهزة الأمنية، بل إن المحكمة أدانت أجهزة السلطة التنفيذية، وانتقدت مؤسسة الرئاسة ، التي قالت المحكمة إنها ركزت كل السلطات في يدها، حتي إنه لم يعد يتم أي شيء في مصر إلا بتوجيه أو أمر من هذه المؤسسة.. وكانت المحكمة أرادت أن توحي بأنه ما كان لقضية مركز ابن خلدون أن تأخذ هذا الحجم إلا بتوجيه من مؤسسة الرئاسة.
لقد كانت حيثيات الحكم الذي أصدرته محكمة النقض في ١٨ مارس ٢٠٠٣ من الأدب القانوني الرفيع، وأهم من ذلك أنه كان انتصاراً للمجتمع المدني ولمجتمع «الباحثين» علي جهاز «المباحثيين»، ونعتقد أن ذلك أيضاً كان بداية محسوسة وملموسة لتحرك قضائي أوسع، خارج المحاكم، ممثلاً في «نادي القضاة»، الذي عبر خير تعبير عن طموحات شعب مصر في انتخابات حرة نزيهة، وتزامن ذلك مع ظهور حركة «كفاية» وغيرها في السنوات الأربع التالية، ومنها الانتشار الواسع والنمو المتكاثر لحركة « المدونين»
«Bloggers»
.وحينما هل علينا عام ٢٠٠٧، حلت معه روح جديدة من الاستعداد الشعبي التلقائي للمواجهة السلمية مع أجهزة السلطة
دفاعاً عن حقوقهم ومطالبهم المشروعة، لا لمجرد التعبير عن مظالم وآلام متراكمة من ذلك أن عام ٢٠٠٧ شهد أكثر من مائتي إضراب واعتصام من تكوينات عمالية وطلابية ومهنية.. وهو عدد غير مسبوق في التاريخ المصري قديمه ووسطه وحديثه
.كذلك كان جديداً تماماً علي الساحة المصرية أن ينتفض بدو سيناء، احتجاجاً وسخطاً علي حرمانهم التاريخي من حقوق المواطنة المتساوية. فهم إلي تاريخه، الفئة الوحيدة المولودة علي أرض مصر، ولكنها محرومة من ملكية شبر من أرض مصر، هذا رغم أن الدخلاء علي سيناء، سواء من وادي النيل أو دلتاه، أو حتي من غير المصريين، مسموح لهم التملك والتعمير في محافظة جنوب سيناء، خاصة في الشريط الذهبي الذي يمتد من رأس محمد جنوباً إلي طابا شمالاً، ويعيش فيه النظام، ويمتلكه أغنياء مصر والعالم، ولكنه حرام علي أبناء سيناء الذين عاشوا وأسلافهم علي رمالها وفي شعاب جبالها آلاف السنين، ورغم إنذارات الغضب التي تمثلت في تفجيرات في منتجعات طابا وشرم الشيخ، فإن النظام الحاكم ظل علي تجاهله لهذه المطالب، تحت دعاوي أمنية عقيمة.. وفي هذه الأثناء، تعلم أبناء سيناء فنون العصيان المدني،وجرّبوا الاعتصام علي الشريط الحدودي بين مصر وإسرائيل، الذي تمنع نصوص معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل دخول أي قوات مصرية إليه، سواء من الشرطة أو الجيش، وتتولي حراسته قوات متعددة الجنسيات.. ونجحت هذه الاعتصامات لبدو سيناء في جذب اهتمام وسائل الإعلام العربية والدولية، مما سبب إحراجاً شديداً للسلطة في القاهرة وشرم الشيخ
.كذلك شهد عام ٢٠٠٧ تكوينات طلابية وعمالية وصحفية مستقلة من الاتحادات والنقابات، التي تسيطر عليها الأجهزة الأمنية، ولم تعد تتحدث باسم الفئات التي تدعي تمثيلها، ولذلك فإن معظم الإضرابات والمظاهرات التي تمت خلال العام، تم تنظيمها بواسطة عناصر قيادية جديدة ومستقلة، خارج الإطار المباحثي الحكومي، الذي يسيطر علي النقابات والاتحادات منذ خمسينيات القرن الماضي
.وقد انضم الصحفيون إلي ركب العصيان المدني لبقية الفئات المذكورة أعلاه، وقد تجلي ذلك في أبهي صوره في محاكمات رؤساء تحرير الصحف المستقلة، وعلي رأسها صحيفتا «الدستور» و«صوت الأمة»، اللتان حاولت السلطة التنكيل بهما، حتي يكون في ذلك عبرة لكل مَنْ تسول له نفسه، أن يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر.. وكانت المحاكمة المبكرة لإبراهيم عيسي ووائل الإبراشي مؤشراً لما سيأتي مفاجأة للطرفين، فقد احتشدت الجماهير في مبني المحكمة الذي جرت به المحاكمة في إمبابة، بشكل لم يتوقعه لا الصحفيون ولا السلطات الأمنية..
وتذكر المراقبون مشهداً مشابهاً قبل سنتين، حينما حاول النظام التنكيل بالمستشارين هشام البسطويسي و محمود مكي ، ومحاكمتهما تأديبياً، ليس فقط لرفضهما التستر علي تزوير انتخابات ٢٠٠٥ ولكن أيضاً لجهرهما بأسماء الأقلية من زملائهما الذين فعلوا ذلك، فيومها التف مئات الآلاف حول دار القضاء العالي، بصورة شلت الحركة في وسط العاصمة، وهددت بمزيد من تفاقم الأوضاع.. وكما تراجعت الحكومة في حالة المستشارين الجليلين، فإنها علي ما يبدو تحاول شيئاً مماثلاً، وهو وقف التنفيذ، أو الاستمرار في تأجيل إصدار الأحكام علي رؤساء تحرير سبع صحف مستقلة، حاولت التنكيل بهم أيضاً في أوقات سابقة.
وكان من أغرب وأطرف ما اكتشفه المصريون بمناسبة محاكمة رؤساء التحرير السبعة، هو أن رئيس البلاد لا يصيبه المرض وحتي إذا أصابه مرض، فلا ينبغي الحديث عن ذلك علنا، حتي لا يتهدد الأمن القومي والاقتصاد الوطني! وهو ما جعل السلطة في مصر مصدراً لسخرية وسائل الإعلام الكبري في العالم، والتي تضامنت بحق مع رؤساء التحرير المصريين..
وحين توقفت أكثر من عشرين صحيفة مصرية عن الصدور ليوم واحد، تضامناً واحتجاجاً، شعرت قطاعات واسعة بأن هذا الشعب سيظل حياً لن يموت، حتي لو مات أي من قراصنته
.طبعاً، لم ينته عام ٢٠٠٧ إلا وقد تم توثيق وفضح ومحاكمة جرائم التعذيب في السجون المصرية، وهي ممارسة معروفة وواسعة النطاق ويشهد عليها كل من شاء حظه التعس أن يمر بتجربة هذه السجون، بمن فيهم كاتب هذا المقال، ورغم السنوات الطويلة لهذه الممارسة البشعة، فإنه لم تتم إدانتها والحكم علي مرتكبيها بالسجن إلا في عام ٢٠٠٧.
.لقد كان عام ٢٠٠٧ نقلة نوعية في ألوان العصيان المدني في مصر المحروسة، ولكن العام لم يخل مع ذلك من قرابين قدمها الشعب علي مذبح الحرية، وهو موضوع مقال قادم.
وكل عام ومصر أفضل حالا
بقلم / سعد الدين إبراهيم
رئيس مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية
جريدة آفاق

No comments: