انفجرت الحسناء الاسكندرانية في وجه مفتش القطار «يعني نتخنقوا؟.. طيب بندفعوا فرق التكييف ليه؟».
لم يكن قطار السادسة والدقيقة الأربعين مساء الأحد الماضي، (متأخرا 12 دقيقة) قد غادر سيدي جابر بعد، والحرارة الخارجية 98 فهرنهايت (حوالي 37 مئوية)، والتكييف معطل.
تحول مفتش القطار إلى كيس تدريب الملاكمين يمتص «البوكسات» الكلامية للركاب ونظراتهم الخنجرية الحادة في العربة «واحد» أولى تكييف وحرارتها الداخلية 108 فهرنهايتات.
المفتش، الذي استجاب لطلبي بفتح الجزء الأعلى (3 بوصات) من نافذتين للطوارئ سامحا بتحريك تيار هواء ملوث، نصح باستعادة فارق التكييف عند وصول باب الحديد، لتسجيل الواقعة، مؤكدا تقديمه تقريرا للمختصين، قبل وصول القطار للاسكندرية (أي قبل ثلاث ساعات)، بعدم صلاحية العربة لنقل الآدميين.
لم تعرف مصلحة السكة الحديد المصرية هذا «البوظان» أيام الانضباط والدقة والنظافة في «العهد البائد »، عندما كان فراش «السكوندو»- الدرجة الثانية وليست الاولى - باليونيفورم الأنيق والطربوش، يحضر كأس المياه المثلج فوق صينية فضية.
قطارات زمان بـ«الوابور البخاري» بمقابض ابوابها النحاسية اللامعة والمقاعد الجلدية، كانت أنظف من قطارات أوروبا اليوم، وذلك قبل «تحرير الثوار» لمصلحة السكة الحديد من المفتشين الانجليز، أي «قبل أن تخربها» في لغة الفلاح الفصيح.
تقرير مفتش القطار 928 بعدم صلاحية العربة «واحد» لنقل الآدميين، دفنه أفندي «غير آدمي» في مكتب يغطيه التراب، وعاد للنوم.
لو كان وكيل المحطة تسلم التقرير، في «العهد البائد» لكانت العربة واحد أغلقت بالشمع الأحمر؛ وأعيد توزيع ركابها على المقاعد المخصصة لركاب طنطا في عربات الدرجة الأولى الثلاث الأخرى.
الأفندي وكيل المحطة قبل «تحرير المصلحة» ـ وأراهن بكل ما أملك، انه كان محترم المظهر بقميص منشي الياقة وكرافت وبذلة في أناقة يوسف بك وهبي في فيلم أولاد الذوات؛ وبطربوش في فخامة طربوش الملك فاروق الأول، ملك مصر والسودان، دائم الابتسام للركاب يشعرهم اهتمامه براحتهم بسعادة من يشاهد رقصة لسامية جمال على انغام محمد عبد الوهاب.
الأفندي وكيل المحطة كان، بجدية يؤكدها شاربه المفتول المهذب تقليدا لشارب الملك فؤاد، سيرسل اشارة لزميله في طنطا الذي يماثله احتراما وأناقة وحسن تصرف، كبقية أفندية «العهد البائد»، ليخصص عربة إضافية لركاب طنطا.
ولكن، ويا فرحة التقدميين الثورجيين، ولي «العهد البائد»؛ وإذا لم يمت ركاب العربة واحد قطار رقم 928 «فطيس» بالهواء الملوث الحار، فليموتوا بغيظهم كما مات جيل الأفندية المحترمين بطرابيشهم النادرة.
هذا التسيب والبوظان والاستهتار بحقوق الناس ومشاعرهم، أسوقه للقارئ على سبيل المثال لا الحصر.
وكيف تحصر طوفان المنغصات ومسببات الغم والترحم على الزمن الجميل (العهد البائد) التي تضرب ذكرياتي بالشلوت تلو الشلوت، في كل زيارة للمحروسة؟
وتتضاعف الآلام الروحية المبرحة برؤيتي لما حل بشوارع ومعمار الاسكندرية، فلن تزيل الف عملية تجميل اثار القاء الثورجية «ماء نار» على وجه عروس البحر الأبيض.
أحد أجمل شوارع ذكريات طفولتي كان ممرا للهواء النقي وبهجة للعين بالأشجار الباسقة في فيلات عهد الخديوي اسماعيل، ممتدا من محطة ترام سيدي بشر، حتى بلاج ميامي الراقي. لم أتعرف على الشارع الذي شوهته ابراج معادية للجمال، تنافس مرتكبو جريمة بنائها على جوائز القبح وإتلاف البيئة و«عكننة الناس».
أما سائق التاكسي الرث الثياب الأكثر بهدلة من سيارته، فلم يعرف مكانه؛ فقد نزع اعداء الجمال والتراث اليافطة الزرقاء التي ابدعتها يد أسطى فنان خط اسم «شارع الأميرة فوزية» واستبدلوها بأخرى خضراء قبيحة تحمل اسم محارب أجنبي غريب عن تاريخ المصريين وتركيبة جيناتهم الوراثية وحضارتهم؛ ولم تطأ قدمه ارض مصر الطيبة، ولم يقدم أي خدمة لمصر، بعكس الأميرة فوزية المبهرة الجمال، التي نظمت العديد من الاعمال الخيرية لأطفال وطنها مصر.
اسم المحارب الغريب تبخر من ذاكرتي التي انهكتها كدمات رؤية طريق قبيح آخر، اكتشفت بصعوبة انه شارع ابوقير (اغتصب اسمه ايضا) الذي كان، بنخيله الأبيض الباسق ومعماره من القرن 19، يفوق افضل بوليفارد في اوروبا جمالا.
عرابو القبح أرادوا مسح أسرة محمد علي بإنجازاتها الحضارية، من ذاكرة الأمة المصرية؛ ولكن مهما بلغت اذهان العسكر من تلبد، هل عجزت عن تذكر اسم واحد من المصرين والمصريات عبر العصور؟
نفرتاري، وامحوتب وماتينوس من العهود القديمة، أو من رواد نهضة مصر الحديثة كأحمد لطفي السيد، وبطرس غالي باشا، ونبوية موسى، وحافظ ابراهيم، ومكرم عبيد؟
لكن يبدو ان الدور الوطني لأصحاب هذه الاسماء المتعمقة بجذورها في تربة القومية المصرية، اثارت ذعر القائمين على ادارة الفساد ومدبري مؤامرة طمس الهوية، خشية ان يذكر الاسم سكان الشارع وسائقو التاكسي بهويتهم القومية الفرعونية النيلة، فاختاروا اسم محارب اجنبي ليطمسوا يافطة الأميرة فوزية التي هجرت شاه ايران الراحل، اياما فقط بعد الزفاف، عندما اكتشفت بدائية بلاطه مقارنة بتحضر وطنها مصر.
هربت بدوري من الاسكندرية بعد تشويهها الى احدى الملاذات الحضارية الباقية: مسكن الفنان التشكيلي سالم صلاح، في الزمالك بسكانه من سلالة مثقفي مصر ومبدعيها المهددة بالانقراض، التي لا تزال تقاوم ببسالة غزوة القبح وهجمة افساد العقل التي تجتاح المحروسة بهمجية غير مسبوقة.
الجدران تغطيها لوحاته، وبعضها عرض في لندن في الرويال اكاديمي، التي امتزجت فيها ضربات فرشاته بدقات قلبه بعد غمسها في الوان حب مصر. مسكن صلاح ينقلك الى زمالك الخديوي اسماعيل بزمنه الجميل.
اشجار الزمالك يبدو انها ستموت واقفة، تقاوم ببسالة يد التخريب التي تقبح كل ما بقي من ابداع معماري واحد من الخنادق الأخيرة التي يحتمي في مقاهيها آخر الرجال المحترمين.
اللجوء الثقافي عند الفنان صلاح انعشني من غيبوبة ما حل بالإسكندرية، بحقنة جمال بصري بفضل ذوق وموهبة زوجته الفنانة الدكتورة وسام بشير؛ فرغم سنواتها الشابة، فهي حضاريا، من جيل أمي، من سلالة الهوانم المحترمات المهددة هي الأخرى بالانقراض.
الدكتورة بشير الجميلة في جاذبية نفرتيتي، وأنوثة كليوباترا، وقوة الملكة حتشبسوت (التي امتدت مملكتها المصرية من حدود تركيا حتى الصومال) وبفطنة ظهرت فى ابداعها في ماجستير عن ديناميكية الفنون السبعة في الف ليلة وليلة، ورسالة دكتوراه عن التحريف في الرسوم التشكيلية.
صحبة المصري الفصيح المسرحي علي سالم الصباحية على فنجان كابوتشينو وكروسانت (دفع ثمنهما بسخاء يناقض ثقافته الدمياطية)، والعشاء مع الدكتورة بشير وعميد الفنون التطبيقية الفنان المبدع الدكتور مصطفى كمال، منقذ التراث ومربي جيل الفنانين؛ والكابتن أحمد ناصر صاحب الميداليات العالمية ورئيس اللجنة الاوليمبية، كانت كلوحة مصرية في اصالتها الابداعية، مكوناتها كلمات الفلاح الفصيح، وفنون جمالية متوارثة من سبعة آلاف عام، وإنجازات ابطال الرياضة.
لوحة تقول ان المحروسة لا تزال بخير، بفضل صمود آخر الرجال المحترمين والهوانم المحترمات في خندقهم الحضاري الأخير
لم يكن قطار السادسة والدقيقة الأربعين مساء الأحد الماضي، (متأخرا 12 دقيقة) قد غادر سيدي جابر بعد، والحرارة الخارجية 98 فهرنهايت (حوالي 37 مئوية)، والتكييف معطل.
تحول مفتش القطار إلى كيس تدريب الملاكمين يمتص «البوكسات» الكلامية للركاب ونظراتهم الخنجرية الحادة في العربة «واحد» أولى تكييف وحرارتها الداخلية 108 فهرنهايتات.
المفتش، الذي استجاب لطلبي بفتح الجزء الأعلى (3 بوصات) من نافذتين للطوارئ سامحا بتحريك تيار هواء ملوث، نصح باستعادة فارق التكييف عند وصول باب الحديد، لتسجيل الواقعة، مؤكدا تقديمه تقريرا للمختصين، قبل وصول القطار للاسكندرية (أي قبل ثلاث ساعات)، بعدم صلاحية العربة لنقل الآدميين.
لم تعرف مصلحة السكة الحديد المصرية هذا «البوظان» أيام الانضباط والدقة والنظافة في «العهد البائد »، عندما كان فراش «السكوندو»- الدرجة الثانية وليست الاولى - باليونيفورم الأنيق والطربوش، يحضر كأس المياه المثلج فوق صينية فضية.
قطارات زمان بـ«الوابور البخاري» بمقابض ابوابها النحاسية اللامعة والمقاعد الجلدية، كانت أنظف من قطارات أوروبا اليوم، وذلك قبل «تحرير الثوار» لمصلحة السكة الحديد من المفتشين الانجليز، أي «قبل أن تخربها» في لغة الفلاح الفصيح.
تقرير مفتش القطار 928 بعدم صلاحية العربة «واحد» لنقل الآدميين، دفنه أفندي «غير آدمي» في مكتب يغطيه التراب، وعاد للنوم.
لو كان وكيل المحطة تسلم التقرير، في «العهد البائد» لكانت العربة واحد أغلقت بالشمع الأحمر؛ وأعيد توزيع ركابها على المقاعد المخصصة لركاب طنطا في عربات الدرجة الأولى الثلاث الأخرى.
الأفندي وكيل المحطة قبل «تحرير المصلحة» ـ وأراهن بكل ما أملك، انه كان محترم المظهر بقميص منشي الياقة وكرافت وبذلة في أناقة يوسف بك وهبي في فيلم أولاد الذوات؛ وبطربوش في فخامة طربوش الملك فاروق الأول، ملك مصر والسودان، دائم الابتسام للركاب يشعرهم اهتمامه براحتهم بسعادة من يشاهد رقصة لسامية جمال على انغام محمد عبد الوهاب.
الأفندي وكيل المحطة كان، بجدية يؤكدها شاربه المفتول المهذب تقليدا لشارب الملك فؤاد، سيرسل اشارة لزميله في طنطا الذي يماثله احتراما وأناقة وحسن تصرف، كبقية أفندية «العهد البائد»، ليخصص عربة إضافية لركاب طنطا.
ولكن، ويا فرحة التقدميين الثورجيين، ولي «العهد البائد»؛ وإذا لم يمت ركاب العربة واحد قطار رقم 928 «فطيس» بالهواء الملوث الحار، فليموتوا بغيظهم كما مات جيل الأفندية المحترمين بطرابيشهم النادرة.
هذا التسيب والبوظان والاستهتار بحقوق الناس ومشاعرهم، أسوقه للقارئ على سبيل المثال لا الحصر.
وكيف تحصر طوفان المنغصات ومسببات الغم والترحم على الزمن الجميل (العهد البائد) التي تضرب ذكرياتي بالشلوت تلو الشلوت، في كل زيارة للمحروسة؟
وتتضاعف الآلام الروحية المبرحة برؤيتي لما حل بشوارع ومعمار الاسكندرية، فلن تزيل الف عملية تجميل اثار القاء الثورجية «ماء نار» على وجه عروس البحر الأبيض.
أحد أجمل شوارع ذكريات طفولتي كان ممرا للهواء النقي وبهجة للعين بالأشجار الباسقة في فيلات عهد الخديوي اسماعيل، ممتدا من محطة ترام سيدي بشر، حتى بلاج ميامي الراقي. لم أتعرف على الشارع الذي شوهته ابراج معادية للجمال، تنافس مرتكبو جريمة بنائها على جوائز القبح وإتلاف البيئة و«عكننة الناس».
أما سائق التاكسي الرث الثياب الأكثر بهدلة من سيارته، فلم يعرف مكانه؛ فقد نزع اعداء الجمال والتراث اليافطة الزرقاء التي ابدعتها يد أسطى فنان خط اسم «شارع الأميرة فوزية» واستبدلوها بأخرى خضراء قبيحة تحمل اسم محارب أجنبي غريب عن تاريخ المصريين وتركيبة جيناتهم الوراثية وحضارتهم؛ ولم تطأ قدمه ارض مصر الطيبة، ولم يقدم أي خدمة لمصر، بعكس الأميرة فوزية المبهرة الجمال، التي نظمت العديد من الاعمال الخيرية لأطفال وطنها مصر.
اسم المحارب الغريب تبخر من ذاكرتي التي انهكتها كدمات رؤية طريق قبيح آخر، اكتشفت بصعوبة انه شارع ابوقير (اغتصب اسمه ايضا) الذي كان، بنخيله الأبيض الباسق ومعماره من القرن 19، يفوق افضل بوليفارد في اوروبا جمالا.
عرابو القبح أرادوا مسح أسرة محمد علي بإنجازاتها الحضارية، من ذاكرة الأمة المصرية؛ ولكن مهما بلغت اذهان العسكر من تلبد، هل عجزت عن تذكر اسم واحد من المصرين والمصريات عبر العصور؟
نفرتاري، وامحوتب وماتينوس من العهود القديمة، أو من رواد نهضة مصر الحديثة كأحمد لطفي السيد، وبطرس غالي باشا، ونبوية موسى، وحافظ ابراهيم، ومكرم عبيد؟
لكن يبدو ان الدور الوطني لأصحاب هذه الاسماء المتعمقة بجذورها في تربة القومية المصرية، اثارت ذعر القائمين على ادارة الفساد ومدبري مؤامرة طمس الهوية، خشية ان يذكر الاسم سكان الشارع وسائقو التاكسي بهويتهم القومية الفرعونية النيلة، فاختاروا اسم محارب اجنبي ليطمسوا يافطة الأميرة فوزية التي هجرت شاه ايران الراحل، اياما فقط بعد الزفاف، عندما اكتشفت بدائية بلاطه مقارنة بتحضر وطنها مصر.
هربت بدوري من الاسكندرية بعد تشويهها الى احدى الملاذات الحضارية الباقية: مسكن الفنان التشكيلي سالم صلاح، في الزمالك بسكانه من سلالة مثقفي مصر ومبدعيها المهددة بالانقراض، التي لا تزال تقاوم ببسالة غزوة القبح وهجمة افساد العقل التي تجتاح المحروسة بهمجية غير مسبوقة.
الجدران تغطيها لوحاته، وبعضها عرض في لندن في الرويال اكاديمي، التي امتزجت فيها ضربات فرشاته بدقات قلبه بعد غمسها في الوان حب مصر. مسكن صلاح ينقلك الى زمالك الخديوي اسماعيل بزمنه الجميل.
اشجار الزمالك يبدو انها ستموت واقفة، تقاوم ببسالة يد التخريب التي تقبح كل ما بقي من ابداع معماري واحد من الخنادق الأخيرة التي يحتمي في مقاهيها آخر الرجال المحترمين.
اللجوء الثقافي عند الفنان صلاح انعشني من غيبوبة ما حل بالإسكندرية، بحقنة جمال بصري بفضل ذوق وموهبة زوجته الفنانة الدكتورة وسام بشير؛ فرغم سنواتها الشابة، فهي حضاريا، من جيل أمي، من سلالة الهوانم المحترمات المهددة هي الأخرى بالانقراض.
الدكتورة بشير الجميلة في جاذبية نفرتيتي، وأنوثة كليوباترا، وقوة الملكة حتشبسوت (التي امتدت مملكتها المصرية من حدود تركيا حتى الصومال) وبفطنة ظهرت فى ابداعها في ماجستير عن ديناميكية الفنون السبعة في الف ليلة وليلة، ورسالة دكتوراه عن التحريف في الرسوم التشكيلية.
صحبة المصري الفصيح المسرحي علي سالم الصباحية على فنجان كابوتشينو وكروسانت (دفع ثمنهما بسخاء يناقض ثقافته الدمياطية)، والعشاء مع الدكتورة بشير وعميد الفنون التطبيقية الفنان المبدع الدكتور مصطفى كمال، منقذ التراث ومربي جيل الفنانين؛ والكابتن أحمد ناصر صاحب الميداليات العالمية ورئيس اللجنة الاوليمبية، كانت كلوحة مصرية في اصالتها الابداعية، مكوناتها كلمات الفلاح الفصيح، وفنون جمالية متوارثة من سبعة آلاف عام، وإنجازات ابطال الرياضة.
لوحة تقول ان المحروسة لا تزال بخير، بفضل صمود آخر الرجال المحترمين والهوانم المحترمات في خندقهم الحضاري الأخير
عادل درويش
الشرق الأوسط 11/8/2007
No comments:
Post a Comment