القاهرة (رويترز) - تشير أوراق الدكتور طه حسين ومراسلاته الى ما كان يتمتع به الرجل الذي لقب بعميد الادب العربي من مكانة وسط أبناء جيله في مصر والعالم العربي عموما اضافة الى ارائه الاجتماعية والسياسية وايمانه المطلق بالحرية.
ففي محاضرة ألقاها بكلية العلوم بجامعة القاهرة يوم 23 ديسمبر كانون الاول 1941 شدد على أن الحرية هي الاساس للدراسة العلمية وأنه لا يتصور التعليم الجامعي "الا أنه يقوم على الحرية في العلم والرأي والاختلاف الى الدرس" مشيرا الى أنه في بداية العام الدراسي يقول لتلاميذه انهم أحرار في أن يحضروا محاضراته أو يتخلفوا عنها.
وأضاف أن الاستاذ الجامعي حر في اختيار موضوع الدرس وأن الجامعة لا تمتاز الا بأنها لا تحب السكون والركود وأنه يشعر بالضيق اذا كلف طالبا ببحث ثم وجده صدى لبعض كتبه. وقال "لا أحترم الطالب الذي يحرص على أن يكون صورة طبق الاصل من الاستاذ... وأبغض ورقة تقدم الي هي التي تكون مطابقة لما قلته في الدروس."
ويغطي الجزء الثاني من (أوراق طه حسين ومراسلاته) الفترة بين عامي 1941 و1972 وصدر عن وحدة البحوث الوثائقية بدار الكتب المصرية ويقع في 484 صفحة من القطع الكبير وأشرف عليه وقدم له محمد صابر عرب وأحمد زكريا الشلق.
وكان الجزء الاول قد صدر عام 2005.
وسرد المشرفان في المقدمة الوظائف التي تولاها طه حسين منذ كان عميدا لكلية الاداب بجامعة القاهرة ثم انتقاله عام 1939 ليعمل مراقبا للثقافة بوزارة المعارف ثم كان أول مدير لجامعة الاسكندرية وانتهاء برئاسة مجمع اللغة العربية عام 1963.
ويحظى طه حسين (1889 - 1973) بمكانة مرموقة في الفكر العربي باعتباره نموذجا للمفكر الموسوعي الذي يؤمن بأن له دورا اجتماعيا يتجاوز حدود المنهج الدراسي وأسوار الجامعة فهو الذي أطلق صيحة "التعليم كالماء والهواء" حين كان وزيرا للمعارف (التعليم) في مصر (1950-1952).
وقال المشرفان على الكتاب ان طه حسين اتخذ سلسلة تشريعات "ذات طابع ديمقراطي راديكالي كان أهمها تقرير أهمية التعليم الابتدائي والثانوي والفني وقد أراد الوزير أن تمتد المجانية لتشمل التعليم الجامعي والعالي بصفة عامة لكن الملك فاروق تدخل وأوقف ذلك الاندفاع الحثيث نحو توفير التعليم العالي لابناء الشعب."
وكان طه حسين في مصيف بايطاليا حين قامت ثورة 23 يوليو تموز 1952 التي أنهت حكم فاروق دون اراقة قطرة دماء. وغادر الملك البلاد بعد ثلاثة أيام.
وقال المشرفان ان طه حسين حين سمع بما قام به ضباط الجيش من الاطاحة بالملك "هتف في انفعال.. انها ليست حركة جيش. انها ثورة... وكان أول من نعتها بهذا الاسم الذي صار علما عليها."
وتضمن الكتاب رسالتين ترجعان الى عام 1953 من اللواء محمد نجيب أول رئيس مصري بعد الثورة يخاطبه فيهما بالقول "حضرة الدكتور طه حسين" ويبلغه في الاولى بموافقة مجلس الوزراء على اختياره عضوا بلجنة التعليم وفي الثانية بتعيينه عضوا باللجنة التي ستضع مشروع الدستور الجديد.
وكان طه حسين أول من حصل على درجة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية عام 1914 قبل أن يذهب الى فرنسا وينال درجة الدكتوراه عام 1918 عن مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون من جامعة السوربون. ثم تولى تدريس التاريخ والادب بالجامعة المصرية منذ عام 1919 الى أن عين عميدا لكلية الاداب عام 1930.
وتعرض العميد للمساءلة في العشرينيات بعد نشر كتابه (في الشعر الجاهلي) حيث وجهت اليه -بسبب فقرات ناقش فيها الحقيقة التاريخية لبعض الانبياء- تهمة تمس عقيدته الدينية لكن النيابة حفظت التحقيق.
ومن كتبه (الايام) وهي سيرة ذاتية في ثلاثة أجزاء و(على هامش السيرة) و (المعذبون في الارض) و(الفتنة الكبرى) في جزءين هما (عثمان) و(علي وبنوه) و (قادة الفكر) و(من حديث الشعر والنثر) و(دعاء الكروان) و(مستقبل الثقافة في مصر).
وتكشف الرسائل نمط التخاطب بين المثقفين وكذلك ما كانت تمنحه الالقاب لصاحبها من صيغ محددة في التخاطب معه. فمحمد فريد أبو حديد يبدأ رسالته قائلا "سيدي الاستاذ الجليل" ثم يخاطبه في متن الرسالة " وليسمح لي سيدي ساحر الادباء" أما المؤرخ الامير عمر طوسون (1872-1944) حفيد محمد سعيد ابن محمد علي الملقب بمؤسس مصر الحديثة فيخاطبه في عدد من الرسائل قائلا "حضرة صاحب العزة الاستاذ الكبير الدكتور طه حسين بك" كما يخاطبه خليل مطران "حضرة صاحب السعادة" في رسالة تضمنت قصيدة في مدحه عام 1944 بمناسبة اهدائه "الوسام الذهبي اللبناني" كما أرسل اليه الشاعر اللبناني جورج جرداق عام 1948 رسالة عبارة عن قصيدة من نحو 70 بيتا "مهداة الى أديب الشرق العظيم طه حسين". ولا تقتصر الحفاوة بالعميد على الادباء وحدهم اذ يتضمن الكتاب رسالة من ديوان رئيس الجمهورية التونسية بتاريخ 16 سبتمبر أيلول 1957 يشير فيها الى أن "فخامة الرئيس (الحبيب بورقيبة) الذي استقبلكم في حفاوة الاخ لاخيه قد قام بواجبه نحوكم على الخدمات الفكرية الحميدة التي نالت تونس منها نصيبها بصفتها أمة عربية متحمسة الى اعتناق كل نهضة تظهر على أيدي الفكر العربي. وأن الشعب التونسي قد اعتبر اقامتكم بين ظهرانيه حلما لذيذا تحقق لكنه انتهى بسرعة وترك في نفسه أجمل الذكريات الخالدة التي نأمل أن تتجدد."
كما تلقي بعض الرسائل أضواء على تطور العلاقة العميد وبين كاتبيها.
وأبرز الامثلة هي رسائل الكاتب والناشر اللبناني سهيل ادريس عبر أكثر من عشر سنوات وتبدأ عام 1945 وهو في العشرين تقريبا حين أرسل الى العميد بصفته "المدير الثقافي بقسم النشر في دار الكاتب المصري" وسأل ان كان بالامكان نشر رواية ترجمها حديثا عن الفرنسية هي (مولن الكبير) لمؤلفها الان فورنيه وطلب أن يذكر على الغلاف أنها "مترجمة ببعض التصرف. أما اذا كنتم حريصين على دقة الترجمة والتقيد بالاصول تقيدا شديدا وكان ذلك من شروط النشر فأرجوكم أن تخبروني بذلك."
لكن الكتاب لا يتضمن رد العميد على ادريس الذي كان "بانتظار ورود جوابكم الكريم وبرفقته شروط النشر وموجباته وحقوقه".
والرسالة الثانية من ادريس ترجع لعام 1954 ويبلغه فيها بأن هيئة المحاضرات العامة في كلية المقاصد الاسلامية التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في بيروت نظمت سلسلة من المحاضرات شارك فيها الدكتور قسطنطين زريق من بيروت والانسة نازك الملائكة من العراق والدكتور أحمد السمان من سوريا. ثم يوجه اليه الدعوة بصفته "أمين سر الهيئة" لالقاء محاضرة أدبية في موضوع "لمن نكتب.. للنخبة أم للجمهور..".
وسيكون خطاب ادريس في رسائل لاحقة بادئا بالقول "سيدي الصديق الكبير الدكتور طه" كما في رسالة ترجع الى عام 1955 بعد أن أصبح ادريس صاحب مجلة (الاداب) وفيها يخبره بأن العدد الجديد من المجلة سيصدر بعد أسبوع "ويصلك بالطائرة فور صدوره... أيها الصديق الكبير... واسلم للادب العربي عميدا ورائدا."
وفي السابع من يونيو حزيران 1956 يحذف ادريس كلمة "سيدي" ويخاطب العميد قائلا "صديقي الاديب الكبير" ويرجوه أن ينفذ وعدا سابقا بأن ينقد أحد أعداد مجلة (الاداب) في باب شهري "وها أنذا أرجو اليكم أن تحققوا هذا الوعد بأن تتفضلوا بنقد العدد السابع من المجلة وهو يصدر في أواخر هذا الشهر وسيصلكم في أول فرصة ممكنة... ملاحظة.. تقدم المجلة لسيادتكم تعويضا رمزيا عن كتابة هذا المقال هو عشرة جنيهات مصرية."
في العام التالي سيحذف ادريس الذي أصبح ناشرا كلمة "صديقي" ويستبدل بها "أخي الاديب الكبير" ويطلب أن يوافيه العميد بكتاب لم يسبق نشره "وفي هذا التشجيع المطلوب لدار الاداب الناشئة التي تعتز بصداقة أديب كبير كالدكتور طه حسين."
من سعد القرش
No comments:
Post a Comment