Sunday, December 16, 2007

د. جلال أمين يكتب : المصريون.. وخمسون عاما ًمن الاغتراب (١-٣

كلنا جّرب الشعور بالغربة «أو الاغتراب»، وعاني منه فترة قصيرة أو طويلة، إذ يجد المرء نفسه في بلد غريب لا يعرف فيه أحداً «أو علي الأقل لا يعرف فيه أحدا معرفة حميمة»، ووسط أناس لا يعرفون لغته «وقد لا يعرف هو أيضا لغتهم»، ولهم عادات جديدة عليه ولا يفهم مغزاها بالضبط.كلنا يعرف كم هو ممض هذا الشعور بالغربة، الذي قد يكون مؤلماً لدرجة يصعب احتمالها،
ولكن ماذا عما يمكن أن يشعر به المرء من غربة «أو اغتراب» وهو قابع في وطنه لم يغادره، ووسط أهله وعشيرته؟!
ما أصل هذا الشعور بالاغتراب الذي قد يعتري المرء دون أن يغير مكانه؟!
لابد أن يكون أصله أن المكان نفسه قد تغير، وأن الوطن لم يعد هو نفس الوطن، والناس من حوله قد طرأت تغييرات مهمة علي سلوكهم وعاداتهم لم يعد معها يشعر بالألفة القديمة، وأصبح يشعر بأنه لا يفهمهم وبأنهم هم أيضا لا يفهمونه.
لقد اعتراني منذ فترة، ليست بالقصيرة، شعور كهذا الشعور بالاغتراب، وأنا باق في مصر لا أتركها، وخامرني أيضا شك قوي بأن كثيراً من أصدقائي ومعارفي، ومن ثم كثيرين أيضا غيرهم من المصريين، لابد أنهم يعانون من نفس الشعور، كان لابد إذن أن أتساءل عما يمكن أن يكون قد حدث خلال السنوات الأخيرة، وكان من شأنه خلق شعور قوي بالاغتراب لدي عدد كبير جدا من المصريين، وليس فقط من المثقفين، وإن وجد غير المثقفين صعوبة أكبر من التعبير، عما يدور في نفوسهم بالضبط
.لم أجد من الصعب تحديد كثير من التغيرات المهمة التي طرأت علي حياتنا السياسية و الاجتماعية والثقافية، ويمكن أن تكون من مسؤولية عن هذا الشعور بالاغتراب، ولكني سرعان ما تبينت أن الأمر أقدم مما كنت أظن، فالشعور بالاغتراب ليس وليد بضع سنوات، بل قد يرجع إلي بداية عهد الرئيس حسني مبارك منذ ٢٦ عاما، ثم تساءلت: وهل يمكن أن نعفي عقد السبعينيات، الذي حكم فيه الرئيس السادات من هذه التهمة؟!
بل قلت لنفسي إننا إذا أردنا الإنصاف التام يجب أن نعود إلي بداية عهد الثورة في ١٩٥٢، فهنا لابد أن نعثر علي بداية الشعور بالاغتراب، وإن كان الاغتراب طوال الخمسة والخمسين عاما التي انقضت علي قيام الثورة، قد اختلفت أسبابه وتفاوتت حدته، واختلفت أيضا الشرائح الاجتماعية الأكثر معاناة منه، بين مرحلة وأخري منذ ذلك الوقت.
***
لم يكن غريبا أن يبدأ هذا الشعور بالاغتراب بقيام الثورة في ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فالحياة السياسية والاجتماعية ظلت فترة طويلة قبل الثورة لا يطرأ عليها مثل هذا التغيير العنيف..
ظلت الوجوه التي تتداول إدارة الحياة السياسية في مصر هي هي بلا تغيير يذكر طوال الثلاثين عاما السابقة علي الثورة، فإذا مات الملك حل محله ابنه، وإذا مات رئيس أكبر حزب شعبي «الوفد» حل محله أقرب أتباعه إليه وظل الاقتصاد يدار لمصلحة الدولة الأجنبية، التي تحتل البلاد، فإذا رحل جنودها عن القاهرة لتقليل الاحتكاك بالشعب، ربضوا علي طول قناة السويس.
كما ظل المجتمع يجلس علي قمته ملاك الأراضي الكبار وفي أسفله ملايين المستأجرين الصغار للأرض الزراعية والعمال الزراعيين الأجراء، وبينهما طبقة متوسطة صغيرة كانت عاداتها وقيمها عند قيام الثورة في منتصف القرن لا تختلف كثيرا عما كانت عليه في بدايته.نعم، لقد استقبلت ثورة يوليو بالترحيب الشديد من الغالبية الساحقة من الشعب المصري، الذي كان يتشوق إلي من يخلصهم من ملك فاسد، واحتلال أجنبي، ونظام إقطاعي مستغل، وحياة سياسية عقيمة، وركود اقتصادي طويل. وسرعان ما أعلن رجال الثورة أن هذا هو بالضبط ما ينوون عمله، بل أظهروا ما يدل علي أنهم قادرون علي ذلك، ولابد أن الغالبية العظمي من الفلاحين والعمال ومن المتبطلين وأشباه المتبطلين عن العمل قد شعروا وكأن الوطن قد عاد إليهم بعد أن كان مسلوبا منهم وكانوا كالغرباء فيه، ولكننا لابد أن نلاحظ أنه في غمرة كل هذا الحماس للثورة بدأ شعور قوي بالاغتراب يعتري بعض شرائح المصريين بمجرد قيام ثورة يوليو، قد لايبدو لنا مهما، لا الآن ولو وقت قيام الثورة، فلابد أنه اعتري أفراد الأسرة المالكة من أمراء وأميرات وحاشية الملك ووثيقي الصلة بهم من رجال القصر وكبار الضباط من مشاعر الذل والخوف، وما تعرضوا له من امتهان داخل الوطن ومن تشرد خارجه، قد يبدو هذا أمراً قليل الأهمية بالنظر إلي حتمية حدوثه، في بلد يريد أن يبدأ صفحة جديدة من حياته،
ولكن كانت هناك أيضا مشاعر الاغتراب لدي شريحة من المصريين أقوي وطنية من أفراد الأسرة المالكة وحاشيتهم، وأقصد بها شريحة المسيسين من المصريين الذين كانوا قد تجاوزوا الأربعين من العمر.عند قيام الثورة وتعلقت قلوبهم بزعامة رجال من نوع سعد زغلول ومصطفي النحاس، بل ربما اشتعل حماسهم في صباهم لثورة ١٩١٩، وكانوا لايزالون يذكرون بشغف أغاني سيد درويش وأم كلثوم وعبدالوهاب القديمة، وشهدوا مسرحيات يوسف وهبي ونجيب الريحاني التي تسخر من التناقضات الطبقية الصارخة، ولكن دون أن تدعو إلي الثورة عليها
.فوجئت هذه الشريحة من المجتمع المصري، الذي قد تكون صغيرة الحجم حقاً ولكنها كانت تمثل نسبة لا يستهان بها من المثقفين في مطلع الخمسينيات، بمجموعة من الضباط صغيري السن، يتسلمون مقاليد الحكم من رجال أكبر سناً منهم بكثير، وأطول خبرة وأوسع ثقافة (من نوع مصطفي النحاس وإبراهيم عبدالهادي ومكرم عبيد وعلي ماهر وحسين سري ولطفي السيد وإسماعيل صدقي.. إلخ). نعم، لا شك أن معظم هؤلاء كانوا علي استعداد لمهادنة الإنجليز أكثر من اللازم، وأكثر استعداداً لخدمة مصالح كبار الملاك الزراعيين منهم للعمل علي الارتقاء بعامة المصريين، ولكن معظمهم أيضاً لم يكن ليشك أحد في وطنيتهم، وكثيرون منهم اشتركوا وكافحوا مع زعماء ثورة ١٩١٩، وكلهم كانوا علي دراية بتاريخ مصر ومشاكلها بدرجة أكبر من دراية هؤلاء الضباط
.كان هذا وحده كفيلاً بإثارة شكوك هذه الشريحة من المثقفين المصريين وتخفيف حماسهم للثورة، ثم تأكدت هذه الشكوك يوماً بعد يوم وخفت الحماس أكثر فأكثر عندما شاهدوا كيف تعامل هؤلاء الضباط مع زعماء الفترة السابقة، بل مع التاريخ المصري بأسره. أخذ هؤلاء الضباط، مع مرور الوقت، يعاملون ما حدث في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ليس علي أنه بداية مرحلة جديدة من مراحل التاريخ المصري، بل علي أنه انقطاع شبه تام عما سبق وبداية لتاريخ جديد، بل بذلت محاولات متعمدة لمحو ذاكرة المصريين بما كان قبل هذا التاريخ، أخفيت عن عمد صور الزعماء السابقين علي الثورة، ولم يعد يأتي ذكر لهم في الصحف، كما منعت أي أخبار أو صور تتعلق بالأسرة المالكة، ومنعت بتاتاً أي أغان تقترن في أذهان الناس بمناسبة من المناسبات وثيقة الصلة بذلك العهد (الذي سمي باستمرار بالعهد البائد)، بما في ذلك مثلاً أغنية جميلة لأم كلثوم وضعت لتحية اجتماع لملوك العرب ورؤسائهم في القاهرة، لمجرد أن اسم «الفاروق» ورد بالأغنية، بل منعت حتي أغان وطنية قديمة إذا لم يعتبرها النظام الجديد «ثورية بدرجة كافية»
.كان ما حدث في ٢٣ يوليو يسمي في البداية مجرد «حركة» وأحياناً «حركة مباركة»، ثم خطر ببال الضباط أن يسمي هذا الذي حدث «ثورة»، وترسخ هذا الاسم إلي الأبد، وقبله معظم المصريين علي أساس أن ما قد يكون قد بدأ «كحركة» قد تحول إلي «ثورة» بسبب عمق وأهمية ما اتخذته هذه الحركة من إجراءات وما أحدثته في المجتمع من تغييرات،
ولكني لا أشك في أن هذه الشريحة التي أتكلم عنها من المثقفين المصريين، الذين كانوا في ١٩٥٢، أكبر سناً من أن يخفي عليهم الفارق بين ثورة عامة اجتاحت مختلف الفئات والطوائف والطبقات في مصر في ١٩١٩، وحركة قام بها عدد من الضباط في يوم وليلة، ونقلت إليهم مقاليد الحكم في فترة لا تزيد علي ثلاثة أيام
.لابد أن هذه الشريحة من المثقفين المصريين قد ساءها أيضاً أن تسمع أغاني جديدة تمجد هؤلاء الضباط، وتذكر بعضهم بالاسم مقترناً بأوصاف لا تختلف عن الأوصاف التي كانت تطلق علي الملك المخلوع، وأن تري اشتداد ساعد قوي الاستبداد، وانهزام تلك القلة من الضباط الذين نادوا بالديمقراطية، فزاد شعورهم بالمرارة إزاء اختفاء الزعماء القدامي الذين كانوا يسمحون علي الأقل بورقة لا يستهان بها من حرية التعبير عن الرأي. مما يروي عن الراقصة الفنانة الموهوبة تحية كاريوكا التي عاصرت هذا الانتقال بين العهدين، أنها علقت علي هذا الميل إلي الاستبداد لدي الحكام الجدد بقولها: «ذهب فاروق وجاء فواريق»، وأنها دفعت كثمن لهذه العبارة أن ألقي بها في السجن بضعة أيام.
لابد أيضاً أنه مما زاد شعور هؤلاء المثقفين بالاغتراب ما رأوه من طريقة معاملة الضباط الجدد للمثقفين المصريين بوجه عام. كان منطق هؤلاء الضباط من البداية، والذي لم يحاولوا إخفاءه بل بدوا فخورين به، أنهم ضد «التفلسف»، وأن المهم هو «العمل» لا «الكلام». كانوا يسخرون من رجال العهد البائد لأنهم كانوا يجيدون الكلام ،ولكنهم لا يصنعون شيئاً، بينما هم (أي الضباط الجدد)، قادرون علي تحويل الأفكار والآمال إلي قوانين بين يوم وليلة، فيغيرون بها واقع الشعب المصري ويحسّنون أحواله.
هكذا قضي بقانون بسيط علي ما كان يقسم المجتمع المصري إلي طبقات بإلغاء الألقاب من باشوية وباكوية، وأصبح كل مصري يخاطب «بالسيد فلان»، دون اعتبار لأصله ووظيفته أو أملاكه، لقد استعانت الثورة من البداية ببعض أساتذة الجامعات، فعهدت إليهم بالوزارة، ولكن ما كان أسرع استغناءهم عن أساتذة عينوهم علي سبيل الخطأ كوزراء، ثم ظهر أنهم «يتفلسفون» أكثر من اللازم، بطيئو الحركة، وكثيرو التساؤلات، لقد بقي بالطبع بعض أساتذة الجامعات يتعاونون مع الضباط حتي أصبحوا مع مرور الوقت جزءاً لا يتجزأ من النظام، ولكنهم كانوا من نوع معين ليس بالضرورة الأكثر تمتعاً باحترام زملائهم الجامعيين. وكان هذا بدوره مما قوي الشعور بالاغتراب لدي الجامعيين الأقل استعداداً لمداهنة الحكام، والأقل لهفة علي الحصول علي منصب كبير
.هكذا فتح النظام الجديد موضوع «أهل الثقة وأهل الخبرة» إذ قال المتكلمون باسم النظام إن الثورة تحتاج إلي «أهل الثقة» أكثر مما تحتاج إلي «أهل الخبرة»، بعبارة أخري إذا كان الخبير أو العالم أو المثقف «غير متعاون»، فالأفضل منه الأقل خبرة والأقل علماً وثقافة مادام «علي استعداد للتعاون» مع النظام الجديد
.كان هذا تعبيراً آخر عن تفضيل التغيير السريع، حتي ولو لم يعتمد علي مبررات كافية وكان هذا بالضرورة مصدراً آخر من مصادر الشعور بالاغتراب لدي المثقفين الذين لا يرون داعيا للتعجل في أمور تتعلق بجوانب مهمة من حياة المجتمع، كالتعليم أو السياسة الاقتصادية، أو تتعلق بالثقافة نفسها.
كم كان قوياً، بلا شك، الشعور بالاغتراب لدي رجال مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وحسين فوزي، بل حتي لدي بعض الأدباء الأصغر سناً كنجيب محفوظ، عندما رأوا النظام الجديد يعين ضابطاً أديبا هو يوسف السباعي كمسؤول عن المجلس الأعلي للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، فوجد هؤلاء أنفسهم، وهم يصنعون أسس السياسة الثقافية في مصر، مرؤوسين لرجل أصغر سناً منهم بكثير، وأقل منهم مكانة كأديب، ولكن أكثر تفهماً لأغراض النظام وأسرع في اتخاذ القرارات.لم يكن هؤلاء المثقفون الذين أصابهم «الاغتراب» أقل حماساً بالضرورة عما كان يتخذه النظام الجديد من إجراءات لإصلاح الاقتصاد وتنمية الصناعة أو إخراج الإنجليز فالشعور بالاغتراب قد يوجد وقد يكون قوياً للغاية حتي مع وجود التعاطف مع أهداف النظام.
فالمشكلة هنا ليست في أن هؤلاء المثقفين كانوا يعتبرون النظام «غير وطني» ولكن لأنه لم يكن في حاجة إليهم، وأنه جعل من الواضح جدًا لهم أنه ليس في حاجة إليهم. لقد سمعت أحد كبار المثقفين اليساريين في مصر يقول في أوائل الستينيات: «المشكلة مع عبد الناصر أنه لا يسمح لنا بأن نموت من أجله».
ولكن الأمر كان أسوأ من ذلك مع بقية المثقفين اليساريين الذين وضع كثيرون منهم في السجن لمدة خمس سنوات «٥٩- ١٩٦٤» في نفس الوقت الذي كانت تصدر فيه القوانين الاشتراكية الشهيرة، ومن ثم عاني هؤلاء المثقفون ليس فقط اغترابًا نفسيا بل اغتراب مادي كذلك. وقد انتهي الاغتراب المادي بإخراجهم من السجن في ١٩٦٤، ولكن دون أن يضعف شعورهم بالاغتراب النفسي.
***
عندما أعلن النظام اكتشافه المفاجئ في منتصف الخمسينيات أن هوية مصر الحقيقية هي «الهوية العربية» لم أجد ولا وجد الشباب
المصري المهتم بالسياسة والذي كان في مثل سني، أي غضاضة في هذا. فلم لا؟ نحن مصريون بالطبع ولكننا أيضًا عرب.
هذا الاكتشاف لانتماء مصر العربي بدا لنا وقتها ليس فقط شيئًا معقولاً جدًا «إذ كانت الحجج التي تدعمه مقنعة تمامًا» ولكنه بدا لنا أيضًا شيئًا جذابًا للغاية. إذ من الممكن عن طريقه أن تتضاعف قوة مصر، بإضافة قوة العرب الآخرين، وتتضاعف فرصها للتنمية، بإضافة ثروة العرب من المواد الأولية وأسواقهم، كما تنمو بها قوة مصر في المساهمة مع الدول الطامعة فيها. لم يكن من الصعب إذن علي جيلي أن يعيد تعريف «القومية» بحيث تصبح أوسع من الوطنية المصرية، وأن يشتعل حماسنا إذا سمعنا أغاني لـ «الوطن الأكبر»، وأن نهتف للوحدة العربية من المحيط إلي الخليج. بهذه الروح قبلنا بالفرح والترحيب الإعلان في أوائل ١٩٥٨ عن اتحاد مصر وسوريا وتكوين ما سمي بالجمهورية العربية المتحدة، وأصبحت مصر مجرد «القطر الجنوبي» من هذه الجمهورية، وأضيفت نجمتان إلي العلم الجديد الذي كانت الثورة قد أحلته محل العلم الأخضر ذي الهلال والنجوم الثلاث، والذي كنا نقف لتحيته ونحن أطفال
.قبلنا الوحدة مع سوريا، وقبلنا تغيير اسم الوطن وشكل العلم عن طيب خاطر، ولكني أشك جدًا في أن هذا كان هو نفس شعور الجيل الأكبر منا سنًا من المثقفين: جيل نجيب محفوظ وفتحي رضوان، ناهيك عن جيل طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد.
لم يكن أي رجل من هؤلاء ليعترض علي القول بأن مصر عربية، ولا علي القول بمزايا الوحدة العربية من جميع النواحي، ولكنني أزعم أن هذا الإعلان المفاجئ عن اكتشاف هوية مصر العربية قد أصاب هذه الشريحة الأكبر سنًا من المثقفين المصريين بشعور قريب من الشعور بالاغتراب، خاصة وهم يرون التغير الذي طرأ علي اسم الوطن نفسه.
هل مشاعر من هذا النوع هي التي أدت بنجيب محفوظ إلي اتخاذ منحي مختلف تمامًا في الكتابة ابتداء من أوائل الستينيات، حيث شرع يكتب قصصًا رمزية لا يمكن فهم مغزاها فيما يتعلق بما يجري من أحداث إلا بالتخمين؟!!!!!!!، علي أي حال لقد أفصح توفيق الحكيم عن رأيه في نظام الخمسينيات والستينيات بالكتاب الذي نشره في أوائل السبعينيات بعنوان «عودة الوعي»، ونشر رأيه في عروبة مصر بصراحة بعد ذلك ببضع سنوات. ولم يتردد السادات في أن ينضم إلي الذين يرفعون شعار «مصر أولاً»، حينما أصبح هذا الشعار أكثر اتفاقًا مع رغبات الولايات المتحدة.
***
بوقوع هزيمة ١٩٦٧ عم الاغتراب الجميع
، فلم يعد مقصورًا علي شريحة من المثقفين بل شمل الشعب المصري كله المثقفين وغير المثقفين، الأجيال الكبيرة والشابة، الرجال والنساء، المسيسين وغير المسيسين. لماذا بالضبط؟!
لقد صحا المصريون كلهم فجأة علي سؤال يلح علي أذهانهم ولا يستطيعون التخلص منه: هل كان كل ما حدث منذ ١٩٥٢ مجرد خدعة؟.. هل كان «بناء جيش قوي» كذبة؟!
.. هل كان الصاروخان المسميان «القاهر» و«الظافر»، اللذان عرضا علي الناس في آخر عرض عسكري، مجرد نكتة سخيفة؟!
.. هل كان كل الكلام عن تحرير فلسطين لمجرد التضليل؟!
. وما فائدة كل ذلك الكلام عن القومية العربية والوحدة العربية، إذا كان هذا هو حجمنا الحقيقي سواء مع بقية العرب أو بغيرهم؟!
أما إعلان جمال عبدالناصر في التليفزيون أنه يتحمل مسؤولية الهزيمة، ومن ثم يتنحي عن الحكم ويترك مكانه لزكريا محيي الدين، فقد أصابنا بالحزن بالطبع، ولكن لمجرد أن يتضمن الإقرار بالهزيمة، أما خروج الجماهير لمطالبته بالبقاء وعدم التنحي، فلم يصدق معظم الناس «وأنا منهم» أنه ليس من صنع الحكومة نفسها
.كان من المحتم بعد هذا أن يتكرر علي أسماعنا بشكل ممل وثقيل الوطأة علي النفس، شعارات جديدة من نوع «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» أو أن «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» فزادت هذه الشعارات من شعورنا بالاغتراب، وزاد منه أيضا تسمية ما حدث بالنكسة، ولم ننخدع بمحاكمة المسؤولين عن الطيران، ولا اعتبرنا أن «عبدالحكيم عامر» الذي انتحر في سجنه (الذي ترددت بين الناس شائعة أنه انتُحر بضم التاء) هو المسؤول الحقيقي عما حدث، ولا علقنا آمالا كبيرة علي ما سمي بـ «حرب الاستنزاف»
.نعم، لقد شيعت جنازة جمال عبدالناصر برهبة واحترام غير معهودين في التاريخ المصري، وخرجت أعداد غفيرة لتوديعه بتلقائية، وإجلال حقيقي لم يحظ به إلا رجال معدودون في التاريخ المصري، من نوع سعد زغلول، قبل عبدالناصر، ومصطفي النحاس وأم كلثوم اللذين توفيا بعده، ولكن الشعب المصري في خروجه لتوديع عبدالناصر كان يودع في الأساس فترة حافلة بالآمال التي لم تتحقق، ويذرف الدموع علي ما حدث لوطن أصبح يشعر بأنه غريب فيه.

16/12/2007
المصرى اليوم

No comments: