Sunday, December 16, 2007

فوضي يوسف شاهين وأشياء أخري

لو كنت مسؤولا عن الأمن السياسي في مصر وأتيح لي أن أشاهد فيلم يوسف شاهين «هي فوضي» لانتابني بمجرد انتهاء العرض إحساس طاغ بالقلق علي مستقبل هذا البلد ، وربما فارق النوم جفوني إلي الأبد، بصرف النظر عما إذا كان عنوان الفيلم قد جاء مقترنا بعلامة الاستفهام التي فرضتها الرقابة أم لم يجئ!.
فرغم شدة حساسية يوسف شاهين وتفاعله الدائم مع قضايا مصر السياسية والاجتماعية، التاريخية منها والمعاصرة، إلا أننا لم نعتد من هذا الرجل الموهوب أن يعالج موضوعاته بمثل هذه الطريقة من الواقعية والصراحة والشجاعة التي عالج بها موضوع فيلمه الأخير الذي حمل توقيع تلميذه خالد يوسف إلي جانبه، وهو أمر يحسب له بلا شك.
وإذا كانت مشكلة يوسف شاهين، والتي أعيت جمهوره كثيرا فيما مضي، هي لجوؤه المكثف للرمز ومحاولة «التفلسف» الزائد عن الحد، إلا أننا نلاحظ أنه بلغ درجة من الوضوح جعلته يبدو في هذه المرة وكأنه يقدم فيلما تسجيليا أو يقرأ تقريرا مصورا منقولاً مباشرة من صفحة الحوادث في إحدي الصحف المستقلة!.
صحيح أنه سبق ليوسف شاهين أن وجه نقدا عنيفا لأوضاع سياسية معينة في العديد من أفلامه، خاصة في «العصفور» و«عودة الابن الضال» و«إسكندرية ليه» وغيرها، لكنه لم يلجأ أبدا، في حدود علمي ،إلي مثل هذا الأسلوب من قبل، ففي فيلمه الأخير «هي فوضي» لا يكتفي يوسف شاهين بنقد الواقع المعاش، ولكنه بدا لي وكأنه يوجه رسالة تحذير يقول فيها إن البلد مقبل علي كارثة كبري ما لم يتم تدارك الأمور، وهي ذات الرسالة التي سبق لي كما سبق لغيري من الكتاب أن وجهوها ومنذ فترة ليست بالقصيرة، وما زالوا يوجهونها حتي اليوم. ومع ذلك فهناك فرق كبير بين كلام المقالات ومشاهد الأفلام، خصوصا إذا كانت تحمل توقيع يوسف شاهين!.
لست متخصصا في السينما حتي أسمح لنفسي بالتصدي بالتحليل أو النقد لعمل من أعمال يوسف شاهين أو غيره، غير أنني مع ذلك عشقت هذا الفن الجميل منذ صباي، وتابعت علي مدي نصف قرن رحلة رجل استطاع أن يضع بصمته علي السينما المصرية، بصرف النظر عن مدي الاتفاق أو الاختلاف معه فيما يطرحه فيها.
لذا أعتقد أن من حقي أن أعبر عن انطباعاتي عن أعماله كمشاهد غير متخصص أو غير خبير، وأن أوضح لماذا يبدو لي الفرق واضحا وكبيرا بين فيلمه الأخير وما سبقه من أعمال. وإذا كان فيلم «باب الحديد» هو الذي أثبت، في تقديري، جدارة يوسف شاهين وتميزه إلي درجة تؤهله ليكون صاحب مدرسة خاصة في السينما المصرية، فإنني أظن أنه كرس وجوده علي الساحة السينمائية في مصر كصاحب مدرسة خاصة بعد فيلم «الأرض».
غير أن الاعتراف بموهبة يوسف شاهين باعتباره «سينمانجي» يجيد استخدام أدواته ويصعب علي أي ناقد التشكيك في قدراته الفنية، لم يكن معناه تفاعل الجميع، نقادا ومشاهدين، مع مدرسته بنفس الدرجة من الحب أو النفور. وفيما يتعلق بي فقد أحببت في شاهين حسه الوطني المرهف، وعقله النقدي الذي يرفض الدوجماتية، رغم ميوله الليبرالية والاشتراكية أو حتي الناصرية الواضحة.
ومع ذلك لم أستطع أن أخفي شعورا بالنفور من نبرة نرجسية أحسستها في بعض أعماله. وبقدر إعجابي الشديد بمعظم الأفلام التي عالج فيها قضايا سياسية واجتماعية وتاريخية عامة، كان نفوري مما أطلق عليه بعض النقاد «سينما الرؤية الذاتية» التي اشتهر بها وتناول فيها جوانب من حياته وسيرته الذاتية.
وأعترف أنني عجزت عن التفاعل الإيجابي مع هذا اللون والذي لم يخل، مع ذلك، من لقطات ومشاهد بالغة الروعة والجمال و «الحرفية». غير أنني أعتقد أن ما سبق أن قاله يوسف شاهين حول مختلف القضايا السياسية والاجتماعية التي تناولها شيء وما يحاول أن يقوله اليوم في «هي فوضي» شيء آخر مختلف تماما. وفيما يتعلق بي يمكن القول أنني قرأت في هذا الفيلم ثلاث رسائل أعتقد أن يوسف شاهين وخالد يوسف أرادا أن يبعثا بها إلي كل من يهمه الأمر في مصر
:
الرسالة الأولي: أن حجم الفساد وعدد ونوع حالات انتهاك حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة التي يمارسها النظام السياسي ضد المواطنين والجماعات وصلت في مصر اليوم ذرا غير مسبوقة في تاريخ البلاد.
وتتجلي هذه الرسالة بوضوح من خلال مشاهد بشعة وكثيرة يغص بها الفيلم من أوله لآخره، بدءاً بارتكاب جرائم الرشوة العلنية وإساءة استخدام السلطة والاعتقالات التعسفية وعمليات حبس غير قانوني وتعذيب واستعانة بشهود زور ومجرمين والتستر عليهم، وانتهاء بارتكاب جريمة الاغتصاب.
صحيح أن أفلاما مصرية كثيرة تناولت في الماضي بعضا من هذه الظواهر السلبية أو كلها، غير أن الجديد في هذا الفيلم أن السلطة المسؤولة عن حماية المجتمع هي ذاتها المتهم وهي المجرم والفاعل الحقيقي، ممثلا في شخصية حاتم أمين الشرطة والتي جسدها باقتدار الممثل خالد صالح.
الرسالة الثانية: أن مصر، والتي تم اغتصابها بواسطة سلطة يفترض أن تحميها، ما تزال راغبة في المقاومة وقادرة عليها، وبها نماذج بشرية وشرائح سياسية واجتماعية كثيرة لم يصبها التلوث أو ينتشر فيها الوباء وما تزال قادرة، رغم كل شيء، علي البذل، وراغبة في العطاء.
وتتجلي هذه الرسالة بوضوح عبر شخصية نور، المدرسة التي تقيم مع والدتها في الشقة المواجهة لأمين الشرطة المتيم بحبها، حيث يجسدان الطبقة الشعبية المتمسكة بقيمها وتقاليدها والمحافظة علي كرامتها وشرفها، وكذلك عبر شخصية شريف وكيل النيابة ووالدته الناظرة، اللذين ينتميان للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة ويعبران عن أحلامها وطموحاتها، فللناظرة ماض سياسي نضالي يعتد به، وشريف، الذي استسلم لتطلعات شخصية لم تدم طويلا، أصبح، حين انتهك شرف خطيبته، أكثر إصرارا علي مقاومة الطغيان حتي النهاية.
الرسالة الثالثة: أنه لا أمل في إصلاح يأتي من داخل النظام، ولا جدوي من أي إصلاح جزئي، ولا بد من التغيير الشامل والذي لن يتأتي إلا بالانقضاض علي بنية الفساد واقتلاع الظلم من جذوره والقصاص للمظلومين.
وتتجلي هذه الرسالة بوضوح من خلال مشاهد عديدة ربما كان أهمها المشهد الختامي حين انقضت الجماهير بقيادة وكيل النيابة علي مقر قسم الشرطة الذي مارس منه أمين الشرطة كل جرائمه، وبتواطؤ صريح أو مستتر من رؤسائه، وجرت محاصرة المجرم إلي أن انتحر وتم الافراج عن المحتجزين
ولا يتسع المقام هنا لتحليل تفصيلي حول نقاط القوة والضعف في هذا الفيلم المثير، غير أنني أود أن أشير بسرعة إلي ما يلي:
١- فيما يتعلق بنقاط القوة في الفيلم أود أن أشير بصفة خاصة إلي أداء الممثلين، الذين قدموا جميعا أفضل ما لديهم. وتجدر الإشارة هنا علي وجه الخصوص إلي أداء خالد صالح، والذي أعتقد أن لديه من النبوغ ما يمكنه من البروز كأفضل ممثل في مصر، شريطة أن يطلق لملكاته العنان وألا يستسلم لمحاولات سجنه داخل قوالب أو أنماط معينة من الشخصية، ومنة شلبي، والتي قد لا تكون جميلة بالمعايير التقليدية لكنها تجمع بين أنوثة من نوع خاص وتلقائية في الأداء يرشحانها نجمة أولي في جيلها، وهالة صدقي التي قامت بواحد من أفضل أدوارها وعبرت في مشاهد محددة عن انفعالات لا يستطيع أحد غيرها أن يؤديها.
٢- فيما يتعلق بنقاط الضعف، توجد مآخذ كثيرة علي الفيلم، ربما كان أهمها اختيار أمين الشرطة، وليس ضابط شرطة كبير، كشخصية محورية. ورغم أن هذا الاختيار بدا كمحاولة للإفلات من الرقابة، إلا أنه لا يوجد ما يبرر إظهارها كشخصية سيكوباتية وليس كإفراز عضوي لنظام فاسد مستبد.
صحيح أن الإشارات إلي استبداد النظام وفساده كثيرة وجريئة، مثل عبارة «مش كفاية قاعدين علي قلبنا ٢٤ سنة»، مع ذكر الحزب الوطني ولجنة السياسات بالاسم، غير أن علاقة التواطؤ بين أمين الشرطة ورؤسائه لم تبرز بالقدر الكافي والمقنع. يضاف إلي ذلك وجود مشاهد عري مبالغ فيها ولا مبرر لها.
وشخصيات وعلاقات تبدو غريبة علي مجتمعنا أو هامشية. فسلوك خطيبة شريف مثلا، والتي لا أذكر اسمها الآن، وتعلق شريف بها إلي هذه الدرجة، وعلاقة شريف بوالدته.. بدت غير مقنعة.
غير أن ذلك كله لا يقلل من أهمية الفيلم، فتحية ليوسف شاهين وخالد يوسف.
وحيث أننا في معرض حديث عن الفن والسينما، أود أن أهمس في أذن الفنان عمر الشريف، والذي لا أعرفه، بمناسبة حديث أدلي به إلي صحيفة الأهرام يوم الأربعاء الماضي حول تكليف السادات له بالاتصال بشخصيات يهودية، وقيامه بالاتصال بمناحم بيجين عبر السفير الإسرائيلي في باريس، ولأقول له إن كلامه هذا مرسل ولا دليل عليه ويسيء إليه بقدر ما يسيء إلي الرئيس السادات نفسه، وليس مقبولا التعامل مع قضايا علي هذا القدر من الخطورة بمثل هذه الخفة، ولذلك فسواء كان ما قيل مجرد خيال محض أو حدث فعلا، فإنه يكشف عن أمور قد تستحق أن نناقشها في مقال آخر إذا ما سنحت الفرصة
بقلم د.حسن نافعة ١٦/١٢/٢٠٠٧
المصرى اليوم

No comments: